التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1874 [ ص: 454 ] 55 - باب: حق الجسم في الصوم

1975 - حدثنا ابن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ ". فقلت بلى يا رسول الله. قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله". فشددت، فشدد علي، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة. قال: "فصم صيام نبي الله داود - عليه السلام - ولا تزد عليه". قلت: وما كان صيام نبي الله داود - عليه السلام -؟ قال: "نصف الدهر". فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم -. [انظر: 1131 - مسلم: 1159 - فتح: 4 \ 217]


ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ ". فقلت: بلى يا رسول الله. قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا" الحديث بطوله.

وحق الجسم أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل; لأنه إذا أجهد نفسه قطعها عن العبادة وفترت، كما قال في الحديث المروي عند أبي داود : "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" .

قال المبرد : المنبت: المسرع في السير، فكأنه وقفت دابته ولم يبلغ [ ص: 455 ] منزله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه وإن قل" ، وقال: " اكلفوا من العمل ما تطيقون " فنهى عن التعمق في العبادة وإجهاد النفس في العمل ; خشية الانقطاع، ومتى دخل أحد في شيء من العبادة لم يصلح له الانصراف عنها، وقد ذم الله تعالى من فعل ذلك بقوله ورهبانية ابتدعوها الآية [الحديد: 27] فوبخهم على ترك التمادي فيما دخلوا فيه، ولهذا قال ابن عمرو حين ضعف عن القيام بما كان التزمه: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد [ ص: 456 ] جاء في رواية أخرى تأتي في باب: صوم داود: " إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين " . أي: غارتا ودخلتا وهجمت على الضرر دفعة واحدة، والهجم: أخذ الشيء بسرعة، وهجمت على القوم: دخلت عليهم، ويحتمل أن يكون هجمت بغلبة النوم وكثرة السهر.

وقوله: " بحسبك " أي: يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام.

وفي رواية: " صم من كل عشرة يوما " وقد علل صيامها بأنه يعادل صيام الدهر كله، وسيأتي الكلام على ذلك. والسين ساكنة، أي: يكفيك ما ذكرته. ونقل ابن التين عن بعض العلماء أن صيامها حسن ما لم يعينها، وليس فيها تشبه بالفرض إذا لم يعين أياما من الشهر، مثل قصد أيام البيض فقد كرهه مالك، وقال: ما هذا ببلدنا، وقال: الأيام كلها لله، وكره أن يجعل على نفسه صوم يوم يوفيه أو شهر ، قال عنه ابن وهب : وإنه لعظيم أن يجعل على نفسه صوم يوم يوفيه أو شهر كالفرض، ولكن يصوم إذا شاء ويفطر إذا شاء، وذكرعلي بن الفضل المقدسي في رسالة مالك إلى هارون أنه أمره بصيامها، وقال: بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ذلك صيام الدهر " إلا أنه [ ص: 457 ] تكلم في إسنادها -أعني: الرسالة- وهي مذكورة في "سنن الكجي" وهو ثقة إمام، وادعى الباجي أنه روى في إباحة تعمدها أحاديث لا تثبت، وفي "صحيح مسلم " عن ( معاذة ) ، قلت لعائشة : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. قلت: فمن أي شهر كان يصوم؟ قالت: ما كان يبالي من أي الشهر كان يصوم .

قال: واختلف القائلون بإباحة تعمد صومها على أربعة أقوال في تعيينها: فقال ابن حبيب : كان أبو الدرداء يصوم أول يوم واليوم العاشر والعشرين .

قال: وبلغني أن هذا كان صوم مالك، رواها ابن حبيب . قال الباجي : فيه نظر; لأن رواية ابن حبيب، عن مالك فيها ضعف ولو صحت، إذ أن المعنى أن هذا مقدار صوم مالك، فأما أن يتحرى صيامها، فالمشهور عن مالك منعه .

وقال سحنون : يصوم أوله. واختاره الشيخان [ أبو محمد و] الحسن ; لأنه لا يدري ما يمنعه من فعل ذلك من مرض، أو موت أو غير ذلك.

وفي الترمذي قال أبو ذر : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشر " ثم

[ ص: 458 ] حسنه ، وقال الشيخ أبو إسحاق في "زاهيه": أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر من العشر الأول وحادي عشرة وحادي عشريه.

وقوله: " فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه " وقال في الباب بعده: "لا أفضل من ذلك" ، وقال: "صم وأفطر"، وقال: " لا صام من صام الأبد " مرتين ، وقال فيمن صام الأبد: " لا صام ولا أفطر " أخرجاه .

استدل بهذا من منع صوم الدهر من خمسة أوجه:

قوله: " ولا تزد " "صم وأفطر"، "لا أفضل من ذلك"، دعاؤه على من صامه، أنه في معنى من لم يؤجر لقوله: "لا صام ولا أفطر " لأنه أمسك ولا أجر له.

ومعنى: " لا صام من صام الأبد ": أنه لم يصم يوما ينتفع به، وتكون (لا) بمعنى لم، كقوله: فلا صدق ولا صلى [القيامة: 31] وقوله: " وأي عبد لك لا ألما " ويحتمل أنه دعا ليرجع عن ذلك، وأجاز

[ ص: 459 ] مالك، وابن القاسم، وأشهب في "المجموعة" صيامه.

قال ابن حبيب : إنما النهي إذا صام فيه ما نهي عنه ، وهو مذهب

سائر الفقهاء إلا الظاهرية، فإنهم أثموا فاعله عمدا بظاهر أحاديث النهي عنه ، وقد صح أنه قال: " إني أصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، وعندنا أن صومه غير العيد والتشريق مكروه لمن خاف ضررا أو فوت حق، ومستحب لغيره.

واحتج من لم يكرهه بقوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له [البقرة: 184] وبقوله - عليه السلام - حكاية عن الله تعالى: " إلا الصوم فإنه لي " .

قال الداودي : وإنما صار صيام يوم ويوم أفضل ; لأنه أبقى لقوة الجسم وإذا استمر صار عادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية