التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
154 [ ص: 149 ] 20 - باب: الاستنجاء بالحجارة

155 - حدثنا أحمد بن محمد المكي قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي، عن جده، عن أبي هريرة قال: اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لحاجته، فكان لا يلتفت، فدنوت منه، فقال: " ابغني أحجارا أستنفض بها - أو نحوه- ولا تأتني بعظم ولا روث". فأتيته بأحجار بطرف ثيابي، فوضعتها إلى جنبه وأعرضت عنه، فلما قضى أتبعه بهن. [3860 - فتح: 1 \ 255]


حدثنا أحمد بن محمد المكي، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي، عن جده، عن أبي هريرة قال: اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لحاجته، فكان لا يلتفت، فدنوت منه، فقال: "ابغني أحجارا أستنفض بها -أو نحوه- ولا تأتني بعظم ولا روث". فأتيته بأحجار بطرف ثيابي، فوضعتها إلى جنبه وأعرضت عنه، فلما قضى أتبعه بهن.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث من أفراد البخاري وذكره في ذكر الجن مطولا.

وأخرج مسلم نحوه وكذا ابن ماجه والنسائي.

ثانيها: في التعريف برواته:

أما أبو هريرة فسلف.

وأما (جد عمرو) فهو سعيد بن عمرو (خ. م. د. س. ق) بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة التابعي الكوفي الثقة. عن ابن عباس [ ص: 150 ] وغيره. وعنه ابناه: إسحاق وخالد، وحفيده عمرو بن يحيى. أخرجوا له خلا الترمذي.

وحفيده (عمرو) قرشي مكي صالح، روى عن أبيه وجده، وعنه سويد وغيره. روى له مع البخاري ابن ماجه فقط.

وأما أحمد (خ) بن محمد؛ فهو أبو الوليد الغساني الأزرقي المكي الثقة. عنه البخاري، وحفيده مؤرخ مكة محمد بن عبد الله، وأبو جعفر الترمذي، وطائفة. وروى عن مالك وغيره. مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين.

[ ص: 151 ] ثالثها: في ألفاظه:

معنى (اتبعت): لحقت، وهو رباعي، يقال: أتبعته؛ إذا سبقك فلحقته، وتبعته واتبعته؛ إذا مشيت خلفه، أو مر بك فمضيت معه، كذا قاله ابن التين في "شرحه" وقال: يحتمل الحديث الوجهين. وتبعه شيخنا قطب الدين في "شرحه"، وهذا ما حكاه ابن سيده بعد أن قرر أن معنى تبعه واتبعه وأتبعه: قفاه، قال: وفي التنزيل: ثم أتبع سببا [الكهف: 89] ومعناها: تبع، وقرأ أبو عمرو: (ثم اتبع)؛ أي: لحق وأدرك، كذا حكاه عنه، وحكى القزاز عن الكسائي أنه كان يقرأ: (ثم اتبع سببا)، يريد لحق وأدرك، وحكي مثله عن أبي عمرو أنه قرأ: (ثم اتبع سببا).

وقال ابن طريف في "أفعاله": المشهور: تبعته: سرت في أثره، واتبعته: لحقته. وكذلك فسر في التنزيل: فأتبعوهم مشرقين [الشعراء:60]؛ أي: لحقوهم. وقال الجوهري: تبعت القوم؛ إذا مشيت أو مر بك فمضيت معهم. وقال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى.

قوله: (وكان لا يلتفت) هذه كانت عادة مشيه صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 152 ] وقوله: (فدنوت منه)؛ أي: لأستأنس به وأنظر حاجته، وقد جاء في رواية: فدنوت منه أستأنس وأتنحنح، فقال: "من هذا؟ " فقلت: أبو هريرة.

وقوله: ("ابغني أحجارا") قال ابن التين: رويناه بالوصل، (قال الخطابي: معناه: اطلب لي، فإذا قطعت الألف فمعناه: أعني على الطلب. وقال الخطابي: معناه: اطلب لي، من قولك: بغيت الشيء؛ طلبته). وبغيتك الشيء: طلبته لك، وأبغيتك الشيء: جعلتك طالبا له، قال تعالى: يبغونكم الفتنة [التوبة: 47]؛ أي: يبغونها لكم.

وقوله: "أستنفض بها"؛ أي: أستنج بها، وهو مأخوذ من النفض; لأن المستنجي ينفض عن نفسه أذى الحدث والاستمرار. قال القزاز: كذا روي هذا الحرف كأنه استفعل من النفض وهذا موضع: (أستنظف).

أي: أنظف نفسي بها ولكن هكذا روي.

وقوله: (أو نحوه)؛ الظاهر أنه أراد: أو نحو هذا من الكلام.

وقوله: (بطرف ثيابي) جاء في "صحيح الإسماعيلي": في طرف ملائي.

رابعها: في فوائده:

الأولى: جواز الاستنجاء بالأحجار، وقد سلف ما فيه في باب: الاستنجاء بالماء.

الثانية: مشروعية الاستنجاء، وقد اختلف في وجوبه على قولين:

[ ص: 153 ] أحدهما: أنه واجب وشرط في صحة الصلاة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وداود، وجمهور العلماء ومالك في رواية.

وثانيهما: أنه سنة، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن مالك، وحكي عن المزني أيضا، وجعل أبو حنيفة هذا أصلا للنجاسة، فما كان منها قدر درهم بغلي عفي عنه; وإن زاد فلا، وكذا عنده في الاستنجاء: إن زاد الخارج على درهم وجب وتعين الماء، ولا يجزئه الحجر.

ولا يجب عنده الاستنجاء بالحجر.

واحتجوا بحديث أبي هريرة المروي في (سنن أبي داود) و(ابن ماجه): "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن; ومن لا فلا حرج"; ولأنها نجاسة لا تجب إزالة أثرها فكذا عينها كدم البراغيث، ولأنه لا يجب إزالتها بالماء فلم يجب بغيره.

قال المزني: ولأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم يجب إزالتها كالمني، واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة أيضا الثابت: "وليستنج بثلاثة أحجار". رواه الشافعي; وقال: إنه حديث ثابت.

[ ص: 154 ] ورواه الأربعة خلا الترمذي، وبحديث سلمان الثابت في "صحيح مسلم": نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار. وبحديث عائشة الثابت في "مسند أحمد" و"سنن أبي داود" وابن ماجه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه".

قال الدارقطني بعد أن أخرجه: إسناده حسن صحيح.

ومنها حديث خزيمة: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاستطابة فقال: "بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع" رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه، وفي الباب عن جابر في مسلم، والسائب وأبي أيوب عند ابن عبد البر، وأنس عند البيهقي. وسهل; وابن عباس عند الدارقطني، وحسن الأول.

واحتج أصحابنا أيضا بحديث ابن عباس الآتي "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول" وفي الاستدلال به وقفة; ولأنه نجاسة [ ص: 155 ] لا تلحق المشقة في إزالتها غالبا فلم تصح الصلاة دونه.

والجواب عن حديثهم بأن في إسناده مقالا، ولئن سلمنا حسنه فالمراد: ولا حرج في ترك الإيتار؛ أي: الزائد على ثلاثة أحجار جمعا بينه وبين باقي الأحاديث كحديث سلمان وغيره.

وعن قياسهم (على) دم البراغيث عظم المشقة بخلاف أصل الاستنجاء؛ ولهذا تظاهرت الأحاديث الصحيحة على الأمر بالاستنجاء، ولم يرد خبر بإزالة دم البراغيث.

وقياس غير المني على المني لا يصح؛ لطهارته ونجاسة غيره.

الفائدة الثالثة:

لا يتعين الحجر للاستنجاء بل يقوم مقامه كل جامد طاهر قالع غير محترم، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكي عن داود من تعيينه وأن غيره لا يجوز، وإن أنكر القاضي أبو الطيب حكايته عنه وقال: إن مذهبه كمذهب الكافة.

حجة الكافة: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الروث والعظم، وهو دال على عدم تعيينه وأن غيره يقوم مقامه، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهي معنى، وأما تنصيصه - صلى الله عليه وسلم - على الأحجار؛ فلكونها الغالب المتيسر وجودها بلا مشقة فيها، ولا كلفة في تحصيلها، ومنعه أصبغ في الخرق واللحم [ ص: 156 ] ونحوهما مما هو طاهر ولا حرمة له ولا هو من أنواع الأرض وقال: يعيد إن فعل في الوقت.

الرابعة: أنه لا يجوز الاستنجاء بنجس، وهو مذهب الجمهور، وجه الاستنباط منه أنه نبه بالروث على جنس النجس. وجوزه أبو حنيفة بالروث، وحكاه ابن وهب عن مالك.

وحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة يرد عليهما.

الخامسة: أنه لا يجوز الاستنجاء بعظم، وبه قال الشافعي وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة ومالك: يصح الاستنجاء به، وقال بعض الشافعية: إنه يجزئه إن كان طاهرا لا زهومة عليه؛ لحصول المقصود. حجة الأولين أنه رخصة فلا تحصل بحرام.

[ ص: 157 ] فرع:

لو أحرق العظم الطاهر بالنار وخرج عن حال العظم فوجهان، حكاهما الماوردي من أصحابنا:

أحدهما: يجوز الاستنجاء به; لأن النار أحالته.

والثاني: لا; لعموم النهي عن الرمة وهي: العظم البالي، ولا فرق بين البلى بالنار أو بمرور الزمان، وهذا أصح.

فائدة:

الحكمة في النهي عن الاستنجاء بالعظم، أنه زاد إخواننا من الجن كما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث ابن مسعود: "لا تستنجوا بالعظم والبعر، فإنهما طعام إخوانكم من الجن". وقد أخرجه البخاري في "صحيحه" في أثناء المناقب من حديث أبي هريرة ولفظه: فلما فرغ فقلت: ما بال العظم والروث؟ فقال: "هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين - ونعم الجن- يسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما".

قلت: وقد يأكله بعض الناس; للضرورة. وقيل: نهى عنه; لأنه لزج لا يكاد يتماسك فيزيل الأذى إزالة تامة، والحكمة في النهي عن الروث ما ذكرناه أيضا، ومر بي أنه زاد لدوابهم. وقيل: لأنه يزيد في نجاسة الموضع; لأنه يمد النجاسة ولا يزيلها.

[ ص: 158 ] السادسة: أنه لا يجوز الاستنجاء بجميع المطعومات، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بالعظم على ذلك، ويلحق بها المحرمات كأجزاء الحيوان وأوراق كتب العلم وغير ذلك.

السابعة: إعداد الأحجار للاستنجاء; لئلا يحتاج إلى طلبها بعد قيامه فلا يأمن التلويث.

التالي السابق


الخدمات العلمية