التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1728 [ ص: 338 ] 5 - باب : لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال

1824 - حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا عثمان -هو: ابن موهب- قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة ، أن أباه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجا، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة ، فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي. فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل أبو قتادة على الحمر، فعقر منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟! فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة ، فعقر منها أتانا، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟! فحملنا ما بقي من لحمها. قال: "منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ ". قالوا: لا. قال: "فكلوا ما بقي من لحمها". [انظر: 1821 - مسلم: 1196 - فتح: 4 \ 28]

ثم ساقه.


وقال في باب: لا يعين: قال لنا عمرو: اذهبوا إلى صالح فسلوه عن هذا وغيره. يعني أن ابن عيينة قال لنا ذلك، وعمرو هو ابن دينار، كأن عمرا دلهم على أخذه من صالح.

وفي "شرح ابن بطال" بعد كلامه على الآية باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله، ثم ساق أثر أنس وابن عباس ، وحديث أبي قتادة.

إذا عرفت ذلك; فالكلام عليه من وجوه:

[ ص: 339 ] أحدها: فيه من الفقه:

أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده أو لم يصد من أجله وصاده حلال، وفي ذلك دليل أن قوله تعالى: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما أن معناه: الاصطياد، وقتل الصيد وأكله لمن صاده، وإن لم يصده فليس ممن عني بالآية يبينه قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لأن هذه إنما نهى فيها عن قتله واصطياده لا غير، وهذه مسألة اختلف فيها السلف قديما، فذهبت طائفة إلى أنه يجوز للمحرم أكل ما صاده الحلال، روي عن عمر وعثمان والزبير وعائشة وأبي هريرة، وإليه ذهب الكوفيون وذهبت طائفة إلى أن ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله، وما لم يصد له فلا بأس بأكله، وهو الصحيح عن عثمان، وروي عن عطاء، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود.

قال أبو عمر: وهو أعدل المذاهب وأولاها، وعليه يصح استعمال الأحاديث وتحريمها، وفيه مع ذلك نص حسن -يعني: حديث جابر الآتي - وذكر ابن القصار أن المحرم إذا أكل ما صيد من أجله فعليه الجزاء استحسانا لا قياسا، وعند أبي حنيفة والشافعي: لا جزاء عليه.

واحتج الكوفيون بقوله - عليه السلام - للمحرمين: "كلوا" قالوا: فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده في وقت ما صاده إرادة منه أن يكون له خاصة، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، وقد أباح ذلك له ولهم، ولم يحرمه; لإرادته أن يكون لهم معه، وقواه الطحاوي بإجماعهم أن الصيد لحرمة الإحرام على المحرم، ولحرمة الحرم على الحلال، وكان [ ص: 340 ] من صاد صيدا في الحل فذبحه فيه، ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله فيه، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم (كله) كإدخاله الصيد حيا في الحرم; لأنه لو كان كذلك لنهي عن إدخاله فيه، ومنع من أكله كما يمنع من الصيد ولكان إذا أكله في الحرم وجب عليه ما يجب في قتله فلما كان الحرم لا يمنع من لحم الصيد الذي صيد في الحل كما يمنع صيد الحي كان النظر على ذلك أن يكون كذلك الإحرام يحرم على المحرم الصيد ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلال ذبحه قياسا ونظرا.

وحجة من أجاز له أكل ما لم يصد له; لأن أبا قتادة إنما صاده لنفسه لا للمحرمين، اجتمع وكان وجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - طريق البحر مخافة العدو فلم يكن محرما حين اجتمع مع أصحابه; لأن مخرجهم لم يكن واحدا، فلم يكن صيده للمحرمين ولا بعونهم، ألا ترى قوله: (فأبوا أن يعينوني) فلذلك أجاز لهم أكله، وعلى هذا تتفق الأحاديث في أكل الصيد ولا تتضاد، وقد روي هذا المعنى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى جابر مرفوعا: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم" صححه الحاكم على شرط الشيخين، [ ص: 341 ] ...........................

[ ص: 342 ] وقال أحمد: وإليه أذهب.

وقالت طائفة: لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال، ولا يجوز لمحرم أكله على ظاهر قوله تعالى: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما قال ابن عباس : هي مبهمة. وهو مذهب علي وابن عمر ، وبه قال الثوري، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وبه قال إسحاق، واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الآتي بعد، وفيه: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" فلم يعتل بغير الإحرام، واعتل من أجاز أكله بأنه - عليه السلام - إنما رده; لأنه كان حيا ولا يحل للمحرم قتل الصيد ولو كان لحما لم يرده; لقوله في حديث أبي قتادة، وستأتي رواية من روى أن الحمار كان مذبوحا، في باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا لم يقبل، وإنما لم يجعل - عليه السلام - ضحك المحرمين بعضهم إلى [ ص: 343 ] بعض دلالة على الصيد وأباح لهم أكله; لأن ضحك المحرم إلى المحرم مثله ممن لا يحل له الصيد لا حرج فيه، وإن كان قد آل إلى أن تنبه عليه أبو قتادة فلم يكن أبو قتادة عندهم ممن يقتنص صيدا، فلذلك لم يجب عليهم جزاء ولا حرم عليهم أكله، وأما إذا أشار المحرم على قانص بصيد أو طالب له أو أغراه به أو أعطاه سلاحا أو أعانه برأي فيكره له أكله لقوله - عليه السلام -: "أمنكم أحد أمر أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " قالوا: لا. قال: "كلوا ما بقي من لحمها".

وفي ذلك دليل على أنه لا يحرم عليهم بما سوى ذلك، ودل ذلك على أن معنى قوله في الحديث السالف "أو يصاد لكم" أنه على ما صيد لهم بأمرهم، وهو يدل على أن المحرم إذا أعان على الصيد [ ص: 344 ] بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز، واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن دل محرم حلالا على صيد أو أشار إليه أو ناوله سيفا أو شبهه حتى قتله فعلى المحرم الدال أو المعين له الجزاء، روي ذلك عن علي وابن عباس ، وقال به عطاء والكوفيون وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقوله: "هل أشرتم أو أعنتم؟ " قالوا: لا. فدل ذلك أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك، فجعل الإشارة والمعاونة كالقتل; لأن الدلالة سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد، فوجب الجزاء، دليله من نصب شبكة حتى وقع فيها صيد فمات، وقال مالك وابن الماجشون والشافعي وأبو ثور: لا جزاء على الدال، وهو قول أصبغ، واحتجوا فقالوا: الدال ليس بمباشر للقتل، وقد اتفقنا على أنه لو دل حلال حلالا على قتل صيد في الحرم لم يكن على الدال جزاء; لأنه لم يحصل منه قتل الصيد، فكذلك ها هنا، وقد تقرر أنه لو دل على رجل مسلم فقتله المدلول لم يجب على الدال ضمان، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الصيد، ولا حجة للكوفيين في حديث أبي قتادة; لأنه إنما سألهم عن الإشارة والمعاونة; لأجل أنه يكره لهم أكله، ولم يتعرض لذكر الجزاء، فمن أثبت الجزاء فعليه الدليل، وأيضا فإن القاتل انفرد بقتله بعد الدلالة بإرادته واختياره مع كون الدال منفصلا عنه فلا يلزمه ضمان، وهذا كمن دل محرما أو صائما على امرأة فوطئها، ومحظورات الإحرام لا تجب فيها الكفارات بالدلالة كمن دل على طيب أو لباس.

[ ص: 345 ] تنبيهات:

أحدها: فيه أنه لا يعان المحرم على الصيد بقول ولا فعل.

ثانيها: مجاوزة أبي قتادة المواقيت يحتمل أن يكون لم يقصد نسكا وإنما جاء لكثرة الجمع، ويجوز أن تكون المواقيت لم توقت إذ ذاك.

قال الأثرم: كنت أسمع أصحاب الحديث يتعجبون من هذا الحديث، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات غير محرم، ولا يدرون ما وجهه حتى رأيته مفسرا، وفي رواية عياض بن عبد الله عن أبي سعيد -أي: في "الصحيح"- قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا، فلما كنا مكان كذا وكذا إذا نحن بأبي قتادة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه في شيء سماه، فذكر حديث الحمار الوحشي.

وعند الطحاوي: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة على الصدقة. قال أبو سعيد: وخرج هو - عليه السلام - وأصحابه محرمون حتى نزلوا عسفان. وفي "الإكليل" للحاكم من حديث الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه قال: سلكنا في عمرة القضية على الفرع، وقد أحرم أصحابي غيري فرأيت حمارا، الحديث. فزعم المنذري أن أهل المدينة أرسلوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمونه أن بعض العرب ينوي غزو المدينة، والثابت في "الصحيح": خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا المحرم ومنا غير المحرم، وفي لفظ: أحرم الصحابة ولم يحرم هو.

[ ص: 346 ] ثالثها: قوله: (يضحك بعضهم إلى بعض) ووقع في رواية: فضحك بعضهم إلي، بتشديد الياء وهو خطأ وتصحيف كما قال القاضي، والصواب: يضحك إلى بعض، فأسقط لفظة (بعض) والصواب إثباتها; لأنهم لو ضحكوا إليه كانت إشارة منهم، وقد صرح في الحديث أنهم لم يشيروا إليه.

قال النووي: لا يمكن رد هذه الرواية فقد صحت هي والرواية الأخرى وليس في واحدة منهما دلالة ولا إشارة إلى الصيد، وأن مجرد الضحك ليس فيه إشارة منهم، وإنما تعجبوا من عروض الصيد ولا قدرة لهم عليه، ومنعهم منه. وكذا قال ابن التين: يريد أنهم لم يخبروه بمكان الصيد حتى رآه بنفسه ولا أشاروا إليه. وفي الحديث ما يقتضي أن ضحكهم ليس بدلالة ولا إشارة، بين ذلك في حديث عثمان بن موهب فقال: "أمنكم أحد أشار إليه؟ ". فقالوا: لا.

رابعها: معنى: (أرفع فرسي شأوا) أي: أرفعه في سيره وأجريه، والشأو: الطلق والغاية، ومعناه: أركضه ركضا شديدا وقتا، وأسهل سيره وقتا، وقال ابن التين: الرفع دون الحضر والشأو: الرفعة، وهو أشبه بالحديث، وقيل: الشأو: الغاية، وقال ابن فارس: السبق، قال: ومرفوع الناقة في السير خلاف موضوعها.

خامسها: قوله: (وهو قائل السقيا) قال ابن التين: هي سقيا بني غفار. قلت: وهي بضم السين المهملة وسكون القاف ثم مثناة تحت ثم ألف مقصورة. قال عياض: هي قرية جامعة بين مكة والمدينة من [ ص: 347 ] عمل الفرع. قال أبو عبيد: قال كثير: إنما سميت بذلك لما سقيت من الماء العذب، وهي كثيرة الآبار والعيون والبرك، وكثير فيها صدقات للحسين بن زيد. وقال ياقوت: هي من البحر على سبعة فراسخ، وفي "الأماكن" للزمخشري السقيا: السيل الذي تفرع في عرفة بمسجد إبراهيم.

وفي قوله: "قائل السقيا" وجهان: أصحهما وأشهرهما كما قال النووي من القيلولة يعني: تركته بتعهن وفي عزمه أن يقيل بالسقيا.

والثاني بالباء الموحدة، وهو ضعيف غريب، وكأنه تصحيف وإن صح فمعناه: أن تعهن موضع مقابل السقيا.

سادسها: (تعهن) بالتاء المثناة فوق، قال أبو عبيد: صح أنها موضع بين القاحة والسقيا، وقال صاحب "المطالع": تعهن: عين ماء وهي على ثلاثة أميال من السقيا، وهي بكسر الأول والثالث، كذا ضبطناه عن شيوخنا، وكذا قيده البكري، وضبطناه عن بعضهم بفتح أوله وكسر ثالثه، وإسكان العين في كلا الضبطين، وعن أبي ذر: تعهن. قال عياض: بلغني عن أبي ذر أنه قال: سمعت العرب تقوله بضم التاء وفتح العين وكسر الهاء، قال: وهذا ضعيف.

سابعها: قوله: (إنهم خشوا أن يقتطعوا دونك) وقع في رواية أبي الحسن بالهمز ولا وجه له. كما قال ابن التين. وقوله: (وعندي [ ص: 348 ] منه فاضلة) أي: قطعة فضلت وهيئت، وروى بعضهم: فاضله بضم اللام وهاء ضمير بعدها.

وقوله للقوم: "كلوا" وهم محرمون، فيه جواز أكل المحرم من الصيد إذا لم يصد من أجله، ولم يعن عليه ولا أشار كما سلف، وهو قول كافة الفقهاء. وغيقة في الحديث الثاني بفتح الغين المعجمة ثم ياء مثناة تحت ثم قاف ثم هاء، قال أبو عبيد: هو موضع رسم رضوى لبني غفار بن مليل وهو بين مكة والمدينة، وقال يعقوب: غيقة: قليب لبني ثعلبة حذاء النواشر، والنواشر قارات بأعالي وادي المياه لهم ولأشجع.

قال أبو عبيد: وغيقة لبني غفار صحيح. وفي "شرح شعر كثير" ليعقوب: غديقة.. على شاطئ البحر فوق العذيبة، قال: وغيقة أيضا سرة واد لبني ثعلبة، وقال مرة: غيقة موضع عند حرة النار لبني ثعلبة بن سعد بن ذبيان.

والقاحة: بقاف ثم ألف ثم حاء مهملة خفيفة على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا بنحو ميل، قال عياض: كذا قيدوه، ورواه بعضهم عن البخاري بالفاء، وهو وهم، والصواب بالقاف، وزعم ابن إسحاق في "مغازيه" أنها بفاء وجيم، ورد ذلك عليه ابن هشام، وقال الحازمي: هي موضع بين الجحفة وقديد.

[ ص: 349 ] ثامنها: قوله: (فأثبته) أي: تركته في مكانه لا يفارقه، وكانت فرسه يقال لها: الجرادة.

وقوله: (وخشينا أن نقتطع) ضبط بالتاء والنون وبالمثناة تحت.

قال ابن قرقول: أي يحوزنا العدو عنك، ومن حملتك وكذلك "تقتطع دوننا" أي: يؤخذ وينفرد به. وقال القرطبي: أي خفنا أن يحال بيننا وبينهم ويقتطعوا بنا عنهم.

وقوله: (إنا اصدنا حمار وحش) كذا هو مضبوط بتشديد الصاد، وفي نسخة: (صدنا) قال ابن التين في الأول: كذا وقع واللغة على صدنا من صاد يصيد، وكذا وقع عند الأصيلي صدنا، وقال بعضهم: من أدغم فعلى لغة من يقول مصبر في مصطبر، وقراءة بعضهم: (أن يصلحا بينهما صلحا) [النساء: 128].

وقوله: (بالقاحة) من المدينة على ثلاث مراحل. وقد سلف، والأكمة: التل، وسلف في الاستسقاء ويجمع أكم ثم أكام، والأتان أنثى من الحمر وجمعها أتن، ذكره ابن فارس.

تاسعها: قوله: (انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية) وفي الباب الأخير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجا والحديبية لا حج فيها، وإنما كانت عمرة ولم يحج إلا حجة الوداع، فالمراد: حاجا أي: معتمرا; [ ص: 350 ] لأنه القصد.

وقوله: فأحرموا كلهم إلا أبو قتادة . هذا على قول الكوفيين; لأنه استثناء من الموجب، ولم يجزه البصريون.

وقوله: (فنظر أصحابي بحمار وحش) أدخل الباء، وإن كان نظر متعديا حملا على بصر، فكأنه قال: فبصر أصحابي بحمار وحش، وكذا وقع لأبي ذر: فبصر، وجاء في رواية: أعنتم أو أصدتم؟ بتشديد الصاد وتخفيفها، يعني: أمرتم به أو جعلتم من يصيده، وقيل معناه: أثرتم الصيد من موضعه، يقال: أصدت الصيد -مخففا -أي: أثرته. وهو أولى من رواية أصدتم بالتشديد; لأنه - عليه السلام - علم أنهم لم يصيدوا، وإنما سألوه عما صاده غيرهم، نعم قال ابن درستويه: أصدتم كلام العامة، وقال اللبلي وغيره: لم نر من قاله بالألف، وفي "المحكم" عن ابن الأعرابي: صدنا كمأة، قال: وهو من جيد كلام العرب ولم يفسره، قال ابن سيده: وعندي أنه يريد استثرنا كما يقال: استثار.

قلت: ولعل هذا الموقع لمن قال: أصدت أي: أثرت.

العاشر: الذي في ألفاظ الصحيح أنه - عليه السلام - أكل منه. وفي الدارقطني عن أبي قتادة: إني إنما اصطدته لك، فأمر أصحابه - عليه السلام - فأكلوه، ولم يأكله هو، قال أبو بكر النيسابوري: قوله: اصطدته. وقوله: ولم يأكله. لا أعلم أحدا ذكره في هذا الحديث غير معمر، [ ص: 351 ] وهو موافق لما روي عن عثمان بن عفان . وقال غيره: هذه لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه.

الحادي عشر: حاصل ما في أكل المحرم الصيد مذاهب:

أحدها: أنه ممنوع مطلقا صيد لأجله أولا، وهذا مذكور عن بعض السلف، دليله حديث الصعب بن جثامة الآتي، وروي عن علي وابن عمر وابن عباس .

ثانيها: أنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه، وهو مذهب مالك والشافعي.

ثالثها: إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإلا فلا، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال ابن العربي: يأكل ما صيد وهو حلال، ولا يأكل ما صيد بعد، وحديث أبي قتادة هذا يدل على جواز أكله [ ص: 352 ] في الجملة، وهو على خلاف المذهب الأول، ويدل ظاهره أنه إذا لم يشر المحرم عليه ولا دل يجوز أكله، وقد سلف أنه لم يأكل منه في رواية، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن دل عليه فعليه الجزاء.

فائدة: صيد البر أكثر ما يكون توالده ومثواه في البر، وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في الماء، والصيد هو الممتنع المتوحش في أصل الخلقة.

فائدة: عزا صاحب "الإمام" إلى النسائي من حديث أبي حنيفة عن هشام، عن أبيه، عن جده الزبير قال: كنا نحمل الصيد ضعيفا، ونتزوده ونحن محرمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الحافظ أبو عبد الله البلخي في "مسند أبي حنيفة" من هذا الوجه، ومن جهة إسماعيل بن يزيد عن محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة.

فائدة أخرى: روى أبو يعلى الموصلي في "مسنده" من حديث محمد بن المنكدر : ثنا شيخ لنا، عن طلحة بن عبيد الله أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن محل أصاب صيدا أيأكله المحرم؟ قال: "نعم" ولمسلم: أهدي لطلحة طائر وهو محرم فقال: أكلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللدارقطني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه حمار وحش وأمره أن يفرقه في الرفاق، قال: والصحيح أنه من رواية عمير بن [ ص: 353 ] سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولما ذكر مهنا عن أحمد أنه قال: أذهب لحديث جابر السالف، قال: ويروى عن طلحة والزبير وعمر وأبي هريرة: فيه رخصة، ثم قال: عائشة تكرهه وغير واحد، ولما ذكر له حديث عبد الرزاق ، عن الثوري، عن قيس، عن الحسن بن محمد، عن عائشة: أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشيقة لحم وهو محرم فأكله، فجعل أبو عبد الله ينكره إنكارا شديدا، وقال: هذا سماع منكر.

وللدارقطني: امتنع عثمان أن يأكل من ظبية أهديت له، فسئل عن ذلك فقال: إنما صيد لي وأصيب باسمي.

وفي "الموطأ": أن أبا هريرة سئل عن لحم صيد وجده المحرمون، فأفتاهم بأكله، ثم سأل عمر فقال: لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك.

التالي السابق


الخدمات العلمية