التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1494 1569 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حجاج بن محمد الأعور، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا [انظر: 1563- مسلم: 1223 - فتح: 3 \ 423]


ذكر فيه تسعة أحاديث:

أحدها:

حديث الأسود، عن عائشة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل .. الحديث.

وقوله في الترجمة: (والإقران) كذا في الأصول، وفي بعض النسخ: (والقران). قال ابن التين: والإقران غير ظاهر; لأن فعله ثلاثي، وصوابه: القران، وهو مصدر من قرن بين الحج والعمرة: إذا جمع بينهما بنية واحدة وتلبية واحدة، وهو قارن، ومضارعه بكسر الراء، وسيأتي في البيوع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإقران في التمر . وفي "المحكم" و"الصحاح" في المضارع ضم الراء ، وفي "المشارق": لا يقال: أقرن، وكذا في قران التمر . والتمتع هو أن يحرم الآفاقي [ ص: 226 ] بالعمرة، ويفرغ من أعمالها ثم ينشئ حجا من مكة. قال ابن سيده: المتعة -بضم الميم وكسرها-: العمرة إلى الحج، وقد تمتع واستمتع .

وقال القزاز: المتعة، وفسرها كما ذكرناه أولا، وهو معنى الآية، قال: والتمتع أيضا: أن يضم الرجل عمرة إلى حجة، ومعنى (إلى) هنا بمعنى: (مع). وقال عياض: هي جمع غير المكي بينهما في أشهر الحج في سفر واحد . وقال ابن الأثير: هي الترفق بأداء النسكين على وجه الصحة في سفرة واحدة من غير أن يلم بأهله إلماما صحيحا، سمي بذلك لسقوط أحد السفرين عنه; ولهذا لم يتحقق من المكي؛ إذ ليس من سائر الإحرام من الميقات ولا السفر. وقيل: سمي تمتعا; لأنهم يتمتعون بالنساء والطيب بين الحج والعمرة، قاله عطاء وآخرون وهو جائز، إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع ، وقيل: كان نهي تنزيه، وقيل: إنما نهيا عن فسخ الحج إلى العمرة; لأن ذلك كان خاصا بالصحابة، وكذا كان معتقد الصحابة أنه خاص بهم في تلك السنة، وذهب أحمد إلى جواز فسخ الحج إلى العمرة .

وقال ابن حزم: كل من أحرم مفردا أو قارنا ولم يسق الهدي حل بعمرة شاء أو أبى .

[ ص: 227 ] والإفراد: أن يحرم بالحج وحده ثم يفرغ من أعماله، ثم يحرم بالعمرة، ثم يفرغ منها. وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي أن يدخل العمرة على الحج كما ستعلمه.

وقولها: (لا نرى إلا الحج): ضبط بفتح النون، وضمها، حكاه ابن التين. وقال القرطبي: أي نظن، وكان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإحرام وأنواعه ، وقيل: يحتمل أن ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها: (لا نرى) حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون إلا الحج، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره. وزعم عياض أنها كانت أحرمت بالحج ثم بالعمرة ثم بالحج ، ويدل على أن المراد بقولها: (لا نرى إلا الحج)، عن فعل غيرها.

وقولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت): تعني بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس غيرها; لأنها لم تطف بالبيت ذلك الوقت; لأجل حيضها.

قال أبو عبد الملك: قولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي من لم يكن ساق الهدي). معناه: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسرف من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فتطوفنا. وظاهر الحديث خلافه؛ فإن العطف بالفاء يقتضي التعقيب، فثبت أن الأمر كان بعد الطواف، وقيل: معناه: أمر المعتمر أن يحل من عمرته، ومن معه هدي أحرم بحج، فكذلك لم يحل من حجه. وسيأتي في رواية: (فأما من أهل بعمرة فقد حل).

[ ص: 228 ] وقيل: يحتمل أن يريد: من ظن أنه سيؤمر أن يردف الحج على العمرة، ولا يحل حتى يحل منهما جميعا، أمر من لم يكن معه هدي من هذا الصنف من الناس أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج، فيكون متمتعا، وخص بمن لا هدي معه; لأن من معه هدي مقلد لينحر بمنى في حجة لا يحل حتى ينحر للآية، فمن معه هدي بقي على إحرامه، وأردف الحج عليها; لئلا يحل قبل بلوغ الهدي محله. وقيل: يحتمل أنه لما أمر بالقران من معه هدي، أمر نساءه أن يهللن بعمرة، وأن يحللن منها، وأخبر أنه لو لم يسق الهدي لحل; فدل هذا أنه أراد التيسير على أمته. وفي قولها: (لا نرى إلا الحج) تضعيف قول من قال: إنه أحرم إحراما مطلقا ينتظر ما يؤمر به.

وقولها: (وقالت صفية: ما أراني إلا حابستكم). أي: حتى أطهر من حيضتي وأطوف طواف الوداع; لأنها قد كانت طافت طواف الإفاضة المفترض وهي طاهر، قال مالك: والمرأة إذا حاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها، فإنه قد بلغنا في ذلك رخصة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحائض ، يعني حديث صفية. وسيأتي مذاهب العلماء فيمن ترك طواف الوداع في باب: إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت.

وقوله: ("عقرى حلقى"): معناه: عقرها الله وأصابها في حلقها الوجع، وهذا مما جرى على ألسنتهم من غير قصد له. وقال الأصمعي: يقال ذلك للأمر يعجب منه. وقيل: معناه: مشؤومة مؤذية . وقيل: دعاء عليها. أي: تصير عاقرا. ويقال: امرأة حالق إذا [ ص: 229 ] حلقت قومها بشؤمها. وقال الأصمعي: العرب تقول في الدعاء على الإنسان: أصبحت أمه حالقا. أي: ثاكلا. وقال الداودي: يريد: أنت طويلة اللسان لما كلمته بما يكره، وهو مأخوذ من الحلق الذي يخرج منه الكلام.

وعقرى من العقر: وهو الصوت، ومنه: رفع عقيرته، ويروى على وزن فعل، وقياسه عقرى حلقى، كما يقال: تعسا نكسا، وروي بالتنوين فيهما كما قاله القزاز جعلوهما مصدرين أي: عقرك الله عقرا، وحلقك حلقا كما يحلق الشعر، وقال ابن ولاد: هو دعاء على الرجل بحلق الرأس، يعني: حلقا ، قال: ولا ننونه; لأن ألفه للتأنيث. وقد بوب لها البخاري بابا في الأدب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقوله: ("أوما طفت يوم النحر؟ " قالت: قلت: بلى، قال: "لا بأس انفري") فيه: دلالة على أنها تقيم لطواف الإفاضة، ويحبس لها الولي والكري.

وفيه: دلالة على وجوبه، وأن طواف الوداع ليس بركن؛ لأن المكث لا يلزم لأجله، وسيأتي عن ابن عمر، وزيد بعد هذا: تمكث. ورجع ابن عمر عن ذلك.

وقولها: (فلقيني النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها)، إنما حكت الأمر على وجهه، وشك المحدث أي الكلمتين قالت، وإنما لقيها وهو يريد المحصب، وهي [ ص: 230 ] تهبط إلى مكة، والمصعد في اللغة: المبتدئ في السير، والصاعد: الراقي إلى الأعلى من أسفل .

وقد أسلفنا الخلاف في كيفية إحرامه - عليه السلام - في باب الإهلال مستقبل القبلة، واختلاف العلماء في الأفضل، ومذهب الإمام أحمد اختيار التمتع، قال ابن قدامة: وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد وسالم والقاسم وعكرمة، وهو أحد قولي الشافعي، واستدل لهم بما رواه ابن عباس وجابر وأبو موسى وعائشة في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه لما طافوا أن يحلوا ويجعلوها عمرة، فنقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع، قال: ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل .

قلت: في "صحيح ابن حبان": "من شاء أن يجعلها عمرة" على وجه التخيير، ثم قال: ولم يختلف أنه - عليه السلام - قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة" وذلك دليل فضل التمتع، وهو منصوص في الكتاب العزيز بقوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [البقرة:196]، دون سائر الأنساك .

قلت: ما ذكره عن الحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وابن عباس حكاه ابن حزم عنهم في الوجوب لا الاختيار، ثم قال: وقال عبيد الله ابن الحسن وأحمد بن حنبل: بإباحة فسخ الحج لا بإيجابه، [ ص: 231 ] ومنع منه أبو حنيفة ومالك والشافعي .

وقال أبو عمر: ما أعرف من الصحابة من يجيز الفسخ ويأمر به، إلا ابن عباس. وتابعه أحمد وداود، وأما سائر الفقهاء فعلى أن فسخ الحج إلى العمرة خص به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله: ولأن التمتع منصوص في القرآن بقوله: فمن تمتع بالعمرة ليس هو التمتع الذي ذكره، والذي فسره به ابن عمر فيما رواه مالك، عن عبد الله بن دينار عنه هو: من اعتمر في أشهر الحج: شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الحج، ثم أقام بمكة حتى أدركه الحج ، فهو متمتع إن حج وعليه ما استيسر من الهدي فمن لم يجد الآية.

قال أبو عمر: ما ذكره مالك عن ابن عمر لا خلاف بين العلماء أنه التمتع المراد بالآية ، ثم قال ابن قدامة: ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه السهولة مع زيادة نسك .

قلت: الإفراد مثله مع زيادة أن لا دم عليه بخلافه، ثم قال: وأما القران فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وحده، وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القران، ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا، فكان أولى .

[ ص: 232 ] قلت: يعارض بالإفراد كما أسلفناه، ثم قال: واختيارنا قول، واختيار غيرنا فعل، وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه دون غيره .

قلت: القول ما دل لمصلحة سلفت، ثم قال: فإن قيل: فقد قال أبو ذر في "صحيح مسلم": كانت متعة الحج لأصحاب محمد خاصة ، قلنا: هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع، وقول من هو خير منه، أما الكتاب فقوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [البقرة: 196] وهذا عام، وأجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار، وإنما اختلفوا في فضله، وأما السنة فحديث سراقة: المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ قال: "بل هي للأبد" وحديث جابر في مسلم في صفة الحج نحو هذا ، ومعناه، [أن] أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع، ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فبين الشارع أن الله قد شرعها في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة ، رواه سعيد بن منصور من قول طاوس، وزاد فيه: فلما كان الإسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة.

قلت: كأنه أشار إلى تفرد أبي ذر بذلك، وليس كذلك، بل توبع عليه في حديث مرفوع صحيح أخرجه أبو داود من حديث الدراوردي، عن [ ص: 233 ] ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه بلال بن الحارث قلت: يا رسول الله، فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل لنا خاصة" إسناده صحيح .

وقد صحح الحاكم حديثه في المعادن القبلية بهذا الإسناد ، وضعف أحمد حديث الحارث بن بلال، وقال: هو ليس بمعروف، ولم يرو عنه عمر بن ربيعة . والأحاديث الصحاح لا ترد بمثل هذا، وقد تقدمت.

وفي كتاب "الصحابة" لابن البرقي: أخبرنا ابن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر، ثنا كثير بن عبد الله المزني، عن بكير بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن هلال صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخ بعمرة. هذا إسناد حسن على شرط الترمذي في تحسينه حديث كثير .

وعند البزار: حدثنا عمر بن الخطاب، ثنا الفريابي، ثنا أبان بن أبي حازم، حدثني أبو بكر بن حفص، عن ابن عمر أنه قال: يا أيها الناس، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا. وقال: هذا [ ص: 234 ] الحديث لا نعلم له إسنادا عن عمر أحسن من هذا الإسناد .

قلت: قد يقال إن هذه متعة النكاح. وفي "الاستذكار" قال عثمان بن عفان: متعة الحج كانت لنا. قال أبو عمر: يعني أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عام حجة الوداع بفسخ الحج . قال أبو عمر: وقاله أيضا ابن عباس. يعني: كقول عثمان.

ثم ما عزاه إلى "سنن سعيد بن منصور" من قوله: "فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة" هو في مسلم من حديث ابن عباس (د. س) وجابر الطويل ، وإن كان أبو داود قال في حديث ابن عباس: منكر، إنما هو من قول ابن عباس ، فإن فيه نظرا. ولابن ماجه من حديث سراقة ، ثم قال ابن قدامة: وقد خالف أبا ذر علي وسعد وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين، وسائر الصحابة، وسائر المسلمين. قال عمران: تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل فيه القرآن، فلم ينهنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينسخها شيء قال فيها رجل برأيه ما شاء. أخرجاه . وقال سعد بن أبي وقاص: فعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يعني المتعة- وهذا -يعني الذي نهى عنها- يومئذ [ ص: 235 ] كافر بالعرش. يعني بيوت مكة . أخرجه مسلم . أي: مقيم في بيوت مكة، يقال: أكفر الرجل إذا لازم الكفور، وهي القرى، وإنما أوله بذلك; لأنه كان إذ ذاك مسلما، وكاتبا للوحي، وحمله عياض وغيره على عمرة القضاء ، والصواب الأول، وهو ما أوله المازري وغيره. ثم قال: فإن قيل: فقد روى أبو داود عن سعيد بن المسيب أن رجلا من الصحابة أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن [المتعة] قبل الحج ، قلنا: هذه حالة مخالفة للكتاب والسنة والإجماع كحديث أبي ذر، بل هو أدنى حالا منه، فإن في إسناده مقالا، ثم قال: فإن قيل: فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية .

قلنا: قد أنكر عليهم علماء الصحابة، وخالفوهم في فعلها، والحق مع المنكرين عليهم دونهم، وقد سبق إنكار علي على عثمان، واعتراف عثمان له، وقول سعد وردهم عليهم بحجج لم يكن عنها جواب. قال عمر: إني لأنهاكم عنها، وإنها لفي كتاب الله، وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وسئل سالم: أنهى عمر عن المتعة؟ قال: لا والله ما نهى عنها عمر، ولكن نهى عنها عثمان. وسئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل: إنك تخالف أباك. فقال: إن عمر لم يقل [ ص: 236 ] الذي يقولون . هذا آخر كلامه، وما ذكره عن عمر فيه نظر، كيف ينهى عنها وهي في كتاب الله، وكان وقافا عنده وعند السنة؟ وما حكاه عن سالم -إن كان صحيحا عنه- فهو رد لما ذكره عن عمر، وكذا لما ذكره عن أبيه، وقد قال ابن حزم: إن عمر رجع عن ذلك. يؤيده ما رواه الترمذي محسنا عن ابن عباس: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية . وفي "سنن الكجي" من حديث ليث عن طاوس: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، وأبو بكر حتى مات، وعمر حتى مات. فدل أن ما ورد عن عمر وعثمان في هذا محمول على غير متعة الحج.

قال ابن حزم: أما حديث نهي عمر، فإنما هو في متعة النساء بلا شك; لأنه صح عنه الرجوع إلى القول بهما في الحج . وقال أبو عمر: إنما نهى عمر عند أكثر العلماء عن فسخ الحج في العمرة، هذه هي التي نهى عنها . وقوله: في إسناده مقال. ليس كذلك، وتبع فيه الخطابي ، فإن رجاله كلهم ثقات، وأبو عيسى الخراساني اسمه سليمان بن كيسان، وثقه ابن حبان وابن خلفون، وعبد الله بن القاسم وثقاه، فصيح قارئ .

[ ص: 237 ] وقوله: (رجلا من الصحابة): لا تضر جهالته، وادعى المنذري أن سعيد بن المسيب لم يصح سماعه من عمر ، وليس كذلك، فقد صح سماعه منه، يعني النعمان ، وهذا الحديث لم يروه عنه إنما رواه بواسطة، ثم إنه اقتصر على أحاديث الفسخ على حديث أبي موسى وابن عباس وجابر وعائشة، وترك ما ذكره خطاب بن بشر الوراق في كتاب "المسائل عن أحمد" أنه قال: روى عشرة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بفسخ الحج. قال أحمد: والخبر الذي روي أنه كان لهم خاصة ليس بالصحيح، وهذه أخبار صحاح. وفي أبي داود من حديث فاطمة -ورآها علي قد لبست ثيابا صبيغا-: مالك؟ قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه فأحلوا. رواه أبو داود ، وصححه ابن حزم ، وأخرج الشيخان عن ابن عمر: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج. وفيه: قال للناس لما قدم مكة: "من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليحلل" ولهما عن حفصة: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت؟ الحديث .

[ ص: 238 ] ولأبي داود على شرط مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه: قال سراقة: يا رسول الله، اقض لنا قضاء، وفيه: فقال: "إن الله -عز وجل- قد أدخل عليكم في حجكم عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل، إلا من كان معه هدي" ولمسلم عن أسماء قالت: خرجنا محرمين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من لم يكن معه هدي فليحلل". الحديث ، وله أيضا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة .

ولابن ماجه بإسناد على شرط الشيخين من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: "اجعلوا حجكم عمرة" قال الترمذي: سألت البخاري عنه فكأنه لم يعده محفوظا، والصحيح عن أبي إسحاق عن سعيد (بن ذي حدان) عن سهل بن حنيف ، وذكره ابن حزم من حديث معقل بن يسار، وسلف حديث سراقة، وحديث أنس وعلي السالف. قال [ ص: 239 ] أبو محمد بن حزم: خمسة عشر صحابيا رووه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوكد أمر، ورواه عنهم نيف وعشرون من التابعين، ورواه عن هؤلاء من لا يحصيه إلا الله تعالى، فلم يسع أحد الخروج عن هذا ، وما ذكره عن عمران بن حصين، وقال في آخره: أخرجاه، يحتاج إلى تثبت; فإن لفظ مسلم عن مطرف بن عبد الله: قال عمران: أحدثك بحديث عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنها حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه . وفي لفظ: قال فيها رجل برأيه ما شاء .

وللبخاري: تمتعنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء . وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي الضحى قال: سألت علقمة عن المتعة في الحج، فقال: ما شعرت أن أحدا يفعلها. ومن حديث ابن سيرين أنه كان لا يرى المتعة قبل الحج، ويقول: ابتدأ بالحج واعتمر.

ومن حديث هشام عن أبيه أنه قال: إنما المتعة للمحصر، وتلا قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع الآية [البقرة: 196]، وكذا ذكره أبو عمر عن ابن الزبير ، قال أبو عمر: ومن معنى التمتع أيضا القران عند جماعة العلماء، والتمتع والقران يتفقان في سقوط سفره الثاني من [ ص: 240 ] بلده، كما صنع المتمتع بحله من عمرة إذا حج من عامه، وكذلك يتفقان عند أكثر العلماء في الهدي لمن لم يجد هديا .

وقال ابن العربي في "مسالكه": التمتع على أربعة أوجه: المعروف عند عامة العلماء، وهو ما رواه مالك عن ابن دينار، والقران عند جماعة من العلماء، وفسخ الحج إلى العمرة، وجمهور العلماء يكرهونه، وما ذهب إليه ابن الزبير وهو المحصر.

وقال المهلب: أشكلت الأحاديث على الأئمة، وصعب تخليصها، ونفي التعارض عنها، وكل ركب في توجيهها غير مذهب صاحبه، واختلفوا في الإفراد والتمتع والقران أيها أفضل؟ وفي الذي كان به النبي - صلى الله عليه وسلم - محرما من ذلك؟ فذهبت طائفة إلى أن إفراد الحج أفضل، هذا قول مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن، وهو أحد أقوال الشافعي، وبه قال أبو ثور ، وممن روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج جابر وابن عباس وعائشة، وبهذا عمل الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة وابن مسعود بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقال أبو حنيفة والثوري: القران أفضل، وبه عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واحتجوا بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استوت به راحلته على البيداء أهل بحج وعمرة ، وهو مذهب علي وطائفة من أهل الحديث، وأجازه الطبري. وقال أحمد بن حنبل: لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان [ ص: 241 ] قارنا، قال: والتمتع أحب إلي ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة" وقال آخرون: التمتع أفضل. وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وهو أحد أقوال الشافعي، وإليه ذهب أحمد ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع في حجة الوداع . وبقول حفصة: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك ؟

قال ابن بطال: وأما ما جاء من اختلاف ألفاظ حديث عائشة مما يوهم القران والتمتع، فليس ذلك بموهن للإفراد; لأن رواة حديث الحج عنها الأسود وعمرة والقاسم وعروة، فأما الأسود وعمرة فقالا عنها: خرجنا لا نرى إلا الحج. وقال أبو نعيم في حديثه: مهلين بالحج. وقال القاسم عنها: خرجنا في أشهر الحج، وليالي الحج، وحرم الحج. وفي رواية "الموطإ" عن القاسم، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج . وكذلك صرح عروة عنها أنه أفرده، ويشهد لصحة روايتها بالإفراد أن جابرا وابن عباس روياه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجب رد ما خالف الإفراد من حديث عائشة، إلى معنى الإفراد; لتواتر الرواية به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

[ ص: 242 ] قال الطحاوي: وروى مالك وجماعات عددهم عنها أن إحرامها كان بحجة. زاد حماد وغيره عن مالك: فأمرهم لما قدموا مكة أن يجعلوها عمرة. وكذلك في رواية عمرة والأسود موافقة القاسم عن عائشة بالإفراد.

وقولها: (لا نرى إلا الحج). إنما هو على معنى لا نعرف إلا الحج; لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره.

قال: والأشبه عندي أن يكون إحرامه كان بالحج خاصة، لا بهما; لأنه قد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ولا يجوز أن يكون أمرهم بذلك وهم في حرمة عمرة أخرى; لأنهم يرجعون بذلك إلى أن يصيروا في حرمة عمرتين، وقد أجمع المسلمون على المنع من ذلك، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما لم يكن مخصوصا به، وما لم يفسخ بعد فعله إياه. قال المهلب: وقد أشكل حديث عائشة على أئمة الفتوى، فمنهم من أوقف الاضطراب فيه عليها، ومنهم من جعل ذلك من قبل ضبط الرواة عنها، ومعناه يصح -إن شاء الله- بترتيبه على مواطنه، ووقت إخبارها عنه في المواضع التي ابتدأ الإحرام منها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر من لم يسق الهدي بالفسخ، فأما حديث الأسود عن عائشة فإنها ذكرت فيه البدأة، وأنها أهلت بحجة مفردة بذي الحليفة، وأهل الناس كذلك، ثم لما دنوا من مكة أمر من لم يكن ساق الهدي أن يجعلها عمرة، إذ أوحى الله إليه بتجويز الاعتمار في أشهر الحج، فسحة منه تعالى لهذه الأمة، ورحمة لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، وأمر من لم يكن معه هدي بالإحلال بعمرة; ليري أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله تعالى [ ص: 243 ] عليهم عيانا وعملا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث عروة عن عائشة ذكرت أنهم كانوا في إهلالهم على ضروب: من مهل بحج، بعمرة، بهما، فأخبرت عما آل أمر المحرمين، واختصرت ما أهلوا به في ابتداء إحرامهم، ولم تأت بالحديث على تمامه كما جاء في حديث عمرة عنها، فإنها ذكرت إحرامهم في الموطنين، ولذلك قال القاسم: أتتك بالحديث على وجهه، يريد أنها ذكرت الابتداء بالإحرام والانتهاء إلى مكة، وأول حدودها سرف، وما أمر به من الفسخ بعمرة.

قال الطحاوي: ودل حديث عروة أنهم عرفوا العمرة في أشهر الحج بما عرفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم به بعد قدومه مكة.

واحتج من قال بالإفراد، بقول مالك: إذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان مختلفان، وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحدهما وتركا الآخر، فإن في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به . وقال الزهري: بلغنا أن عمر قال في قوله: وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة: 196]، أنه قال: من تمامها أن تفرد كل واحدة من الأخرى. وقال ابن حبيب: أخبرني ابن الماجشون قال: حدثني الثقات من علماء المدينة وغيرهم، أن أول ما أقيم للناس الحج سنة ثمان، مرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حنين، فاستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مكة عتاب بن أسيد، وأفرد الحج، ثم حج أبو بكر بالناس سنة تسع فأفرد، ثم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستخلف أبو بكر، فأفرد الحج خلافته سنتين، ثم ولي عمر، فلم يشك أحد أن عمر أفرده عشر سنين، وولي عثمان فأفرده اثنتى عشرة سنة .

[ ص: 244 ] قال: وحدثني ابن أبي حازم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن عليا أفرد الحج، وأفرد ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن، إلا عاما واحدا. وأفردت عائشة كل عام حتى توفيت. قال: فعلمنا أن الإفراد هو الذي فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاليقين; لأنا نعلم بفعل أصحابه بعده -وهم بطانته- أنهم لا يتركون ما فعل. وهكذا قال المدنيون والمصريون من أصحاب مالك. وأما نهي عثمان عن المتعة والقران، وإهلال علي بهما، فإن عثمان اختار ما أخذ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه، وما أخذ به أبو بكر وعمر، ورأى أن الإفراد عنده أفضل من القران والتمتع.

والقران عند جماعة من العلماء في معنى التمتع; لاتفاقهما في المعنى، وذلك أن القارن يتمتع بسقوط سفره الثاني من بلده، كما يصنع المتمتع، وكذلك يتفقان في الهدي والصوم لمن لم يجد هديا عند أكثر العلماء. قال المهلب: وأما قول من اختار القران; لأنه الذي فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يفسر من وجهين:

أحدهما: توهين قول أنس فيما رواه عنه مروان الأصفر أنه - عليه السلام - قال لعلي: "لولا أن معي الهدي لأحللت" فبان بهذا أنه - عليه السلام - لم يكن قارنا; لأن القارن لا يجوز له الإحلال، كان معه هدي أو لم يكن، وهذا إجماع.

ثانيهما: أن التمتع والقران رخصتان، والإفراد أصل، ومحال أن تكون الرخصة أفضل من الأصل; لأن الدم الذي يدخل في التمتع والقران جبران، وهو يجب لإسقاط أحد السفرين، أو لترك شيء من [ ص: 245 ] الميقات; لأنه لو لم يقرن وأتى بكل منهما منفردا بعد أن لا تكون العمرة فعلت في أشهر الحج، وأتى بكل واحدة من ميقاتها لما وجب عليه دم.

وقد أنكر القران على أنس عائشة وابن عمر وجعلاه من وهمه، وقد سلف.

وأما حجة من قال بالتمتع، وأنه - عليه السلام - كان متمتعا: فحديث ابن عمر، فهي مردودة بما رواه البخاري في حديث ابن عمر بما يرد به على نفسه، وقد سلف من المغازي من البخاري. وأيضا قوله - عليه السلام - في حديث عائشة: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة " .

وهذا نص قاطع أنه لم يهل بعمرة، وليس في قوله "استقبلت" إلى آخره: دليل على أن التمتع أفضل من القران كما زعم أحمد ، وإنما قال ذلك تطييبا لقلبهم- كما سلف، وسيأتي ما روي عن عروة عن عائشة بما يوهم أنه - عليه السلام - تمتع، في باب: من ساق الهدي معه -إن شاء الله- وبيان الشبهة فيه. وأما قول الناس لأبي شهاب حين قدم مكة متمتعا: تصير حجتك الآن مكية . فمعناه: أنه ينشئ حجة من مكة إذا فرغ من تمتعه، كما ينشئ أهل مكة الحج من مكة; لأنها ميقاتهم للحج، إلا أن غير أهل مكة إن حلوا من العمرة في أشهر الحج، أنشئوا الحج من عامهم دون أن يرجعوا إلى أفقهم، أو أفق مثل أفقهم في [ ص: 246 ] البعد، فعليهم في ترك ذلك الدم، ولو خرج إلى الميقات بعد تمام العمرة ليهل بالحج منه لم يسقط ذلك عنه الدم -عند مالك وأصحابه- إلا أن يكون الميقات أفقه، أو مثل أفقه .

وأما حديث حفصة وقولها: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟) فإنه يوهم إهلاله بالعمرة وأنه تمتع; لأن الإحلال كان لمن تمتع، وهو وهم فاسد.

وذكر (عمرتك) في الحديث وتركها سواء; لأن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج; ليفسخوه في عمرة، ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة; لأن المعتمر يحل بالطواف والسعي، والخلاف لا شك فيه عندهم، وقد اعتمروا معه عمرا، وعرفوا حكمها في الشريعة، فلم يكن يعرفهم بشيء في علمهم، بل عرفهم بما أحله الله لهم في عامهم ذلك من فسخ الحج في عمرة، لما أنكروه من جواز العمرة في زمن الحج.

وللعلماء في قول حفصة: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟) ضروب من التأويل، فقال بعضهم: إنما قالت ذلك; لأنها ظنت أنه - عليه السلام - فسخ حجه بعمرة، كما أمر بذلك من لا هدي له من أصحابه، وهم الأكثر، فذكر لها العلة المانعة من الفسخ، وهي سوقه الهدي، فبان أن الأمر ليس كما ظنت، وقيل: معناه: ما شأن الناس حلوا من إحرامهم ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة. بدليل قوله "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" الحديث [ ص: 247 ] فعلم بهذا أنه لم يحرم بعمرة، وهو قول ابن القصار. وقيل معناه: لم لم تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك; وقالوا: قد تأتي (من) بمعنى: الباء، كما قال تعالى: يحفظونه من أمر الله [الرعد: 11]، أي: بأمر الله. تريد: ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذي جئت به مفردا في حجك.

وأما قول ابن عباس لأبي جمرة في المتعة: هي السنة. فمعناه: أن كل ما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله فهو سنة، وكذلك معنى قول علي لعثمان في القران: ما كنت أدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد. يعني سنته التي أمر بها; لأنه - عليه السلام - فعل في خاصته غيرها وهو الإفراد.

وأما فسخ الحج في عمرة فهو في حديث عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم. والجمهور على تركه، وأنه لا يجوز فعله بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأحد دخل في حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله منها شيء قبل يوم النحر من طواف، ولا غيره، وإنما أمر به أصحابه; لينسخ ما كان عليه أهل الجاهلية بما سلف; لأنه خشي حلول أجله قبل حجة أخرى فيجعلها عمرة في أشهر الحج، فلما لم يتسع له العمر بما استدل عليه من كتاب الله من قرب أجله أمرهم بالفسخ، وأحل لهم ما كانت الجاهلية تحرمه من ذلك.

وقد قال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج، ثم يفسخه في عمرة. وروي ذلك عن عثمان. وعن عمر أنه قال: إن الله يخص نبيه بما شاء، وإنه قد مات، فأتموا الحج والعمرة لله. وقال جابر: المتعتان فعلناهما على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نهى عمر عنهما، فلن نعود إليهما -يعني: فسخ الحج ومتعة النساء- ثم ذكر حديث الحارث بن بلال السالف.

[ ص: 248 ] قال الطحاوي: لا يجوز للصحابة أن يقولوا هذا بآرائهم، وإنما قالوه من جهة ما وقفوا عليه; لأنهم لا يجوز لهم ترك ما فعلوه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفسخ إلا بتوقيف منه إياهم على الخصوصية بذلك، ومنع من سواهم منه، فثبت أن الناس جميعا بعدهم ممنوعون من الخروج من الحج إلا بتمامه، إلا أن يصدوا ، ووجه ذلك من طريق النظر: أنه من أحرم بعمرة فطاف لها وسعى، أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل إذا لم يكن ساق هديا، ورأيناه إذا ساقه لمتعته، فطاف لعمرته وسعى لم يحل حتى يوم النحر، فيحل منها ومن حجته إحلالا واحدا، فكان الهدي الذي ساقه لمتعته التي لا يكون عليه فيها هدي إلا بأن يحج، يمنعه من أن يحل بالطواف إلا يوم النحر; لأن عقد إحرامه هكذا كان، أن يدخل في عمرة فيتمها، فلا يحل منها حتى يحرم بحجة، ثم يحل منها ومن العمرة التي قدمها قبلها معا، وكانت العمرة لو أحرم منها منفردة حل منها بعد فراغه من تلك العمرة بقي على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدي الذي هو من سبب الحج يمنعه الإحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله في الحج أولى وأحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر.

[ ص: 249 ] قال ابن بطال: ولم يجز فسخ الحج أحد من الصحابة إلا ابن عباس، وتابعه أحمد وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول، والجمهور الذين لا يجوز عليهم تحريف التأويل هم الحجة التي يلزم اتباعها .

الحديث الثاني:

حديث عائشة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة .. الحديث، وأخرجه مسلم أيضا ، وسلف فقهه.

وقولها: (فمنا من أهل بعمرة). قيل معناه: فسخ الحج، وقيل: على ظاهره.

وقولها: (وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج). هو صريح في الإفراد، وقد سلف الاختلاف فيه. قال ابن التين: وعائشة أقعد الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بما كان عليه، لا سيما وقسمته ثلاثة أقسام.

وقولها: (حتى كان يوم النحر). أي: لأنه أول وقت تحلل الحج.

الحديث الثالث:

حديث مروان بن الحكم: شهدت عثمان وعليا، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد.

وهو من أفراده، وأخرجا من حديث سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال [ ص: 250 ] علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنهى عنه؟ (قال عثمان) : دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى علي ذلك، أهل بهما جميعا. لم (يقل) البخاري: دعنا. إلى، أدعك . ولهما عن عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، فقال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين ، وقد سلف تأويل ذلك.

قال ابن التين: إنما نهي عثمان عن القران يحمل على ما سمع منه على إرداف الحج على العمرة. وقال أبو الوليد: لم يكن علي محرما بعمرة، وإنما قرن ابتداء، وخالفه أيضا في أنه لم ينه عن ذلك، وإنما أراد أن الإفراد أفضل فقط، وإظهار علي القران; ليظهر ما نواه منه، وقد اختلف العلماء في النطق بنفس النسك، فروي عن ابن عمر أنه كان يرى ترك التسمية، وقال: أليس الله يعلم ما في نفسك ؟ وروي عن عائشة التسمية، وعن عطاء: لا تجزئه النية .

[ ص: 251 ] وقوله: (ما كنت لأدع ..) إلى آخره. يحتمل أن يريد ما فعله، وأن يريد ما أذن فيه; لأن من أمر بشيء كان كفاعله.

وفيه: ما كان عليه عثمان من الحكم أنه لا يلوم مخالفه.

وفيه: أن القوم لم يكونوا يسكتون عن قول يرون أن غيره أمثل منه إلا بينوه.

وفيه: أن طاعة الإمام إنما تجب في المعروف.

الحديث الرابع:

حديث ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: "حل كله".

وأخرجه مسلم أيضا .

وفي بعض ألفاظ البخاري: يسمون المحرم صفر.

وابن طاوس: هو عبد الله، قاله أصحاب الأطراف، وقوله: (كانوا). يعني الجاهلية، وذلك من تحكماتهم المبتدعة.

ولأبي داود: قال ابن عباس: والله ما أعمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة في ذي الحجة; إلا ليقطع أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، ودخل صفر، فقد [ ص: 252 ] حلت العمرة لمن اعتمر . فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم.

وقوله: (صفر) كذا هو بغير ألف، كذا هنا في أصل بخط الدمياطي وفي مسلم، والصواب صفرا; لأنه مصروف قطعا، وفي "المحكم" كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: لم لا تصرفه؟ لأن النحويين قد أجمعوا على صرفه وقالوا: لا يمنع الحرف من الصرف إلا علتان، فأخبرنا بالعلتين فيه، فقال: نعم، هما المعرفة والساعة، قال المطرز: يرى أن الأزمنة كلها ساعات، والساعات مؤنثة .

قال عياض: وقيل: صفر: داء يكون في البطن كالحيات، إذا اشتد جوع الإنسان عضته ، وقال رؤبة: هي حية تلتوي في البطن، وهي أعدى من الجرب عند العرب . وهذا إخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه، كانوا يسمون المحرم صفرا، ويحلونه، وينسئون المحرم أي: يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر; لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة، فتضيق عليهم أمورهم من الإغارة وغيرها، فضللهم الله تعالى بذلك فقال: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا الآية [التوبة: 37]. وقال القرطبي: كانوا يحلون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه، ويحرمون مكان ذلك غيره .

[ ص: 253 ] قال الكلبي: وأول من نسأ القلمس واسمه: حذيفة بن عبيد الكناني، ثم ابنه عباد، ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية بن قلع بن عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية، وعليه قام الإسلام، وقيل: أول من نسأ نعيم بن ثعلبة بن جنادة، وهو الذي أدركه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: مالك بن كنانة، وقيل: عمرو بن لحي.

(وبرأ): بفتح الباء، أي: أفاق، قال ابن فارس يقال: برأت من المرض وبرئت أيضا . والدبر: بفتحها جمع دبرة، يعني: الجرح الذي يكون في ظهر الدابة، وقيل: أن يقرح خف البعير. حكاه عياض ، (وعفا الأثر). أي: درس أثر الحاج من الطريق، وامحى بعد رجوعهم بوقوع الأمطار وغيرها; لطول مرور الأيام. وقال الخطابي: أي: درس أثر الوبر المذكور ، وفي أبي داود: وعفا الوبر أي: كثر وبرها الذي خلفته رحال الحاج، وعفا من الأضداد، ومنه قوله تعالى: حتى عفوا [الأعراف: 95]، أي: كثروا، وقال الداودي: (عفا الأثر). أي: آثار الحج، وما نالهم في حجهم من الشعث.

(وانسلخ صفر). أي: انقضى.

وقوله: (ويجعلون المحرم صفر): هو النسيء الذي قال تعالى فيه أنه زيادة في الكفر. يحلون الشهر الحرام. يعني: المحرم، يحرمون الحلال صفر. أي: يؤخرون حرمة الحرام إلى الحلال صفر.

[ ص: 254 ] قال ابن فارس: كانوا إذا صدروا عن منى يقيم الرجل فيقول: أخرت عنكم حرمة المحرم، وأجعلها في صفر; لأنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة شهور لا يغيرون فيها; لأن معيشتهم كانت من الإغارة، فقال تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر [التوبة: 37]. وقال ابن دريد: الصفران: شهران من السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرم . وقال في "المحكم" عن بعضهم: قال بعضهم: سمي صفرا; لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا. وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرا; لأنهم كانوا يغيرون فيه، فيتركون من لقوا صفرا من المتاع، وذلك أن صفر بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرا .

وقال القزاز: قالوا: إنما سموه صفرا; لأنهم كانوا يخلون البيوت منهم بخروجهم إلى بلد يقال له الصفرية يمتارون وقيل: لأنهم كانوا يخرجون إلى الغارة فتبقى بيوتهم صفرا. وقيل: لأن العرب كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرا يسمونه; صفر الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا، كي تستقيم لهم الأزمان على موافقة أسمائها مع المشهور، وكانوا يتطيرون به، ويقولون: لأن الأمور فيه متعلقة، والآفات واقعة.

وقوله: (قدم صبيحة رابعة). فيه: دخولها نهارا، وكان ابن عمر يستحبه، وكذا عطاء والنخعي وابن راهويه وابن المنذر، وهو أصح [ ص: 255 ] الوجهين عندنا، وقيل: دخولها ليلا ونهارا سواء، وهو قول طاوس والثوري، وعن عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز: دخولها ليلا أفضل من النهار، وقال مالك: يستحب دخولها نهارا، فمن جاءها ليلا فلا بأس به. قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز يدخلها لطواف الإفاضة ليلا ، وسيأتي ترجمة البخاري دخولها ليلا ونهارا، ولم يأت في دخولها ليلا شيء نعلمه.

وقوله: (تعاظم ذلك). أي: تعاظم مخالفة العادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج، نقلوه عن الإحلال فقالوا: أي الحل: إحلال الطيب والمخيط كما يحل من رمى جمرة العقبة وطاف للإفاضة، أم غيره؟ فأخبره أنه الحل كله بإصابة النساء.

الحديث الخامس:

حديث أبي موسى: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأمره بالحل.

يريد: أمره بالفسخ لما لم يكن معه هدي، كما أمر أصحابه الذين لا هدي معهم.

الحديث السادس:

حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، عن حفصة أنها قالت; يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك; قال: "إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر".

وقد أخرجه مسلم أيضا ، وقد أسلفنا الكلام عليه واضحا.

[ ص: 256 ] قال أبو عمر: زعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع: ولم تحل أنت من عمرتك؟ إلا مالك وحده، قال: وهذه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم: عبيد الله بن عمر وأيوب بن أبي تميمة، وهما ومالك حفاظ أصحاب نافع، قال: ولما لم يكن لأحد من العلماء سبيل إلى الأخذ بكل ما تعارض وتدافع من الآثار في هذا الباب، ولم يكن بد من المصير إلى وجه واحد منها، صار كل واحد إلى ما صح عنده بمبلغ اجتهاده، فصار مالك (أي) : والشافعي إلى تفضيل الإفراد لوجوه منها: أنه روي عن عائشة أيضا من وجوه، فكانت تلك الوجوه عنده أولى من حديث حفصة هذا. ومنها: أنه الثابت في حديث جابر. ومنها: أنه اختيار أبي بكر وعمر وعثمان. ومنها: أنه أتم ولذلك لم يحتج فيه إلى جبر شيء بدم. وما أعلم أحدا رد حديث حفصة هذا بأن قال: إن مالكا تفرد بتلك اللفظة إلا هذا الرجل، والله يغفر لنا وله .

قال أبو عمر: وهذا أمر مجمع عليه في القارن، أنه لا يحل حتى يحل منهما جميعا .

وقال ابن التين: قولها: ولم تحل أنت من عمرتك; يحتمل أن تريد: من حجك; لأن معناهما متقارب بجامع القصد، وقيل: إنها إنما سمعته يأمر الناس بسرف بفسخ الحج في العمرة، ظنت أنه فسخ الحج فيها، وقيل: اعتقدت أنه كان معتمرا. وقيل: يحتمل أن يكون قارنا -كما ذكره الخطابي - وقيل: يحتمل: لم لم تهل بعمرة، وتتحلل بها؟

[ ص: 257 ] قال: والصواب أن المراد: لم لم تفسخ حجك في عمرة كفعل غيرك؟ ولعلها لم تسمع قوله "من كان معه هدي فلا يحل" .

وقال القرطبي: معنى قولها، وقول ابن عباس: (من عمرتك). أي: بعمرتك، كما قال تعالى: يحفظونه من أمر الله [الرعد: 11] أي: بأمر الله، عبر بالإحرام بالعمرة عن القران; لأنها السابقة في إحرام القارن قولا ونية، ولا سيما على ما ظهر من حديث ابن عمر أنه - عليه السلام - كان مفردا .

وقوله: "لبدت رأسي وقلدت هديي" قال الداودي: فيه أن من لبد وقلد لا يحل حتى يحلق ويفرغ من الحج كله، وقال غيره: لا يمنع ذلك من إحلاله من عمرته; لأن من فعل ذلك وأهل بعمرة ينحر ويحلق عند كمالها، ولا يجب عليه لأجل التلبيد والتقليد إرداف حجة عليها، وإنما معناه: أن في الكلام حذفا، وذلك أن يعلمها أنه لبد رأسه وقلد هديه للحج، فلا يمكنه التحلل من ذلك قبل أن يبلغ الهدي محله وينحره بمنى بعد كمال حجه، وأما من أحرم بعمرة وأكملها فلا يردف ويحلق، ولا يقال كره الحلق لقرب الحج على ما ذكره مالك أنه يكره لمن اعتمر أن يحلق إذا قرب من الموسم; لأن مالكا كان يقصر ولو من شعره، بخلاف الحج، فيجمع بين الأمرين، وحفصة لم تسأله عن ترك الحلاق، وإنما سألته عن ترك التحلل .

[ ص: 258 ] الحديث السابع:

حديث أبي جمرة نصر بن عمران قال: تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس، فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة. فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال لي: أقم عندي، وأجعل لك سهما من مالي. فقال شعبة; فقلت: لم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت.

وأخرجه مسلم أيضا بدون: أقم عندي، إلى آخره ، وسببه أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

وفيه: ما كانوا عليه من التعاون على البر والتقوى، وحمدهم لمن يفعل الخير، فخشي أبو جمرة من تمتعه هبوط الأجر، ونقص الثواب; للجمع بينهما في سفر واحد وإحرام واحد، وكان الذين أمروا بالإفراد إنما أمروه بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه; ليفرد الحج وحده، ويخلص عمله من الاشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا; ليعرفه بها أن حجه مبرور، وعمرته متقبلة في حال الاشتراك; ولذلك قال له ابن عباس: أقم عندي. ليقص على الناس هذه الرؤيا المثبتة لحال التمتع، ففيه دليل أن الرؤيا الصادقة شاهدة على أمور اليقظة، وكيف لا وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة؟

وفي قوله: (أجعل لك سهما من مالي). أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم، وقد أسلفنا أن قوله لأبي جمرة: هي السنة. أن معناه: أن كل ما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله فهو السنة، فراجعه.

[ ص: 259 ] الحديث الثامن:

حديث أبي شهاب قال: قدمت متمتعا مكة بعمرة .. إلى آخره. الحديث بطوله.

قال أبو عبد الله: أبو شهاب ليس له مسند إلا هذا. قال ابن التين: كأنه يقول: من كان هكذا لا يجعل حديثه أصلا من أصول العلم، واسمه: موسى بن نافع الحناط، وقد سلف الكلام عليه، وهما اثنان: أبو شهاب (خ. م. س) الحناط الكبير هذا، والصغير عبد ربه بن نافع (خ. م. ت. ق)، وكلاهما في الصحيحين.

وفيه تقديم وتأخير، التقدير: وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا إحرامكم عمرة، وتحللوا بعمل العمرة" وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة، وهو أبين ما في هذه الأحاديث من فسخه الحج إلى العمرة، وفي حديث جابر هذا إنما فعل ذلك لأنهم كانوا يتحرجون من العمرة في أشهر الحج كما سلف، فأبطله وحض عليه كما في نذر عمر في الجاهلية، فإنه حضه على الوفاء بالنذر ، وإن كان نذر الكافر لا يلزم إذا أسلم.

وهذا الحديث طرف من حديث جابر بن عبد الله الطويل، وقد ساقه مسلم أحسن سياقة، وهو من أفراده ، والبخاري ذكر جله في مواضع متفرقة من حديث جابر، وابن عمر، وابن عباس وابن مسعود، [ ص: 260 ] وغيرهم ، وكذا فعل مسلم أيضا ، وصنف ابن المنذر عليه مصنفا سماه (التحبير"، استنبط منه مائة ونيفا وخمسين نوعا من وجوه العلم، وبين في كل وجه منها وجه استدلاله، من أغربها: كراهة الحل للمحرمة، وبه قال أحمد، ومن فوائد القطعة التي ساقها البخاري: التقصير للمعتمر; ليتوفر الشعر للحلاق يوم النحر.

الحديث التاسع:

حديث سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا.

وقد أسلفناه في الحديث الثالث .

التالي السابق


الخدمات العلمية