التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
145 [ ص: 110 ] 12 - باب: من تبرز على لبنتين

145 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن ناسا يقولون: إذا قعدت على حاجتك، فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. وقال: لعلك من الذين يصلون على أوراكهم. فقلت: لا أدري والله. قال مالك: يعني الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض، يسجد وهو لاصق بالأرض. [148، 149، 3102 - مسلم 266 - فتح: 246 \ 1]


حدثنا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن ناسا يقولون: إذا قعدت على حاجتك، فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. فقال عبد الله: لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. وقال: لعلك من (القوم) الذين يصلون على أوراكهم. فقلت: لا أدري والله. قال مالك: يعني الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض، يسجد وهو لاصق بالأرض.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برواته غير من سلف.

أما واسع (ع) فهو ابن حبان - بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- الأنصاري النجاري المازني الثقة، والد حبان بن واسع بن حبان. روى عن ابن عمر وغيره، وعنه ابنه حبان، وابن أخيه محمد بن [ ص: 111 ] يحيى بن حبان، وحبان نسبة لعدة أسماء ذكرتهم في مقدمات هذا الشرح.

وأما الراوي عنه؛ فهو أبو عبد الله المازني الفقيه الثقة محمد (ع) بن يحيى بن حبان، كان صاحب حلقة بالمدينة، روى عن أبيه، وعمه واسع، وأنس، وعنه الزهري وربيعة، ومالك، مات سنة إحدى وعشرين ومائة. وباقي الإسناد سلف.

فائدة:

هذا الإسناد كله على شرط الشيخين وباقي الستة إلا عبد الله بن يوسف فإنه من رجال البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي، وكلهم مدنيون سواه، فإنه مصري تنيسي، بكسر المثناة فوق.

وفي هذا الإسناد طرفة أخرى وهي رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: يحيى بن سعيد، ومحمد بن يحيى، وواسع بن حبان.

[ ص: 112 ] الوجه الثاني:

هذا الاطلاع من ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن تجسسا، وإنما كان اتفاقيا من غير قصد، ولم ير إلا أعاليه فقط، ويحتمل كما أبداه القاضي أن يكون عن قصد التعلم مع أمنه من الاطلاع على ما لا يجوز الاطلاع عليه، لكن قد يبعده رواية البخاري الآتية قريبا: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي. ويجمع بين قوله: (بيت لنا) و(بيت حفصة) بأن بيت حفصة بيته، أو بأنه كان لها بيت في بيت عمر يعرف بها، أو صار إليها بعد.

الثالث:

قوله: (فرأيته على لبنتين): يحتمل كما قال القاضي أن يكونا مبنيتين فيكون حجة لمن قال: إنه لا يكلف الانحراف في الكنف المبنية إلى القبلة، خلافا لما ذهب إليه أبو أيوب كما سلف في الحديث قبله. وفي رواية صحيحة لابن حزم: رأيته يقضي حاجته محجورا عليه باللبن.

وفي رواية للبزار: رأيته في كنيف مستقبل القبلة. ثم قال: لا نعلم رواها عن نافع إلا عيسى الحناط، وهو ضعيف.

[ ص: 113 ] الرابع:

قوله: (فرأيته مستقبلا بيت المقدس لحاجته) كذا هنا، وسيأتي قريبا: مستقبل الشام مستدبر القبلة. ووقع في "صحيح ابن حبان": مستقبل القبلة مستدبر الشام; وكأنه مقلوب.

الخامس:

اختلف العلماء في كيفية العمل بهذا الحديث، فمنهم من رآه ناسخا لحديث أبي أيوب السالف، واعتقد الإباحة مطلقا، وقاس الاستقبال على الاستدبار، وطرح حكم تخصيصه بالبنيان، ورأى أنه وصف ملغى الاعتبار فيه، ومنهم من رأى العمل بحديث أبي أيوب وما في معناه واعتقد هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم; ومنهم من جمع بينهما وأعملهما كما سلف في الحديث قبله، ومنهم من توقف في المسألة، ولمن خصه بالشارع أن يستدل بأن نظر ابن عمر كان اتفاقيا كما سلف، وكذا جلوسه - صلى الله عليه وسلم - من غير (قصد) لبيان حكم; لأنه لو كان ذلك حكما عاما لبينه بالقول كغيره من الأحكام، فلما لم يقع ذلك دل على الخصوص، وفيه بحث.

السادس:

يؤخذ منه تتبع أحواله كلها - صلى الله عليه وسلم - ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعية.

[ ص: 114 ] السابع:

جواز استقبال القبلة في البنيان وأنه (مخصص) لعموم النهي، وقد سلف.

الثامن:

استعمال الكناية بالحاجة عن البول والغائط، وجواز الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل.

التاسع:

من استقبل بيت المقدس وهو بالمدينة فقد استدبر الكعبة، وقد أسلفنا أنه جاء في رواية أخرى: مستقبل الشام مستدبر القبلة.

قال الخطابي: وقد يتوهم السامع من قول ابن عمر: (أن ناسا يقولون.. إلى آخره) أنه يريد إنكار ما روي في النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة نسخا لما حكاه من رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبر القبلة وليس الأمر في ذلك على ما يتوهم; لأن المشهور من مذهبه أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار في الصحراء ويجيزهما في البنيان، وإنما أنكر قول من يزعم أن الاستقبال في البنيان غير جائز؛ ولذلك مثل بما شاهد من قعوده في الأبنية، ويشبه أن يكون بلغه قول أبي أيوب؛ فإنه كان يرى عموم النهي كما سلف، وإليه كان مذهب سفيان الثوري.

[ ص: 115 ] العاشر:

جاء في "مسند الإمام أحمد"، و"سنن أبي داود"، وابن ماجه من حديث معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط. سكت عليه أبو داود وضعفه ابن حزم، وأجاب أصحابنا عنه بجوابين:

(أحدهما): أنه نهى عن استقبال بيت المقدس حين كان قبلة ثم نهى عن الكعبة حين صارت قبلة، فجمع الراوي بينهما.

(وثانيهما): أنه المراد بالنهي أهل المدينة; لأن من استقبل بيت المقدس وهو في المدينة استدبر الكعبة وإن استدبره استقبلها، والمراد بالنهي عن استقبالها النهي عن استقبال الكعبة واستدبارها، وفي كل من التأويلين نظر كما نبه عليه النووي في "شرح المهذب".

والظاهر المختار أن النهي وقع في وقت واحد، وأنه عام لكلتيهما في كل مكان، ولكنه في الكعبة نهي تحريم في بعض الأحوال، وفي بيت المقدس نهي تنزيه، ولا يمتنع جمعهما في النهي وإن اختلف معناه، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة دون حرمة الكعبة، وقد اختار الخطابي هذا التأويل، وقد صرح أصحابنا بعدم الحرمة وأنه يكره؛ لهذا قال: وإنما حملنا النهي على التنزيه للإجماع، فلا نعلم من يعتد به حرمه.

[ ص: 116 ] قلت: قد حكى ابن أبي الدم الشافعي وجها أن النهي للتحريم، فأين الإجماع؟

وقال ابن بطال: لم يقل بحديث معقل السالف أحد من الفقهاء إلا النخعي وابن سيرين ومجاهد، فإنهم كرهوا استقبال القبلتين واستدبارهما ببول أو غائط، وهؤلاء غاب عنهم حديث ابن عمر، وهو يدل على أن النهي إنما أريد به الصحراء لا البيوت، وقال أحمد: حديث ابن عمر ناسخ للنهي عن استقبال بيت المقدس واستدباره بغائط وبول، والدليل على هذا ما روى مروان الأصفر عن ابن عمر أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهي عن هذا؟ قال: إنما نهي عن هذا في الفضاء، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.

[ ص: 117 ] الحادي عشر:

في قوله: (إن ناسا يقولون: كذا) دلالة على أن الصحابة كانوا يختلفون في معاني السنن، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هنا وقع بينهم الاختلاف.

الثاني عشر:

قوله: (لعلك من الذين يصلون على أوراكهم) قد فسره مالك كما سلف، فيؤخذ منه اشتراط ارتفاع الأسافل على الأعالي وهو الأصح عندنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية