التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1945 2050 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه فنزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [البقرة : 198] في مواسم الحج ، قرأها ابن عباس . [انظر : 1770 - فتح : 4 \ 288]


ذكر فيه حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب : أن أبا هريرة قال : إنكم تقولون : إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي هريرة ؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان [ ص: 12 ] يشغلهم السفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم ، وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يحدثه : "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ، ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول" . فبسطت نمرة علي ، حتى إذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته جمعتها إلى صدري ، فما نسيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء .

وقد سلف في باب : حفظ العلم .

وذكر حديث إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن جده قال : قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال سعد بن الربيع : إني أكثر الأنصار مالا ، فأقسم لك نصف مالي . . الحديث . فغدا إلى سوق قينقاع فأتى بسمن وأقط .

ثم ساقه بكماله .

وذكر بعده حديث حميد ، عن أنس بنحوه .

وحديث ابن عباس : قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه فنزلت : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [البقرة : 198] في مواسم الحج ، قرأها ابن عباس .

وقد سلف هذا في الحج .

[ ص: 13 ] الشرح : لما فرغ البخاري رحمه الله من بيان العبادات المقصود بها التحصيل الأخروي شرع في بيان المعاملات المقصود بها التحصيل الدنيوي ، فقدم العبادات لاهتمامها ، ثم ثنى بالمعاملات ; لأنها ضرورية ، وأخر النكاح ; لأن شهوته متأخرة عن الأكل ونحوه ، وأخر الجنايات والمخاصمات ; لأن وقوع ذلك في الغالب إنما هو بعد الفراغ من شهوة الفرج والبطن . وأغرب ابن بطال فذكر هنا الجهاد ، وأخر البيوع إلى أن فرغ من الأيمان والنذور ، ولا أدري لم فعل ذلك ، وقد أسلفنا أنه قدم الصوم على الحج أيضا ، وجمع البيوع باعتبار أنواعه ، وغيره أفرده تبركا بلفظ القران ، وهو في اللغة : مقابلة شيء بشيء ويسمى شراء أيضا ، قال تعالى : وشروه بثمن بخس [يوسف : 20] ويسمى كل واحد من المتبايعين بائعا ومشتريا . وسيأتي حديث المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" .

وقول" إبراهيم في باب : لا يشتر حاضر لباد : فيه عن العرب ، وهو في الشرع : مقابلة مال بمال ونحوه ، وبعته وأبعته بمعنى ، وكذا باع وأباع ، قيل : سمي بيعا ; لأن البائع يمد باعه إلى المشتري حالة العقد [ ص: 14 ] غالبا ، وغلط قائله ; لأن المصادر غير مشتقة ، ولأن البيع من ذوات الياء ، والباع من ذوات الواو .

ثم استفتحه بقوله تعالى: وأحل الله البيع [البقرة: 275] ولم يذكر الواو فيما رأيناه من أصوله ، وأصح أقوال الشافعي ; أنها عامة مخصوصة ; وهو بناء على أن المفرد المعرف بـ (ال) يعم ، وهو ما عليه الأكثرون .

وبقوله: إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم [البقرة : 282] أي: متجر فيه حاضر من العروض وغيرها مما يتقابض ، وهو معنى تديرونها بينكم وذلك أن ما يخاف من الفساد والتأجيل يؤمن في البيع يدا بيد ، وذلك قوله : فليس عليكم جناح ألا تكتبوها [البقرة: 282] .

والآية الثالثة : فإذا قضيت الصلاة [الجمعة : 10] إلى آخر السورة ، هي مدنية بإجماع .

وقوله : فانتشروا ; جماعة أهل العلم على أنه إباحة بعد حظر ، وقيل : هو أمر على بابه . وقال الداودي : هو على الإباحة لمن له كفاف أو لا يطيق التكسب ، وفرض على من لا شيء له ويطيق التكسب . وقال غيره : من يعطف عليه بسؤال أو غيره ليس طلب الكفاف عليه بفريضة .

وابتغوا من فضل الله أي : اطلبوا ، وفي الحديث : "ليس لطلب الدنيا ولكن من عيادة ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله" ، أو البيع والشراء ، أو العمل يوم السبت .

[ ص: 15 ] واذكروا الله كثيرا أي : على كل حال ، و (لعل) من الله واجب .

والفلاح : الفوز والبقاء . واللهو : الطبل .

هو دحية الكلبي وافى بتجارته ، وقيل : كانوا في مجاعة وكان الطعام إذا جاءوا به ضرب الطبل ، وقيل : الغناء . وقيل : اللعب .

انفضوا إليها [الجمعة : 11] في الكلام حذف : إن كان لهوا انفضوا إليه ، أو تجارة إليها ، كقولك : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض ، والرأي مختلف ، وأعاد الضمير على التجارة ; لأنها المقصود لا اللهو .

وتركوك قائما [الجمعة : 11] ، أي : في خطبتك ومعه اثنا عشر رجلا ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، أو ثمانية .

قال الحسن : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو تبع آخرهم أولهم اضطرم الوادي نارا عليهم" .

قل ما عند الله خير [الجمعة : 11] أي : ما عنده من الثواب والأجر خير من ذلك لمن جلس واستمع الخطبة .

والله خير الرازقين [الجمعة : 11] فارغبوا إليه في سعتها .

واستفتحه أيضا بقوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [النساء : 29] أي : فليست من الباطل ; لأنه بحق ، والباطل [ ص: 16 ] بغير حق ، وكذا ما كان من هبة أو صدقة ونحوهما ، وهذا استثناء منقطع بالإجماع ، أي : لكن لكم أكلها تجارة عن تراض منكم ، وخص الأكل بالنهي ; تنبيها على غيره ; لكونه معظم المقصود من المال ، كما قال : إن الذين يأكلون أموال اليتامى [النساء : 10] و الذين يأكلون الربا [البقرة : 275] . وقام الإجماع على أن التصرف في المال بالحرام باطل حرام ، سواء كان أكلا أو بيعا أو هبة أو غير ذلك .

والباطل : اسم جامع لكل ما لا يحل في الشرع كالزنا ، والغصب والسرقة ، والجناية ، وكل محرم ورد الشرع به .

وفي تجارة قراءتان : الرفع على أن تكون تامة ، والنصب على تقدير : إلا أن يكون المأكول تجارة ، أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة فحذف المضاف .

قال الواحدي : الأجود الرفع : لأنه أدل على انقطاع الاستثناء ; ولأنه لا يحتاج إلى إضمار .

و عن تراض منكم [النساء : 29] يرضى كل واحد منهما بما في يده ، قال أكثر المفسرين : هو أن يخير كل واحد من البائعين صاحبه بعد عقد البيع عن تراض ، والخيار بعد الصفقة .

ثم الآيات التي ذكرها الإمام البخاري ظاهرة في إباحة التجارة ، إلا قوله : وإذا رأوا تجارة فإنها عتب عليها ، وهي أدخل في النهي منها في الإباحة لها ، لكن مفهوم النهي عن تركه قائما اهتماما أنها [ ص: 17 ] تشعر أنها لو خلت من المعارض الراجح لم تدخل في العتب ، بل كانت حينئذ مباحة ، وفي "صحيح الحاكم" من حديث عمرو بن تغلب مرفوعا : "إن من أشراط الساعة أن تظهر الفتن وتفشو التجارة" ثم قال : صحيح على شرط الشيخين .

وفيه : -على شرطهما- من حديث ابن مسعود مرفوعا : "إياكم وهيشات الأسواق" وكأن النهي محمول على أن يجعلها ديدنه فيشتغل بها عن المهمات .

إذا تقرر ذلك كله : فقد أباح الله تعالى التجارة في كتابه وأمر بالابتغاء من فضله ، وكان أفاضل الصحابة يتجرون ويحترفون طلب المعاش ، وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرجل لا حرفة له ولا صناعة ; خشية أن يحتاج إلى الناس فيذل لهم ، وقد روي عن لقمان أنه قال لابنه : يا بني خذ من الدنيا بلاغك ، وأنفق من كسبك لآخرتك ، ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا ، وعلى أعناق الرجال كلالا .

[ ص: 18 ] وروي عن حماد بن زيد أنه قال : كنت عند الأوزاعي فحدثه شيخ كان عنده أن عيسى - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد يتعلم المهنة يستغني بها عن الناس ، وإن الله تعالى يبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة .

وقال أبو قلابة لأيوب السختياني : يا أيوب الزم السوق فإن الغنى من العافية . وقد أسلفنا قريبا ما يخالف ذلك وتأويله .

إذا علمت ذلك :

فالحديث الأول : فيه ابن المسيب بفتح الياء ، وكسرها . قال علي بن المديني : أهل المدينة على الثاني ، وأهل الكوفة على الأول . ويشغلهم : بفتح الياء . والسفق بالسين ، كذا وقع في بعض روايات أبي الحسن ، وفي بعضها ورواية أبي ذر بالصاد ، قال الخليل : كل صاد قبل القاف ، وكل سين تجيء بعد القاف فللعرب فيها لغتان : سين وصاد ، لا يبالون اتصلت أو انفصلت بعد أن يكونا في كلمة ، إلا أن الصاد في بعض أحسن ، والسين في بعض أحسن ، وموضع التبويب قوله : (سفق بالأسواق) ، وأراد بالصفق : صفق الأكف عند البيع ، كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأكف علامة على انبرام البيع ، وذلك لأن الأملاك إنما تضاف إلى الأيدي والقبض بها يقع ، فإذا تصافقت الأكف استقرت كل يد منها على ما اشترت .

وقوله : (وكنت امرأ مسكينا) فيه : ذكر ما كانوا عليه من المسكنة على غير الشكوى .

[ ص: 19 ] وفيه : ذكر لزومه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : (وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم) . قال الداودي : إنما أصلحوها ; للنهي عن إضاعة المال ، وشغل : ثلاثي .

قال ابن فارس : لا يكادون يقولون : أشغل وهو غير جائز .

وقوله : (أعي حين ينسون) أي : أحفظ .

وقوله : (فبسطت نمرة علي) قال ثعلب : النمرة : ثوب مخطط تلبسه العجوز . وقال ابن فارس : هي كساء ملون . وقال القتبي : هي بردة تلبسها الإماء ، وجمعها نمرات ونمار .

قال الهروي : هو إزار من صوف ، وقال القزاز : هي دراعة تلبس أو تجعل على الرأس ، فيها سواد وبياض . وجزم ابن بطال بأنه : ثوب مخمل من وبر أو صوف .

وقوله : (فما نسيت من مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء) ، يريد ما بعد ذلك .

وفيه : جواز نسيانه لما قبله .

وفي الحديث الثاني : مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه .

وفيه : مواساة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار ، وقد مدحهم الله تعالى في كتابه فقال : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر : 9] وكان هذا القول قبل أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار أن يكفوا المهاجرين العمل ، ويعطوهم نصف الثمرة .

[ ص: 20 ] وفيه : تعفف عبد الرحمن عن أخذ ما يجوز ، وكان مجيدا في التجارة ، قيل : كان يشتري الجمال فيبيعها ويربح أرسانها ، ومات عن مال جسيم .

وقينقاع -مثلث النون أعني : بضم النون وفتحها وكسرها- قال ابن التين : ضبط في أكثر نسخ أبي الحسن بكسر النون ، وكذا سمعته ، وفي بعضها بضمها ، ولم يذكر الفتح ، وهو : شعب من يهود المدينة أضيفت إليهم السوق ، وينصرف على إرادة الحي ولا ينصرف على إرادة القبيلة ، وهم أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد ، فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه .

وأثر الصفرة المذكورة هو الوضر -بالضاد والراء- في الرواية الأخرى ، وهو التلطخ بخلوق أو طيب له لون .

قال أبو عبد الملك : كانت الأنصار إذا دخل الزوج بزوجته كسته ثوبا مصبوغا بصفرة يعرف بأنه عروس . وقال الداودي : فيه ما يصيب العروس من خلوق الزوجة . قلت : وهذا هو الظاهر .

وفيه : سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن أحوالهم وكم مقدار صداقهم .

وقوله : (زنة نواة من ذهب أو نواة من ذهب) . النواة : خمسة دراهم قاله لوين وغيره ، وقيل : إنه وهم . قال أبو عبيد : كان بعض الناس يقول [ ص: 21 ] لم يكن ثم ذهب ، وإنما هي خمسة دراهم تسمى نواة كما سميت الأربعون أوقية والعشرون نشا . وقال الأزهري : لفظ الحديث يدل على أنه تزوجها على ذهب قيمته خمسة دراهم ، ألا تراه قال : نواة من ذهب ، ولست أدري لم أنكره أبو عبيد ؟ وقال أبو عبد الملك : زنة نواة من ذهب ، مثل ثمن دينار أو سدس دينار ، وعوضه خمسة دراهم من الفضة وقال الخطابي : هي زنة خمسة دراهم ذهبا كان أو فضة ، وعن أحمد : زنة ثلاثة دراهم ، زاد الترمذي عنه : وثلث . وقيل : وزن نواة التمر من ذهب . وقيل : ربع دينار .

وقوله : ("أولم ولو بشاه") أخذ بظاهره الشافعي في أحد قوليه وأحمد وقالا : الوليمة واجبة ، وبه قال داود . وقال مالك والشافعي في أظهر قوليه : إنها مستحبة وحملاه على الاستحباب . ووقتها بعد الدخول ، وقيل : عند العقد . وعن ابن حبيب : الاستحباب فيهما . وظاهر الحديث بعد الدخول .

قال أبو عبد الملك : والمعروف أنها عنده ، ولعله إذ ذاك لما فاته كالقضاء . وقال ابن الجلاب : الوليمة تكون عند الدخول .

[ ص: 22 ] وفيه : أن العيش بالتجارة والصناعات أولى بنزاهة الأخلاق من العيش بالصدقات والهبات .

ثم اعلم أن هذا الحديث رواه البخاري هنا عن عبد العزيز ، عن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن جده : قال عبد الرحمن : لما قدمنا المدينة . وذكره في فضائل الأنصار عن إسماعيل بن عبد الله ، عن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن جده قال : لما قدموا المدينة . (وظاهره) الإرسال ; لأنه إن كان الضمير في جده يعود إلى إبراهيم ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، فيكون الجد فيه إبراهيم بن عبد الرحمن ، وإبراهيم لم يشهد أمر المؤاخاة ; لأنه توفي بعد التسعين قطعا عن خمس وسبعين سنة . وقيل : إنه ولد في حياته ، ولا تصح له رواية عنه . وأمر المؤاخاة كان حين الهجرة ، وإن عاد إلى جد [ ص: 23 ] سعد بن إبراهيم ، فيكون على هذا سعد روى عن جده عبد الرحمن بن عوف ، وهذا لا يصح ; لأن عبد الرحمن توفي سنة اثنتين وثلاثين ، ومات سعد سنة ست وعشرين ومائة عن ثلاث وسبعين سنة ، ولكن الحديث المذكور هنا متصل ; لأن إبراهيم قال فيه : قال عبد الرحمن ابن عوف .

يوضح ذلك رواية أبي نعيم لما قال عن جده ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : لما قدمنا المدينة . . الحديث .

[ ص: 24 ] وكذا ذكره الطرقي وأصحاب الأطراف ، وقد أخرجه مسلم أيضا من حديث أنس ، عن ابن عوف ، وكذا هو في "الموطأ" : عن حميد ، عن أنس ، أن ابن عوف . وقال الدارقطني : أسنده روح بن عبادة فقال : عن مالك ، عن حميد ، عن أنس ، عن ابن عوف ، وتفرد به .

وأما حديث أنس فقوله في سعد : (وكان ذا غنى) -هو مقصور- أي : المال ، وكانوا يستكثرون منه للمواساة ، ونعم الغبط عليه . والأقط : من اللبن معروف .

تنبيهات :

أحدها : هذه المؤاخاة ذكرها ابن إسحاق في أول سنة من سني الهجرة بين المهاجرين والأنصار ، ولها سببان :

أحدهما : أنه أجراهم على ما كانوا ألفوا في الجاهلية من الحلف ، فإنهم كانوا يتوارثون به . قال - صلى الله عليه وسلم - : "لا حلف في الإسلام" وأثبت المؤاخاة ; لأن الإنسان إذا فطم مما ألفه علل بجنسه .

ثانيهما : أن المهاجرين قدموا محتاجين إلى المال وإلى المنزل فنزلوا على الأنصار ، فأكدوا هذه المخالطة بالمؤاخاة ، ولم يكن بعد بدر مؤاخاة ; لأن الغنائم استغني بها .

والمؤاخاة : مفاعلة من الأخوة ، ومعناها : أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة حتى يصيرا كالأخوين نسبا كما قال أنس . وقالوا : إن [ ص: 25 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين الصحابة مرتين : مرة بمكة قبل الهجرة ، والأخرى بعدها ، ذكره القرطبي .

وقال ابن عبد البر : والصحيح في المؤاخاة في المدينة بعد بنائه المسجد ، فكانوا يتوارثون بذلك دون القرابات حتى نزلت وأولو الأرحام الآية [الأنفال : 75] . وقيل : كان قبل ذلك والمسجد يبنى . وقيل : بعد قدومه المدينة بخمسة أشهر . وفي "تاريخ ابن أبي خيثمة" عن زيد بن أبي أوفى أنها كانت في المسجد ، وكانوا مائة : خمسون من الأنصار ، وخمسون من المهاجرين .

ثانيها : المرأة التي تزوجها عبد الرحمن بن عوف هي ابنة أبي الحيسر (أنس) بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل . قال الزبير : ولدت له القاسم وأبا عثمان عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف .

[ ص: 26 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ ص: 27 ] ثالثها : إن قلت : جاء النهي عن التزعفر فكيف الجمع بينه وبين أثر الصفرة والوضر ؟

قلت : من أوجه : أنه كان يسيرا فلم ينكره .

ثانيها : أن ذلك علق من ثوبها من غير قصد .

ثالثها : أنه كان في أول الإسلام أن من تزوج لبس ثوبا مصبوغا لسروره وزواجه ، وقيل : كانت المرأة تكسوه إياه- وقد سلف . وقيل : إن هذا غير معروف . وقيل : إنه كان يفعل ذلك ليعان على الوليمة .

رابعها : قاله أبو عبيد : كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه .

خامسها : أنه يحتمل أن ذلك كان في ثوبه دون بدنه . ومذهب مالك جوازه - حكاه عن علماء بلده . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يجوز ذلك للرجال .

رابعها : ذكر الصفرة في الحديث ; لأنها أحسن الألوان كما قاله ابن عباس ، قال تعالى : فاقع لونها تسر الناظرين [البقرة : 69] قال : فقرن السرور بالصفرة . ولما سئل عبد الله عن الصبغ بها قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها فأنا أصبغ بها .

خامسها : قوله : ("مهيم ؟ ") هو بفتح الميم وسكون الهاء ثم ياء مثناة تحت ، ثم ميم ، وهي كلمة يمانية أي : ما شأنك ؟

[ ص: 28 ] سادسها : ذكر البخاري هذا الحديث في النكاح ، في باب : كيف يدعى للمتزوج . لقوله : (بارك الله لك) فيه رد على ما كانت العرب تقوله : بالرفاء والبنين . ولما قيل ذلك لعقيل بن أبي طالب قال : لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "بارك الله لك وبارك عليك" أخرجه النسائي .

[ ص: 29 ] وفي الترمذي -وقال : حسن صحيح- عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفأ الإنسان -إذا تزوج- قال : "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير" . وعن خالد بن معدان عن معاذ -ولم يسمع منه - أنه - عليه السلام - شهد إملاك رجل من الأنصار ، فقال : "على الألفة [ ص: 30 ] والخير والطير الميمون والسعة في الرزق ، بارك الله لكم" .

سابعها : ظاهر قوله : ("أولم ولو بشاة") أنها أقل ما تتأدى به السنة .

وفيه : دلالة على الاستكثار منها ما لم يرد إلى الرياء ، قاله الداودي .

[ ص: 31 ] قال القاضي : والإجماع أنه لا حد لقدرها المجزئ . وقال الخطابي : الشاة للقادر عليها وإلا فلا حرج ، قد أولم - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه بسويق وتمر .

فرع : كرهت طائفة الوليمة أكثر من يومين . وعن مالك : أسبوعا .

ثامنها : عكاظ ومجنة -بفتح الميم- وذو المجاز أسواق في الجاهلية عند عرفات .

وقراءة ابن عباس . في (مواسم الحج) كالتفسير ، إذ لم يثبت بين اللوحين .

خاتمة : في سرد الفوائد في حديث عبد الرحمن أنه لا بأس للشريف أن يتصرف في السوق بالبيع والشراء ، ويتعفف بذلك عما يبذل له من المال وغيره ، والأخذ بالشدة على نفسه في أمر معاشه ، وأن العيش من الصناعات أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الهبات والصدقات وشبهها ، وبركة التجارة والمؤاخاة على التعاون في أمر الله تعالى ، وبذل المال لمن يؤاخي عليه .

وفي حديث أبي هريرة الحرص على التعلم ، وإيثار طلبه على طلب المال . وفضيلة ظاهرة لأبي هريرة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خصه ببسط ردائه وضمه ، فما نسي من مقالته تلك شيئا . وقوله : (من مساكين الصفة) كان رئيسهم . والعرب تقول : صففت البيت وأصففته : جعلت له صفة -وهي السقيفة- أمامه . وأصحاب الصفة : الملازمون لمسجده - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية