التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1927 [ ص: 628 ] 5 - باب: الاعتكاف ليلا

2032 - حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: " فأوف بنذرك". [2042، 2043، 3144، 4320، 6697 - مسلم: 1656 - فتح: 4 \ 274]


ذكر فيه حديث ابن عمر، أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: "فأوف بنذرك ".

وترجم عليه في أواخر الباب باب: من لم ير عليه إذا اعتكف صوما، وزاد فيه: فاعتكف ليلة . وترجم عليه أيضا عقيبه باب: إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم . وهو حديث صحيح أخرجه مسلم أيضا ، وفي رواية له: يوما بدل (ليلة) .

قال ابن حبان في "صحيحه": ألفاظ أخبار هذا الحديث مصرحة بأن عمر نذر اعتكاف ليلة إلا بهذا -يعني: رواية مسلم - فإن صحت هذه اللفظة، فيشبه أن يكون (أراد) باليوم مع ليلته، وبالليلة مع اليوم حتى لا يكون بين الخبرين تضاد ، والعرب تعبر بذلك، قال الله تعالى: فتم ميقات ربه أربعين ليلة [الأعراف: 142] وقد روى عمرو بن دينار، عن ابن عمر أن عمر قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة :

[ ص: 629 ] إني نذرت أن أعتكف يوما وليلة. فاقتصر بعضهم على البعض، ويجوز للراوي أن ينقل بعض ما سمع، وفي رواية لأبي داود والنسائي : "فاعتكف وصم" .

قال ابن حزم : لا يصح: لأن في سندهما عبد الله بن بديل وهو مجهول . قلت: لا، فقد علق له البخاري ، ووثق ، نعم تفرد بزيادة الصوم، كما قاله ابن عدي والدارقطني وضعفاه ، ونقل

[ ص: 630 ] الدارقطني، عن النيسابوري أنه حديث منكر: لأن الثقات من أصحاب عمرو لم يذكروه -يعني: الصوم- منهم: ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن سلمة وغيرهم .

ثم قال ابن حزم : ولا نعرف هذا الخبر من مسند عمرو بن دينار أصلا، وما نعرف لعمرو بن دينار عن ابن عمر حديثا مسندا إلا ثلاثة ليس هذا منها فسقط الخبر; لبطلان سنده .

[ ص: 631 ] قلت: لعمرو بن دينار في الصحيح عن ابن عمر نحو عشرة أحاديث فما هذا الكلام!

إذا تقرر ذلك، فمن نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه سواها خلافا لمالك ; حيث قال: يلزمه يوم معها. وقال سحنون : لا شيء عليه; لأنه لا صيام في الليل قال: ومن نذر اعتكاف يوم يلزمه يوم وليلة، ويدخل اعتكافه قبل غروب الشمس من ليلته، وإن دخل قبل الفجر لم يجزه، وإن أضاف إليه الليلة المستقبلة .

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (" أوف بنذرك ") محمول على الاستحباب بدليل أن الإسلام يهدم ما قبله ، وقد حمله الطبري على الوجوب، وسيأتي الخلاف فيه في الأيمان والنذور . والبخاري ذهب إلى وجوب الوفاء به، كما بوب عليه هناك وقاس اليمين على النذر، وهو قول أبي ثور والطبري، واختلف أصحابنا في صحة نذره في حال شركه، والأصح عدم صحته.

وفيه: دليل على تأكيد الوفاء بالوعد، ألا ترى أنه أمره بالوفاء به وقد خرج من الجاهلية إلى الإسلام، وإن كان عند الفقهاء ما كان في الجاهلية من أيمان وطلاق وعقد فإن الإسلام يهدمها ويسقط حرمتها، قاله ابن بطال .

[ ص: 632 ] قال الخطابي : وفيه دلالة على أن نذر الجاهلية إذا كان على وفاق الإسلام كان معمولا به ، وهو ظاهر تبويب البخاري، ومن حلف في كفره ثم أسلم فحنث كفر، وإليه ذهب الشافعي، وعن أشهب نحوه، ومذهب مالك : لا شيء عليه.

وفيه: دلالة على جواز الاعتكاف بغير صوم وهو مذهب الشافعي، والحسن، وأبي ثور، وروي عن علي أيضا وابن مسعود، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد وإسحاق ، وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي : لا اعتكاف إلا بصوم. وقاله ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة، والزهري . وقيل: إنه مذهب علي، والشعبي، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وابن المسيب، ونافع، والثوري، والليث، والحسن بن حي، والشافعي في القديم، وقول لأحمد، ورواه عطاء ومقسم وأبو فاختة عن ابن عباس ، والحديث دال للأول: إذ الليل ليس قابلا للصوم وإن كان يحتمل أن يكون نذر اعتكاف ليلة مع يومها.

ومعنى قوله: ( في الجاهلية ) أي: في زمنها. قال الخطابي : وقد يستدل به أن الكافر إذا أسلم وهو جنب لزمه أن يغتسل .

[ ص: 633 ] تنبيه: استدل من قال بعدم شرطية الصوم في صحة الاعتكاف مع حديث الباب بما رواه الدارقطني عن ابن عباس : " ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه " ثم قال: رفعه أبو بكر محمد بن إسحاق السوسي، وغيره لا يرفعه ، ومن جهة القياس: أنه عبادة

[ ص: 634 ] أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره كالصلاة وغيرها، وصوم رمضان لا يقبل غيره، ومعلوم أن اعتكاف الشارع كان في رمضان. وقال ابن شهاب : اجتمعت أنا وأبو سهل بن مالك عند عمر بن عبد العزيز فقلت: لا يكون اعتكاف بغير صوم، فقال عمر: أمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: لا. قال: أمن أبي بكر؟ قلت: لا. قال: أمن عمر؟ قلت: لا. قال: (أمن) عثمان؟ قلت: لا. قال: فلا إذا . وقد صح أنه - عليه السلام - اعتكف العشر الأول من شوال ، ويوم العيد غير قابل للصوم، احتج من اشترطه بقول عائشة مرفوعا: " لا اعتكاف إلا بصوم " رواه البيهقي، ووهم راويه ، وهو عند أبي داود عنها: السنة على المعتكف

[ ص: 635 ] أن لا يعود مريضا
. وفيه: ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع .

[ ص: 636 ] قال الدارقطني : يقال: قوله: ( السنة ) إلى آخره، إنما هو من قول ابن شهاب ومن أدرجه في الحديث فقد وهم . وقال: الأشبه أن يكون من قول من دون عائشة . وقال الحاكم: لفقهاء أهل الكوفة في ضد حديث ابن عباس يرفعه: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" وهو صحيح على شرط مسلم، حديثان: الأول: حديث عائشة هذا، والثاني: حديث عمر السالف: "اعتكف وصم" قال: ولم يحتج الشيخان بسفيان ولا بابن بديل . وقال ابن عدي : لا أعلم أحدا ذكر الصوم في الاعتكاف هنا إلا هو وله غير ما ذكرت مما ينكر عليه الزيادة في إسناده أو متنه ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فأذكره ، قلت: قد قال يحيى: صالح . وذكره ابن حبان وغيره في

[ ص: 637 ] "ثقاته" ، وصحح حديثه هذا ابن العربي، ولا يوافقه عليه أحد وقد توبع ولم ينفرد به، أخرج الدارقطني من حديث سعيد بن بشير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أوف بنذرك" .

قال عبد الحق : تفرد به سعيد هذا ، وقال الشافعي -فيما حكاه البيهقي عنه-: رأيت عامة من الفقهاء يقولون: لا اعتكاف إلا بصوم .

[ ص: 638 ] وقال القاضي عياض : لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف بغير صوم، ولو كان جائزا لفعله تعليما للجواز، وهو عمل أهل المدينة .

قالوا: ويجاب عن حديث ابن عباس بأمور: منها: أن السوسي تفرد به ، ولم يحتج به أهل الصحيح، فلا يعارض حديث عبد الرحمن بن إسحاق المحتج به في الصحيح .

ثانيها: أسلفنا عن ابن عباس اشتراط الصوم ، والراوي إذا عمل بخلاف ما روى قدح ذلك في روايته عند الحنفية .

ثالثها: القول بموجب الحديث، وهو أن الهاء عائدة على الاعتكاف دون الصوم; لأنه أكثر فائدة: ولأن وجوب المنذور بالنذر معلوم والخفاء في وجوب غير المنذور بالنذر، فكان حمله على الأكثر فائدة أو يحتمل فيحمل عليه توفيقا بين الحديثين.

رابعها: نقول إنه محمول على الحض والندب، وحديث عمر محمول على أنه كان نذر يوما وليلة، وهو في مسلم : أعني يوما .

[ ص: 639 ] وادعى بعضهم أن الصوم كان في أول الإسلام بالليل، فلعل ذلك قبل نسخه وليس بجيد; لأن حديث عمر كان في السنة الثانية.

وادعى القرطبي أن الصحيح اشتراطه ومراده من مذهبه، قال: لأن حديث عائشة إن صح فهو نص، وإن لم يصح فالأصل في العبادات والقرب أنها لا تفعل إلا على نحو ما قررها الشارع أو فعلها، وقد تقرر مشروعية الاعتكاف مع الصوم في قوله تعالى: وأنتم عاكفون في المساجد [البقرة: 187] قلت: لا يلزم منه الصوم- قال وأنه - عليه السلام - لم يعتكف إلا صائما، فمن ادعى جوازه بغيره فليأت بدليل .

قلت: قد أسلفنا اعتكافه - عليه السلام - العشر الأول من شوال، ويوم الفطر لا يصلح للصوم، ولهذا لما ذكره الإسماعيلي في "صحيحه" قال: فيه دلالة على جواز الاعتكاف بغير صوم، لكن في البخاري : اعتكف في آخر العشر من شوال . وفي لفظ له: في العشر، وفي آخر: عشرا من شوال ، ولفظ مسلم : اعتكف العشر الأول من شوال ، وفي الإسماعيلي : حتى إذا أفطر اعتكف في شوال، ولأبي نعيم : فلم يعتكف في رمضان إلا في العشر. الأواخر من شوال، وللطحاوي : ترك الاعتكاف حتى أفطر من رمضان، ثم اعتكف في عشر من شوال. وسيكون لنا عودة إلى تتمة المسألة قريبا في بابه.

التالي السابق


الخدمات العلمية