التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1767 1866 - حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، أن يزيد بن أبي حبيب أخبره، أن أبا الخير حدثه، عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته، فقال - عليه السلام -: " لتمش ولتركب". قال: وكان أبو الخير لا يفارق عقبة.

حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن يحيى بن أيوب ، عن يزيد، عن أبي الخير ، عن عقبة. فذكر الحديث. [ مسلم: 1644 - فتح: 4 \ 78]
حدثنا محمد بن سلام ، أنا الفزاري، عن حميد الطويل أخبرني ثابت، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخا يهادى بين ابنيه قال: "ما بال هذا؟ ". قالوا: نذر أن يمشي. قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني". وأمره أن يركب.

ثم ساق حديث أبي الخير -وهو مرثد بن عبد الله اليزني - عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته، فقال - عليه السلام -: "لتمش ولتركب" قال: وكان أبو الخير لا يفارق عقبة.

ثم ذكره بسند آخر.

[ ص: 489 ] الشرح:

هذا الحديث يأتي في الأيمان والنذور أيضا، والفزاري هذا هو أبو إسحاق أو مروان بن معاوية، قاله ابن حزم، وكلاهما ثقة إمام، وأما خلف وأبو نعيم والطرقي في آخرين فذكروا أنه مروان، وأخرجه مسلم في النذور عن أبي عمر، ثنا مروان، ثنا حميد، فذكره، وأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي أيضا، وللترمذي أيضا من حديث عمران القطان، عن حميد، عن أنس، محسنا: نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله تعالى، فسئل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال: "إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب".

والرجل المهادى هو أبو إسرائيل كما قال الخطيب، وقال النووي: [ ص: 490 ] اسمه قيس، وقيل قيصر. قلت: لم أر في الصحابة من اسمه قيصر، وقيل يسير.

وحديث عقبة أخرجه مسلم أيضا وقال: أن تحج حافية.

ولما أسنده الإسماعيلي قال: حديث هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن سعيد بن أبي أيوب -يعني: طريق البخاري- هذا الحديث مما لا يعرف ويخشى أن يكون غلطا، وتابع سعيد بن أبي أيوب يحيى بن أيوب ، وليس من شرط أبي عبد الله في هذا الكتاب، وأبو عاصم وروح تابعا هشاما وهما ثقتان. يعني: وقد اتفقا على خلاف سعيد.

قلت: ورواه ابن عباس عن عقبة أخرجه أحمد بزيادة: "وشكى إليه ضعفها".

وفيه: "فلتركب ولتهد بدنة" وأخرجه أبو داود أيضا من حديث [ ص: 491 ] ابن عباس أن أخت عقبة. وفيه: "فإنها لا تطيق ذلك". وفيه: "ولتهد هديا" ورواه عبد الله بن مالك اليحصبي عن عقبة.

أخرجه الترمذي محسنا بلفظ: نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: "مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" وذكره أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مالك من غير ذكر نسبه، وزعم ابن عساكر أنه عبد الله بن مالك أبو تميم الجيشاني، وابن أبي حاتم وغيره يفرقون بين هذين الرجلين، وأما ابن يونس فجعلهما واحدا. وذكر بعضهم أن قول ابن يونس أولى بالصواب.

ورواه أبو موسى المديني في "الصحابة" من حديث يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن زحر، عن أبي سعيد الرعيني، عن [ ص: 492 ] عبد الله بن مالك الجهني أن عقبة بن مالك أخبره أن أخت عقبة نذرت أن تمشي إلى البيت حافية غير مختمرة، فذكره. وللطحاوي: نذرت أن تحج حافية ناشرة شعرها.

وأخت عقبة اسمها أم حبان -بكسر الحاء المهملة، ثم باء موحدة- وذكر أنها من المبايعات.

إذا تقرر ذلك فأهل الظاهر أخذوا بحديث أنس وعقبة بن عامر وقالوا: من عجز عن المشي فلا هدي عليه اتباعا للسنة في ذلك، قالوا: ولا يثبت شيء في الذمة إلا بيقين، وليس المشي مما يوجبه نذر; لأن فيه تعب الأبدان، وليس الماشي في حال مشيته في حرمه إحرام فلم يجب عليه المشي ولا بدل منه.

قال ابن حزم: من نذر أن يمشي إلى مكة أو إلى مكان ذكره من الحرم على سبيل التقرب، أو الشكر لله تعالى لا على سبيل اليمين، ففرض عليه المشي إلى حيث نذر للصلاة هنالك أو الطواف بالبيت فقط، ولا يلزمه أن يحج ولا أن يعتمر إلا أن ينذر ذلك وإلا فلا، فإن شق عليه المشي إلى حيث نذر من ذلك فليركب ولا شيء عليه، فإن ركب في الطريق كله بغير مشقة في طريقه فعليه هدي، ولا يعوض من ذلك صياما ولا طعاما، فإن نذر أن يحج ماشيا فليمش من [ ص: 493 ] الميقات حتى يتم حجه.

