التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 85 ] 17 - باب: غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب 1536 - قال أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، أن صفوان بن يعلى أخبره، أن يعلى قال لعمر - رضي الله عنه -: أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه. قال فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه ، جاءه رجل فقال: يا رسول الله ، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به ، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: "أين الذي سأل عن العمرة؟ " فأتي برجل، فقال: "اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك". قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم. [1789، 1847، 4329، 4985- مسلم:1180 - فتح: 3 \ 393]


قال أبو عاصم، أنا ابن جريج، أخبرني عطاء، أن صفوان بن يعلى أخبره، أن يعلى قال لعمر - رضي الله عنه -: أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه. قال: فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة .. الحديث.

وفي آخره: قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم .

الشرح:

هذا الحديث أسنده البخاري في باب: يفعل في العمرة ما يفعل في الحج فقال: حدثنا أبو نعيم، ثنا همام، ثنا عطاء .

[ ص: 86 ] وفي أواخر الحج في باب: إذا أحرم جاهلا وعليه قميص، فقال: حدثنا أبو الوليد، ثنا همام ثنا عطاء، حدثني صفوان ، فذكره مختصرا، وزاد في آخره قصة عض اليد . وفي فضائل القرآن فقال: حدثنا أبو نعيم، ثنا همام ، وفي المغازي فقال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أنا عطاء . وأخرجه مسلم بألفاظ ، ولابن خزيمة: "ما كنت صانعا في حجتك ؟" فقال: كنت أنزع هذه الثياب وأغسله فقال: "فاصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجتك" .

وروي أيضا من طريق يعلى بن أمية أو صفوان بن يعلى بن أمية، ولم يقل: عن أبيه، نبه عليه ابن عساكر، وكان هذا بالجعرانة كما ثبت هنا، وفي غيره في منصرفه - عليه السلام - من غزوة حنين، وفي ذلك الموضع قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمها، وذلك سنة ثمان كما ذكره ابن حزم وغيره، وهما موضعان متقاربان، وهذا الرجل كان يعرف أمر الحج وظن أن العمرة ليست كهو; فلذلك سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأجابه، ولا يحال إلا على معلوم، والمراد من اجتناب المنهيات ، وإلا فقد أمره بنزع الجبة وغسل الطيب.

وهذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سواد ; إذ في كتاب "الشفا"

[ ص: 87 ] للقاضي عياض عنه قال: أتيت وأنا متخلق للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ورس ورس حط حط" وغشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني. الحديث .

لكن عمرو هذا لا يدرك ذا، فإنه صاحب ابن وهب وشيخ مسلم والنسائي وابن ماجه، وفي "صحيح ابن خزيمة" من حديث عمر بن عبد الله بن يعلى بن أمية الثقفي، عن أبيه، عن جده قال: شحبت يوما فقال لي صاحب لي: اذهب بنا إلى المنزل قال: فذهبت فاغتسلت وتخلقت ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح وجوهنا، فلما دنا مني جعل يجافي يده عن الخلوق، وقال: "يا يعلى ما حملك على هذا أتزوجت؟ " قلت: لا، قال: "اذهب فاغسله"

وفي البيهقي قال قتادة: فقلت لعطاء: كنا نسمع أنه قال: شقها، قال: هو إفساد، والله لا يحب الفساد . وفي أبي داود: فأمره أن ينزعها نزعا ، وله: فخلعها من رأسه .

وللنسائي: "ثم أحدث إحراما"، قال: ولا أحسبه بمحفوظ. يعني: هذه الزيادة .

[ ص: 88 ] وأغرب ابن حزم فصححه، وقال: الأخذ بهذه الزيادة واجبة .

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

اعترض الإسماعيلي فقال: شرط أبو عبد الله في الباب غسل الخلوق من الثياب، وليس في الخبر أن الخلوق كان على الثوب، وإنما الرجل متضمخ بطيب ، ولا يقال لمن طيب ثوبه أو صبغه بطيب أنه متضمخ بطيب، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام، هذا كلامه. وترده رواية مسلم: عليه جبة بها أثر من خلوق .

وللترمذي: جبة فيها ردع من زعفران ، وعادة البخاري أن يبوب لما في أطراف الحديث وإن لم يخرجه، والخلوق بفتح الخاء والخلاق واحد.

وقوله: ولا يقال لمن طيب ثوبه أو صبغه بطيب أنه متضمخ بطيب فيه نظر، فإن حرمة الثوب كالبدن، وترجم البخاري عليه أيضا: باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب ، واعترض عليه ، وأجاب ابن المنير بأن البخاري قصد التنبيه بأن القرآن والسنة كلها بوحي واحد ولسان واحد، ففي الأول ضمنها نزول الوحي مطلقا، وهذه خصها بالقرآن العظيم .

[ ص: 89 ] ثانيها:

حديث ابن عباس عند ابن أبي شيبة أنه - عليه السلام - رخص في الثوب المصبوغ للمحرم ما لم يكن (لعص) ولا ردع .

ولأبي داود أن امرأة جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب مشبع بعصفر فقالت: يا رسول الله، أحرم في هذا؟ قال: "لك غيره؟ " قالت: لا، قال: "فأحرمي فيه" فلا يعارضان حديث يعلى; لأن الأول واه بسبب الحجاج بن أرطاة، والثاني من مراسيل مكحول.

وحديث أبي جعفر: أحرم عقيل بن أبي طالب في ثوبين ورديين فقال له عمر: ما هذا؟ فقال له علي: إن أحدا لا يعلمنا بالسنة ، منقطع.

وصح عن جابر أنه قال: لا بأس بالمضرج للمحرم ، وفي لفظ: إذا لم يكن في الثوب المعصفر طيب فلا بأس به للمحرم أن يلبسه .

وعن القاسم بن محمد أنه كان يلبس الثياب الموردة وهو محرم، وعن عبد الله بن عبد الله قال: كان الفتيان يحرمون مع ابن عمر في الموردة فلا ينهاهم، وعن عمر بن محمد قال: رأيت على سالم ثوبا موردا، يعني: وهو محرم، وعن يزيد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لا بأس بالمورد للمحرم ، وقد يحمل ذلك على ما لا طيب [ ص: 90 ] به كما قاله جابر، وكذا قاله ابن عمر، وأنه لا ينفض كما قاله نافع بن جبير وغيره .

ثالثها:

الجعرانة بتشديد الراء على قول الأكثرين، قال البكري: كذا يقول العراقيون، والحجازيون يخففون، وكذلك الحديبية .

وقال الأصمعي والخطابي: مخففة وهي: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أدنى.

وقال ياقوت: هذه غير الجعرانة التي بأرض العراق، نزلها المسلمون لقتال الفرس، قاله سيف بن عمر . قال يوسف بن ماهك: اعتمر منها ثلاثمائة نبي.

رابعها:

يعلى هو: ابن أمية، ويعرف بابن منية، وهي أمه، وقيل: جدته. ونظره إلى مشاهدة الوحي تقوية لإيمانه، ولعلمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره ذلك.

والغطيط: صوت النائم فمعنى: يغط: ينفخ، كما قال في حديث آخر: له غطيط أو خطيط، فكان ربما أخذه عند الوحي كالغشية فيضطجع لها، قاله ابن التين.

وسري عنه -هو بضم أوله وكسر الراء المشددة - أي: كشف ما به وأزيل.

[ ص: 91 ] خامسها:

فيه أنه - عليه السلام - كان يحكم بالوحي ولا شك فيه، واستدل به من قال: إنما يحكم بالوحي لا بالاجتهاد، وقد يجاب بأنه لعله لم يظهر له ذلك بالاجتهاد، أو أن الوحي يقرره.

سادسها:

اختلف العلماء في استعمال الطيب عند الإحرام واستدامته بعده، فكرهه قوم ومنعوه منهم: مالك ومحمد بن الحسن ، وسبقهما عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن أبي العاص وعطاء والزهري .

وخالفهم في ذلك آخرون فأجازوه منهم: أبو حنيفة والشافعي ; تمسكا بحديث عائشة: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت وسيأتي . ولمسلم: بذريرة في حجة الوداع . وللبخاري كما سيأتي: وطيبته بمنى قبل أن يفيض . وعنها: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، وسيأتي .

[ ص: 92 ] والوبيص -بالصاد المهملة- البريق واللمعان، قالا: وحديث يعلى إنما أمره بغسل ما عليه; لأن ذلك الطيب كان زعفرانا، وقد نهي الرجال عن التزعفر مطلقا، وهذا التأويل يأباه مساق الحديث، وتأول المخالفون حديث عائشة بتأويلات أقربها: إن ذلك الوبيص الذي أبصرته، إنما كان بقايا دهن ذلك الطيب تعذر قلعه فبقي بعد أن غسل، والتقدير: فيطوف على نسائه فينضح طيبا، ثم يصبح محرما لقوله: أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [الكهف: 1 - 2 ] أي أنزله قيما ولم يجعل له عوجا.

ثانيها: إن ذلك كان من خواصه; لأن المحرم إنما يمنع من الطيب; لئلا يدعوه إلى الجماع، والشارع معصوم، وفيه بعد.

ثالثها: أنه مما لا تبقى رائحته بعد الإحرام ، وسيأتي بسط ذلك في الباب بعده، قالوا: وكما منع من استدامة اللبس يمنع من استدامة الطيب، قالوا: والنهي عن التزعفر إنما هو محمول عند أهل المدينة على حالة الإحرام فقط، وأنه مباح في الإحلال، وسيأتي إيضاحه في اللباس عند النهي عن التزعفر إن شاء الله تعالى. قال ابن جريج بشأن صاحب الجبة: كان قبل حجة الوداع، والآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع .

سابعها:

قوله: "ثلاث مرات"، وفي أبي داود: "يغتسل مرتين أو ثلاثا" إنما [ ص: 93 ] أمره بها للمبالغة في الإزالة، ولعل الطيب الذي كان عليه كان كثيرا; يؤيده قوله: (متضمخ).

قال ابن التين: ويحتمل أنه كان استعمله بعد الإحرام فأمره بإزالته، أو أنه تطيب ثم اغتسل كما في حديث عائشة السالف: طيبته عند إحرامه، ثم دار على نسائه، ثم أصبح محرما. فظاهره إنما تطيب لمباشرة ثم زال بالغسل ، لاسيما وكان يغتسل من كل واحدة فلا يبقى مع ذلك، ويكون قولها: ثم أصبح ينضخ طيبا، أي: قبل غسله، وقد أسلفنا أنه كان ذريرة، وهو مما يذهبه الغسل، ووبيص الطيب: أثره لا جرمه. وقال القاضي: يحتمل الثلاث على قوله: "فاغسله" فكأنه قال: اغسله اغسله اغسله، يدل على صحته ما روي من عادته - صلى الله عليه وسلم - في كلامه أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا .

ثامنها:

ما أسلفناه عن قتادة عن عطاء في عدم شقها قاله أيضا طاوس، خالفه محمد بن جعفر عن علي: إذا أحرم وعليه قميص لا ينزعه من رأسه، يشقه ثم يخرج منه. وقال الشعبي والحسن وإبراهيم: يخرقه.

وقال أبو قلابة وأبو صالح وسالم: (يخلعه) من قبل رجليه ، والأول أولى لما سلف من أن الله لا يحب الفساد.

[ ص: 94 ] تاسعها:

لم يأمره - عليه السلام - في هذا الحديث بالفدية، فأخذ به الشافعي وعطاء والثوري وإسحاق وداود وأحمد في إحدى روايتيه وقالوا: إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلا فلا فدية عليه، والناسي في معناه .

وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه: يلزمه إذا غطى وجهه ورأسه متعمدا أو ناسيا يوما إلى الليل، فإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها .

وعن مالك: يلزمه إذا انتفع بذلك أو طال لبسه عليه، قال فيمن ابتاع خفين فجر بهما في رجليه: فإن كان شيئا خفيفا فلا شيء عليه، وإن تركها حتى منعه ذلك من حر، أو برد، أو مطر افتدى . لنا أن هذا الرجل كان قريب العهد بالإسلام لا يعرف أحكامه ، فعذره الشارع ولم يلزمه غرامة.

عاشرها: قوله- "واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك" معناه: اجتنب فيها كل ما تجتنب فيها كما أسلفناه، ألا ترى قول ابن عمر: ما أمرهما إلا واحد يعني: في الإحرام والحرمة، وكذلك كل ما يستحسن من الدعاء والتلبية في الحج فهو مستحسن بها.

وقوله في آخر الحديث: (قلت لعطاء: أراد الإنقاء؟ قال: نعم).

قال ابن التين: أراد به بعض الإنقاء; لأن الثلاث لا تكاد تنقي كل [ ص: 95 ] الإنقاء، قال المهلب: وفيه من الفقه أن السنن قد تكون بوحي، كما كان غسل الطيب في هذا الحديث بالوحي. قال ابن بطال: ولم يقل أحد إنه فرض .

وفيه: وجوب التثبت للعالم فيما يسأل عنه، وإن لم يعرفه سأل من فوقه، كما فعل - عليه السلام -.

وفيه: المبالغة في الإنقاء من الطيب.

وفيه: أن غسل الطيب عند الإحرام ينبغي أن يبالغ في إزالته، ألا ترى أنه أمره بغسله ثلاثا؟

التالي السابق


الخدمات العلمية