التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1848 [ ص: 349 ] 39 - باب: وعلى الذين يطيقونه فدية [البقرة: 184]

قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى قوله ولا يريد بكم العسر [البقرة: 185]. وقال ابن نمير : حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، حدثنا ابن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها وأن تصوموا خير لكم [البقرة: 184] فأمروا بالصوم

1949 - حدثنا عياش، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قرأ: فدية طعام مساكين. قال: هي منسوخة. [4506 - فتح: 4 \ 187]


ثم ساق عن نافع، عن ابن عمر قرأ: "فدية طعام مساكين". قال: هي منسوخة .

وقال ابن نمير : حدثنا الأعمش، ثنا عمرو بن مرة، ثنا ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختهاوأن تصوموا خير لكم فأمروا بالصوم

الشرح:

أثر ابن عمر أخرجه أيضا في التفسير وقال: طعام مسكين ،

[ ص: 350 ] وكذا رواه الإسماعيلي في "صحيحه". وأثر سلمة أخرجه في تفسيره عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن يزيد بن أبي عبيد، عنه بلفظ قال: لما نزلت وعلى الذين يطيقونه كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها .

وفي "مستدرك" الحاكم عنه وقال: صحيح على شرط الشيخين أنه قرأ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد فمن تطوع خيرا .

قال: زاد مسكينا آخر فهو خير له وليست منسوخة إلا أنه رخص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام، وأمر أن يطعم الذي يعلم أنه لا يطيق . وفي رواية له على شرط البخاري ولا قضاء عليه .

وفي الجزء الخامس من حديث أبي عبد الله محمد بن جعفر ونفيل البغدادي، عن ابن عباس وعلى الذين يطيقونه قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام يفطر ويطعم نصف صاع، مكان كل يوم . ثم قال: محفوظ من حديث الثوري يعني عن منصور، عن مجاهد عنه. موقوف. وفليح من حديث عبد الله بن الوليد العدني، عنه، ثم ساقه.

وتعليق ابن نمير أسنده أبو نعيم عن أبي إسحاق، ثنا ابن زيدان، ثنا أبو كريب والحسن بن عفان قالا: ثنا ابن نمير، ثنا الأعمش بلفظ: ثنا صاحب محمد قال: أحيلت الصلاة على ثلاثة أحوال، قال: ونزل رمضان فشق عليهم .. الحديث.

[ ص: 351 ] وأسنده البيهقي من حديث علي يعني: ابن الربيع الأنصاري، ثنا عبد الله بن نمير بلفظ، ثنا أصحاب محمد قال: أحيل الصوم على ثلاثة أحوال.

ثم ساقه من حديث المسعودي، عن عمر، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: أحيل الصيام ثلاثة أحوال فذكره .

وهذا يبين الصاحب من هو، لكن قال البيهقي : إنه مرسل، ابن أبي ليلى لم يدرك معاذا ، وللحازمي من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو به قال: وذكر فيه أن ذلك كان على وجه التطوع لا على جهة الفرض .

إذا تقرر ذلك فاختلف العلماء في تأويل هذه الآية; فروي عن عائشة وابن عباس في رواية، وعكرمة وسعيد بن جبير وطاوس وعمرو بن دينار ومجاهد : أنهم قرءوها (يطوقون) بفتح أوله وثانيه مشددا ، قال: الذين يحملونه ولا يطيقونه فدية ، فعلى هذا القول الآية محكمة غير منسوخة

[ ص: 352 ] يعني: في الشيخ والحامل والمرضع، وهو قول حسن كما قال أبو عبيد، ولكن الناس ليسوا عليه; لأن الذي ثبت بين اللوحين في مصاحف أهل العراق والحجاز والشام وعلى الذين يطيقونه ولا تكون الآية على هذا اللفظ إلا منسوخة، روي ذلك عن عمر وسلمة بن الأكوع ومعاذ وابن أبي ليلى وعلقمة والنخعي والحسن والشعبي والزهري ، ونقله القاضي عياض عن جمهور . فتفرق الناس في ناسخ هذه الآية ومنسوخها على أربعة منازل، لكل واحدة منهن حكم سوى حكم الأخرى:

فالفرقة الأولى: وهم أصحاء ففرضهم الصيام ولا يجزئهم غيره لزمهم ذلك بالآية المحكمة وهي قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه .

والثانية: هم مخيرون بين الإفطار والصيام، ثم عليهم القضاء بعد ذلك -ولا طعام عليهم- وهم المسافرون، والمرضى بقوله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر .

والثالثة: هم الذين لهم الرخصة في الإطعام -ولا قضاء عليهم- وهم الشيوخ الذين لا يستطيعون الصيام .

[ ص: 353 ] والرابعة: هم الذين اختلف العلماء فيهم بين القضاء والإطعام، وبكل ذلك قد جاء به تأويل القرآن، وأفتت به الفقهاء فذهب القاسم وسالم وربيعة ومكحول وأبو ثور إلى أن الشيخ إن استطاع الصوم صام، وإلا فليس عليه شيء; لقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقرة: 286] إلا أن مالكا استحب له الإطعام عن كل يوم مدا، وحجة هذا القول: أن الله تعالى إنما أوجب الفدية قبل لنسخ على المطيقين دون غيرهم وخيرهم فيه بين أن يصوموا بقوله: وعلى الذين يطيقونه فدية ثم نسخ ذلك وألزمهم الصوم حتما وسكت عمن لا يطيق. فلم يذكره في الآية فصار فرض الصيام زائلا عنهم كما زال فرض الزكاة والحج عن المعدمين الذين لا يجدون إليه سبيلا .

وأبى ذلك أهل العراق والثوري، وأوجبوا الفدية على الشيخ وقالوا: إن الزكاة والحج لا يشبهان الصيام; لأن الكتاب والسنة فرق بينهما وذلك أن الله تعالى جعل من الصوم بدلا أوجبه على كل من حيل بينه وبين الصيام -وهو الفدية - كما جعل التيمم بدلا من الطهور واجبا على من أعوزه الماء، وكما جعل الإيماء بدلا من الركوع والسجود لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزكاة والحج بدلا لمن لا يقدر عليهما، وإلى هذا ذهب الكوفيون والأوزاعي والشافعي، وحكي عن علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير وطاوس وأحمد .

[ ص: 354 ] وأما الفرقة الرابعة: فالحامل والمرضع وفيهما اختلف الناس قديما وحديثا، فقال بعض العلماء: إذا ضعفتا عن الصيام وخافت على نفسها وولدها أفطرت وأطعمت عن كل يوم مسكينا، فإذا فطمت ولدها قضته، وهو قول مجاهد ، وأحمد .

وعند الشافعي : إن أفطرتا خوفا على أنفسهما وجب القضاء بلا فدية أو على الولد فالقضاء والفدية ، وقال المزني : تستحب الفدية، وقيل: تجب على المرضع دون الحامل.

وعن إسحاق : يخيران بين القضاء ولا فدية وبين الفدية ولا قضاء.

وقالت الظاهرية : لا قضاء ولا فدية. وقال آخرون: عليهما الإطعام ولا قضاء، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وقتادة ، وقال آخرون: عليهما القضاء ولا كفارة كالمريض، وهو قول عطاء والنخعي والحسن والزهري وابن جبير وربيعة والأوزاعي وأبي حنيفة والثوري .

وروى ابن عبد الحكم عن مالك مثله، وهو قول أشهب، وفرقة رابعة فرقت بين الحبلى والمرضع; فقالت في الحبلى: هي بمنزلة المريض تفطر وتقضي ولا إطعام عليها، والمرضع تفطر وتطعم وتقضي، هذا قول مالك في "المدونة" والليث، قال أبو عبيد:

[ ص: 355 ] وكل هؤلاء إنما تأولوا قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية فمن أوجب القضاء والإطعام معا ذهب إلى أن الله تعالى حكم في تارك الصوم من غير عذر بحكمين فجعل الفدية في آية والقضاء في أخرى.

فلما لم يجد ذكر الحامل والمرضع مسمى في كل واحدة منهما جمعهما جميعا عليها احتياطا لهما وأخذا بالثقة، ومن أوجب الإطعام أطعم فقط وقال: ليس كالسفر والمرض، ولكنهما ممن كلف وطوقه وليس بمطيق فهم من أهل الإطعام فقط; لقوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين وهي قراءة ابن عباس وفتياه ، وقد يجوز هذا على قراءة يطيقونه أي بجهد ومشقة فيتحد معناهما، قاله غير أبي عبيد، ومن أوجب القضاء فقط ذهب إلى أن الحمل والرضاع علتان من العلل; ولأنه يخاف فيهما من التلف على الأنفس ما يخاف من المرض، وشاهده حديث أنس : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في إبل لجار لي أخذت فوافقته يأكل، فدعاني إلى طعامه، فقلت: إني صائم فقال: "ادن أخبرك عن ذلك أن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع " فقرنهما بالمسافر ولا يلزمه القضاء.

وقال القاضي عياض : اختلف السلف هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة كلها أو بعضها؟ فقال الجمهور: هي منسوخة، ثم استدل بقول سلمة .

ثم اختلفوا هل بقي منها ما لم ينسخ فروي عن ابن عمر والجمهور أن حكم الإطعام باق على من لم يطق الصوم لكبره، وقال جماعة من

[ ص: 356 ] السلف ومالك وأبو ثور وداود جميع الإطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق الصوم إطعام، واستحبه له مالك . وقال قتادة : كانت الرخصة لمن يقدر على الصوم ثم نسخ فيه، وبقي فيه فيمن لا يطيق .

وقال ابن عباس وغيره: نزلت في الكبير والمريض الذين لا يقدران على الصوم فهي عنده محكمة، لكن المريض يقضي إذا برأ، وأكثر العلماء على أنه لا إطعام على المريض.

وقال زيد بن أسلم والزهري ومالك : هي محكمة، ونزلت في المريض يفطر، ثم يبرأ فلا يقضي حتى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضي بعدما أفطر ، ويطعم عن كل يوم مدا من حنطة، فأما من اتصل صومه برمضان ثان فليس عليه إطعام بل عليه القضاء فقط.

وقال الحسن وغيره: الضمير في: (يطوقونه) عائد على الإطعام لا على الصوم، ثم نسخ ذلك، فهي عنده عامة، ثم جمهور العلماء على أن الإطعام عن كل يوم مد، وقال أبو حنيفة : مدان، ووافقه صاحباه.

فائدة:

( يطوقونه ) بفتح أوله وثانيه مشددا كما أسلفته، وقرئ بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو وفتحها، حكاهما ابن التين مع الأولى، وعزا الأولى إلى مجاهد، قال: والناسخ فمن شهد منكم الشهر فليصمه خلافا لابن أبي ليلى كما سلف، قال: وهو أصح من قول

[ ص: 357 ] ابن عباس أنها محكمة، قال: وحمل (يطيقونه) على (يطوقونه) مجاز بعيد بغير دليل، ولا يقال لمن لا يقدر أن يصوم: أن تصوم خير لك، وقوله: فمن تطوع خيرا فهو خير له ، قال ابن عباس : زاد مسكينا

آخر ، وقال مجاهد : أطعم صاعا فتطوع بثلاثة أمداد .

التالي السابق


الخدمات العلمية