التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1582 1665 - حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، قال عروة: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس -والحمس: قريش وما ولدت- وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا، وكان يفيض جماعة الناس من عرفات، ويفيض الحمس من جمع. قال: وأخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الحمس ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [البقرة: 199] قال: كانوا يفيضون من جمع، فدفعوا إلى عرفات. [4520- مسلم: 1219 - فتح: 3 \ 515]


ذكر فيه حديث محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: كنت أطلب بعيرا لي، وفي لفظ: أضللت بعيرا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - واقفا بعرفة، فقلت: هذا والله من الحمس، فما شأنه ها هنا؟

هذا الحديث زاد فيه الإسماعيلي في "صحيحه" والبرقاني فيما ذكره الحميدي. قال سفيان: -يعني قريشا- وكانت تسمى الحمس، وكانت قريش لا تجاوز الحرم، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكان سائر الناس يقفون بعرفة، وذلك قوله: ثم أفيضوا من [ ص: 553 ] حيث أفاض الناس [البقرة: 199] قال سفيان: الأحمس: الشديد في دينه . زاد أبو نعيم في "مستخرجه": وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم، وقيل: كانت قريش تتكبر أن تقف مع الناس.

ولابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عمه نافع، عن أبيه جبير قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قائما مع الناس قبل أن ينزل عليه الوحي توفيقا من الله تعالى له . وهذا يزيل شبهة من زعم أن رؤية جبير كانت بعد النبوة.

قال ابن التين: وروي هذا الحديث، عن سفيان، عن عمرو، عن محمد، عن أبيه -مثل ما في البخاري- قال فيه: رأيته - صلى الله عليه وسلم - قائما مع الناس قبل أن يبعث. فمن ها هنا قال بعضهم: إنه - صلى الله عليه وسلم - حج في الجاهلية ، أما بعد الهجرة فواحدة، وأحاطت قريش به.

ثم ذكر البخاري من حديث هشام بن عروة، قال عروة: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس- والحمس: قريش وما ولدت .. الحديث، وفي آخره قالت عائشة: إن هذه الآية نزلت في الحمس ثم أفيضوا [البقرة: 199] قال: كانوا يفيضون من جمع، فدفعوا إلى عرفات.

[ ص: 554 ] وقد اختلف المفسرون في هذه الآية:

فقال الضحاك: يريد إبراهيم - عليه السلام - . ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه، عن يزيد بن سفيان قال: كنا وقوفا مكانا بعيدا من الموقف، فأتانا ابن مربع فقال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يقول لكم: "كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم" .

وروي عن الضحاك أنه الإمام ، وقيل: آدم ، وقد قرئ: (الناسي) وقيل: سائر الناس.

قال ابن التين: وهو الصحيح بدليل حديث جبير (غير الحمس) وهم قريش، ومن ولدت من غيرها، وقيل: قريش ومن ولدت وأحلافها، وقيل: قريش ومن ولدت من قريش وكنانة وجديلة قيس، وكانوا إذا أنكحوا امرأة منهم غريبا اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، ودخل في هذا الاسم من غير قريش ثقيف وليث بن بكر وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة.

وقوله: (والحمس: قريش وما ولدت) قال الداودي: يعني من مسه [ ص: 555 ] ولادة قريش من نسل البنات، والأحمس والحمس: الشديد، وتحامس القوم تحامسا وحماسا: تنادوا واقتتلوا، والأحمس: المشدد على نفسه في الدين، والحماسة: الشدة في كل شيء، ذكره ابن سيده ، وتحامس عني: من غلط العامة، وحمس بالكسر، وأحمس: بين الحمس، وقيل: والحمسة: الحرمة، ذكره ابن فارس .

قال الحربي عن بعضهم: سموا حمسا بالكعبة; لأنها حمساء، وحجرها أبيض يضرب إلى السواد، وذكره الهروي.

قال ابن إسحاق: وكانت قريش -لا أدري بعد الفيل أو قبله- ابتدعت أمر الحمس رأيا رأوه، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، نحن الحمس، والحمس أهل الحرم، قالوا: ولا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط، ولا يسلؤوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا -إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من (الحل إلى الحرم) إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، ومما أحدثوه أن لا يطوفوا بالبيت عراة، ولا يطوفوا بين الصفا والمروة، وما سواهم من العرب يقال لهم: الحلة، كانوا إذا حجوا طافوا بالبيت عراة ورموا ثيابهم التي قدموا فيها، وقالوا: نكرم البيت أن نطوف به في ثيابنا التي جرحنا بها الآثام، فما طرحوا من [ ص: 556 ] ثوب لم يمسه أحد . وسمي النسيء واللقاء والحريم، ذكره الكلبي.

وقال السهيلي: كانوا ذهبوا في ذلك مذهب الترهب والتأله، وكانت نساؤهم لا ينسجن الشعر ولا الوبر ، وكذا قال المهلب: إنما كان وقوف قريش -وهم الحمس- عند المشعر الحرام من أجل أنها كانت عزتها في الجاهلية- بالحرم وسكناها فيه، ويقولون: نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحل عند وقوفهم في الحج، ويقولون: نحن لا نفارق عزنا وما حرم الله به أموالنا ودماءنا، وكانت طوائف العرب تقف في موقف إبراهيم من عرفة، وكان وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - وطوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام وما افترض الله تعالى عليه من تبليغ الدعوة وإفشاء الرسالة، وأمر الناس كلهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس من عرفة، وقيل: كانت قريش تستكبر أن تقف مع الناس، وكذلك جبير، وقال: ما شأنه وقف في الحل؟ وانظر كيف أنكر جبير ذلك، وقد حج قبله عتاب سنة ثمان وأبو بكر سنة تسع ، فإما أن يكونا وقفا بجمع على ما كانت قريش تفعل، أو لم يكن جبير شهد معهما الموسم، قاله ابن التين. وإنما كان ذلك في الجاهلية كما سلف، وجبير أسلم عام الفتح .