قلت: قد أسلفنا ذكر الصيام، وأما سائر الفقهاء فلهم في هذه المسألة ثلاثة أقوال غير هذا:

أولها: روي عن علي وابن عمر : أن من نذر المشي إلى بيت الله فعجز أنه يمشي ما استطاع فإذا عجز ركب وأهدى شاة، وهو قول عطاء والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: وكذلك إن ركب وهو غير عاجز، ويكفر عن يمينه لحنثه، وقال الشافعي: الهدي في هذه احتياط من قبل أنه من لم يطق شيئا سقط عنه، وحجتهم ما رواه همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس ، عن عقبة بن عامر : أن أخته نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "إن الله لغني عن نذر أختك فلتركب ولتهد".

ثانيها: يعود فيحج مرة أخرى ثم يمشي ما ركب ولا هدي عليه، هذا قول ابن عمر ، ذكره مالك في "الموطأ" وروي عن ابن عباس وابن الزبير والنخعي وسعيد بن جبير.

[ ص: 494 ] ثالثها: يعود فيمشي ما ركب وعليه الهدي، روي عن ابن عباس أيضا، وروي عن النخعي وابن المسيب، وهو قول (عن) مالك جمع عليه الأمرين المشي والهدي احتياطا; لموضع تفريقه بالمشي الذي كان لزمه في سفر واحد، فجعله في سفرين؛ قياسا على التمتع والقران.

وقال ابن التين: مذهب مالك: إذا عجز عن مشي البعض فإن ركب الكثير فعنه: يبتدئ المشي كله، وعنه: يرجع فيمشي ما ركب، وإن ركب يوما وليلة رجع فمشى ما ركب، وإن ركب أقل من ذلك فليس عليه الرجوع، ويجزئه الهدي، ويمكن أن يتأول لحديث أنس وعقبة بوجه موافق لفقهاء الأمصار حتى لا ينفرد أهل الظاهر بالقول بهما، وذلك أن في نصهما ما يبين المعنى فيهما وهو أنه - عليه السلام - رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه" فبان واتضح أنه كان غير قادر على المشي، وممن لا ترجى له القدرة عليه، ومن كان غير قادر على شيء سقط عنه.

والعلماء متفقون: أن الوفاء بالنذر إنما يكون فيما هو لله تعالى طاعة، والوفاء به بر، ولا طاعة ولا بر في تعذيب أحد نفسه، فكأن هذا الناذر قد نذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان في معنى أبي إسرائيل الذي نذر ليقومن في الشمس ولا يستظل ويصوم ذلك اليوم، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يجلس ويستظل ويصوم، ولم يأمره بكفارة.

[ ص: 495 ] وقد روي في حديث عقبة بن عامر ما يدل أن أخته كانت غير قادرة على المشي فلذلك لم يأمرها - عليه السلام - بالهدي، روى الطبري من حديث محمد بن أبي يحيى الأسلمي: حدثني إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر : أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة وهي امرأة ثقيلة والمشي يشق عليها، فذكر ذلك عقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، مرها فلتركب" فصح التأويل أنها نذرت، وهي في حال من لا ترجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبي إسرائيل.

والعلماء مجمعون على سقوط المشي عمن لا يقدر عليه، فسقوط الهدي أحرى، وإن كان مالك يستحب الهدي لمن عجز عن المشي.

قال الطحاوي: ونظرنا في قول من قال: ليس الماشي في حرمة إحرام، فرأينا الحج فيه الطواف والوقوف بعرفة وجمع، وكان الطواف منه ما يفعله الرجل في حال من إحرامه، وهو طواف الزيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحل من إحرامه، وهو طواف الصدر، وكان ذلك من أسباب الحج قد أريد أن يفعله الرجل ماشيا، وكان إن فعله راكبا مقصرا، وجعل - عليه السلام - هذا إذا فعله من غير علة فإن فعله من علة فالناس مختلفون في ذلك، قال أبو حنيفة وصاحباه: لا شيء عليه، وقال غيرهم: عليه دم; وهو النظر عندنا; لأن العلل إنما تسقط الآثام في انتهاك الحرمات ولا تسقط الكفارات كحلق الرأس في الإحرام، إن حلقه من غير عذر يسقط الإثم والكفارة، فإن اضطر إلى حلقه فعليه الكفارة ولا إثم عليه، وكذلك المشي الذي قبل [ ص: 496 ] الإحرام، فما كان من أسباب الحج كان حكمه حكم المشي الواجب في الإحرام، يجب على تاركه الدم.

وفيه: وجوب الوفاء بالنذر، وأن من نذر ما لا يستطيع لم يلزمه، وكذا ما يجهده، وإن حلف ولم ينذر ذلك وحلف بالمشي إلى مكة لزمه المشي عند سائر أصحاب مالك، وما يعزى لابن القاسم أنه أفتى في النذر بكفارة يمين لا يصح.

وقال الشافعي: يلزمه المشي بالنذر، ومن حلف به وجبت فعليه كفارة يمين، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم.

وفيه: قبول خبر الواحد.

التالي السابق


الخدمات العلمية