التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
131 131 - حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ ". فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة. قال عبد الله: فاستحييت. فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هي النخلة". قال عبد الله فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا. [انظر: 61 - مسلم: 2811 - فتح: 1 \ 229]


حدثنا محمد بن سلام، أنا أبو معاوية، ثنا هشام، عن أبيه، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل [ ص: 663 ] على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأت الماء". فغطت أم سلمة -تعني وجهها- وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟ قال: "نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها".

حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من الشجر شجرة.. ". وذكر الحديث كما سلف.

أراد البخاري رحمه الله بهذا الباب بيان أن الحياء المانع من تحصيل العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، والحياء الواقع على وجه التوقير والإجلال مطلوب حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقد أسلفنا في باب أمور الإيمان حقيقة الحياء، وأن المذموم منه ليس بحياء حقيقة، وإنما هو عجز وخور.

وحديث أم سلمة سلف التعريف برواته خلا زينب بنت أم سلمة .

وأبوها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم كان اسمها برة فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب، ولدتها أمها بأرض الحبشة وقدمت بها، وهي أخت عمر وسلمة ودرة . روى لها البخاري حديثا، ومسلم آخر، وقتل لها يوم الحرة ابنان فاسترجعت، ماتت سنة ثلاث وسبعين.

[ ص: 664 ] ثم الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة، والأدب، وخلق آدم، كما (ستعلمه) إن شاء الله، وأخرجه مسلم والأربعة في الطهارة.

ثانيها:

معنى قولها: (إن الله لا يستحيي من الحق) أي: لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمنع من ذكره فتعتذر به، فعبر بالحياء عن الأمر به، من باب إطلاق اسم التعلق على المتعلق; لأن الله لا يوصف بالاستحياء على حد ما يوصف به المخلوق; لأنه منهم تغير وانكسار بتغير الأحوال، تعالى الله عن ذلك.

[ ص: 665 ] ثالثها:

قدمت أم سليم هذا القول بسطا لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء من ذكره.

رابعها:

معنى: "تربت" افتقرت . يقال: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا استغنى، هذا هو المشهور، وهذه الكلمة وشبهها تجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء، وعليه يحمل كل ما جاء من الأحاديث من هذا وشبهه.

ومنه قوله في حديث خزيمة : "أنعم صباحا تربت يداك" فأراد الدعاء له ولم يرد الدعاء عليه. والعرب تقول: لا أم لك، ولا أب لك، يريدون: لله درك، فتستعمل هذه الألفاظ عند الإنكار على الشيء أو التأنيب أو الإعجاب أو الاستعظام، دون إرادة معناها الأصلي.

خامسها:

أخرج مسلم -منفردا به- من حديث أنس أن أم سليم سألت ذلك بحضرة عائشة، وأن عائشة أنكرت ذلك عليها، فيحتمل كما قال القاضي أن عائشة وأم سلمة كانتا أنكرتا عليها، فأجاب - صلى الله عليه وسلم - كل واحدة بما أجاب، وإن كان أهل الحديث يقولون: إن الصحيح هنا أم سلمة لا عائشة .

[ ص: 666 ] سادسها:

إنما قالت أم سلمة ما قالت; لأنهن يستحيين منه; لأن خروجه منهن يدل على قوة شهوتهن، أو لأنه يقل فيهن، ولهذا جاء في "صحيح مسلم ": فضحت النساء، أي: كشفت من أسرارهن ما يكنه من الحاجة إلى الرجال، ورؤية الاحتلام.

سابعها:

الشبه، والشبه واحد يريد: شبه الابن لأحد أبويه كما جاء مبينا في "الصحيح": "إذا علا ماؤها ماءه; آنث -أي: أشبه أخواله- وإذا عكس أذكر"، أي: أشبه أعمامه.

ثامنها:

استدل به بعضهم على رد من يقول: إن ماء الرجل يخالط دم المرأة، وإن ماءه كالأنفحة ودمها كاللبن الحليب.

تاسعها:

أن المرأة تحتلم ويعرف منيها بالتدفق والتلذذ والرائحة -كمني الرجل- وأنكر جماعة تدفقه، والمسألة مبسوطة في الفروع، وأوضحتها في شروحي.

عاشرها:

أن الحياء لا يمنع من طلب الحق .

[ ص: 667 ] فائدة: جاء عن جماعة من الصحابيات أنهن سألن كسؤال أم سليم، منهن خولة بنت حكيم، أخرجه ابن ماجه وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وبسرة ذكره ابن أبي شيبة، وسهلة بنت سهيل رواه الطبراني في "الأوسط" وفي إسناده ابن لهيعة .

وأما حديث ابن عمر فسلف الكلام عليه في باب: قول المحدث: ثنا وأنبا.

وفيه: حرص الرجل على ظهور ابنه في العلم على من هو أكبر سنا منه، فإن في آخره ( قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا ).

[ ص: 668 ] وإنما تمنى ذلك رجاء أن يسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجابته، فيدعو له، وقد كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس وهو صغير مع شيوخ الصحابة.

وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عمر، فرأى ابن عباس قد نزع الناس بلسانه فقال: من هذا الذي نزل عن القوم في سنه ومدته وتقدمهم في قوله وحكمته.

وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل



وفيه: أن الابن العالم الموفق أفضل مكاسب الدنيا ; لقوله: ( لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا ).

التالي السابق


الخدمات العلمية