[ ص: 557 ] وقال الخطابي: قوله: من حيث أفاض الناس [البقرة: 199] في ضمنه الأمر بالوقوف بعرفة; لأن الإفاضة والانتشار إنما يكون عن اجتماع قبله بها .

وكذا قال ابن بطال: في الآية دليل أنه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها، غير أنا لم نجده ذكر لنا ابتداء ذلك الوقوف، وبينه الشارع كما سيأتي.

فإن قلت: (ثم) يفيد (المهلة) : وقال تعالى: فاذكروا الله عند المشعر الحرام [البقرة: 198]، ثم قال: ثم أفيضوا [البقرة: 199] وإنما الإفاضة من عرفات قبل المجيء إلى المشعر الحرام ؟ فالجواب أن (ثم) بمعنى الواو، والمختار أنها على بابها، والمعنى: ثم آمركم بالإفاضة من عرفات من حيث أفاض الناس، وفيه معنى التوكيد; لأنهم أمروا بالذكر عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات، ثم أكد عليهم الإفاضة من حيث أفاض الناس لا من حيث كانت قريش تفيض.

وزعم الطحاوي أن ظاهر الآية: فإذا أفضتم من عرفات، وقوله: من حيث أفاض الناس [البقرة: 199]، والإفاضة الأولى من عرفات، والثانية من المشعر الحرام; لأنه قال: فاذكروا الله عند المشعر الحرام [البقرة: 198]، إلى ثم أفيضوا من حيث أفاض [ ص: 558 ] الناس [البقرة: 199] غير أنا وجدنا قوله: من حيث أفاض الناس [البقرة: 199] في معنى: وأفيضوا، وتجعل (ثم) في موضع الواو كما قال تعالى: وإما نرينك بعض الذي نعدهم ثم قال: ثم الله شهيد [يونس: 46] على معنى: والله شهيد .

واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل الغروب ولم يقف بها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد في الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تبع، فإن وقف جزءا من النهار وحده ودفع قبل الغروب لم يجزئه، وإن وقف جزءا من الليل - أي جزء كان - قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه; وأخذ في ذلك مما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج . وعن عروة بن الزبير مثله ، ورفعه ابن عمر مرة: "من فاته عرفات بليل فقد فاته الحج" . وعن عطاء يرفعه "من أدرك عرنة بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج" وعن عمرو بن شعيب رفعه قال: "من أجاز بطن عرفة قبل أن تغيب الشمس فلا حج له" .

[ ص: 559 ] وعن معمر عن رجل عن سعيد بن جبير رفعه: "إنا لا ندفع حتى تغرب الشمس" يعني: من عرفات. ضعفها كلها ابن حزم .

وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع .

وحديث عروة بن مضرس الطائي مرفوعا: "من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم .

وفيها من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك حجة". وصححه ابن حبان والحاكم .

[ ص: 560 ] قالوا: فإن وقف جزءا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءا من الليل أجزأه، إلا إنهم يقولون: إن وقف جزءا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، والأظهر عند الشافعي: لا دم عليه، وإن وقف جزءا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، أخذوا بحديث عروة بن مضرس، إلا في إيجاب الدم لمن وقف نهارا ودون الليل، وتفريقهم في وقت النهار بين بعد الزوال وقبله، فإنه من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر; تمسكا بحديث عروة بن مضرس السالف، فسوى بين أجزاء الليل وأجزاء النهار.

قال ابن قدامة: وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي .

وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال الحسن بن أبي الحسن: عليه هدي من الإبل، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت فلا دم عليه، وبه قال مالك والشافعي. وقال الكوفيون وأبو ثور:

عليه دم .

[ ص: 561 ] والذي يظهر من المذاهب مذهب أحمد أنه يدخل إلا بالزوال، ومضي خطبتين وأربع ركعات اتباعا للدليل القولي والفعلي.

وأجاب ابن القصار عن حديث عروة فقال: نحن نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف وقفة واحدة جمع فيها بين الليل والنهار، فصار معناه من ليل ونهار، واستفدنا من فعله أن المقصود آخر النهار، وهو الوقت الذي وقته، وعقلنا بذلك أن المراد جزء من النهار مع جزء من الليل; لأنه لم يقتصر على جزء من النهار دون الليل، ولو تجرد هذا من فعله لجاز أن يكون (أو) بمعنى الواو كقوله تعالى: ولا تطع منهم آثما أو كفورا [الإنسان: 24] معناه: وكفورا. فإن قيل: فأنتم لا توجبون الجمع بين الليل والنهار في الوقوف. قيل: لما قال: "فقد تم حجه" علمنا أن التمام نقيض الكمال والفضل، فيجمع فيه بين السنة والفرض، فالسنة الوقوف بالنهار، والفرض هو الليل; لأنه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخص به من النهار; لأنه لو انفرد وقوفه في هذا الجزء لأجزأه بالإجماع، ولو وقف هذا القدر من النهار لكان فيه خلاف، ووجب عليه الدم، فكيف يكون النهار أخص من الليل؟!

فائدة: سميت عرفة; لأن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك ، أو لأن جبريل يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت قد عرفت. وقيل غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية