التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1946 [ ص: 32 ] 2 - باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات

2051 - حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن الشعبي ، سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي فروة ، عن الشعبي قال : سمعت النعمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي فروة ، سمعت الشعبي سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن أبي فروة ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" . [انظر : 52 - مسلم: 1599 - فتح: 4 \ 290]


ذكر فيه حديث النعمان بن بشير : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . "الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" .

هذا الحديث سلف في الإيمان في باب : فضل من استبرأ لدينه .

وذكر هنا (سنده) مرتين متفقا ومرتين مختلفا ، قال في الأول : عن ابن [ ص: 33 ] عون ، عن الشعبي ، سمعت النعمان بن بشير ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال في الثاني : عن أبي فروة -واسمه عروة بن الحارث بن فروة الهمداني الكوفي- عن الشعبي : سمعت النعمان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي الثالث : عن أبي فروة : سمعت الشعبي . مثل هذا . وقال في الرابع : عن أبي فروة ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والحاصل أن النعمان صرح بسماعه في الرواية الأولى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأتى في الثانية والثالثة بعن ، وفي الرابعة بقال .

وعند أبي داود : عن الشعبي : سمعت النعمان -ولا أسمع أحدا بعده- يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الحلال بين . . . " الحديث .

وقد أسلفنا في الإيمان بطلان من ادعى عدم سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; يوضحه سماع ابن (النعمان) حديث نحلني أبي : كما ستعلمه في موضعه .

وسفيان الراوي عن أبي فروة في الرابع هو الثوري كما صرح به أبو نعيم وغيره .

قال أبو نعيم : وهذا لفظ الثوري ، وجمع البخاري بين ابن عون وأبي فروة ظنا أن الروايتين في إسناد واحد ، وساق الحديث بلفظ الثوري . وفي كتاب الإسماعيلي لما قال : "ألا وإن في الجسد مضغة" قال : قال فلان -يعني أحد رواته- : لا أدري هذا من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لا .

[ ص: 34 ] ولا بد لنا أن نذكر نبذة هنا فنقول : هذا الحديث أصل في باب الورع وما يجتنب من الشبه . والشبه : كل ما أشبه الحلال من وجه والحرام من آخر ، والورع : اجتنابها فالحلال البين : ما علم المرء ملكه يقينا لنفسه ، والحرام البين عكسه ، والشبهة : ما يجده في بيته فلا يدري أهو له أو لغيره . وقد اختلف في حكم المشتبهات على أقوال أسلفناها هناك ، فرواية : "لا يعلمها كثير من الناس" دالة على الوقف . ورواية : "من وقع في الشبهات وقع في الحرام" دالة على أن تركها واجب . ورواية : "من رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" تدل على الحيل . وقيل : قوله : ("حول الحمى") نهي عما يشك فيه هو من الحمى أو مما حوله ؟ فنزهه عما قرب منه ، ولم يشك فيه خوفا أن تزين النفس أنه ليس منه ، ويحمل على الندب .

والمشتبهات في الدماء والأموال والأعراض والفتيا والقضاء وغير ذلك ، فأشدها الاجتراء على الفتيا بغير علم ; لأنه قد تزين له نفسه أنه أهل لها وهو خلافه ، قال تعالى : فاحكم بين الناس بالحق الآية [ص : 26] . وفي الحديث : "حبك للشيء يعمي ويصم" . ويقال : [ ص: 35 ] أشقى الناس من باع دينه بدنياه ، وأشقى منه من باع دينه بدنيا سواه .

[ ص: 36 ] قال سحنون : إنما ذلك في الفتيا . وما يجتنب من الشبهات : الظن أن يقطع به : فإن النفس ربما تزين عند الظن خلاف الحق ، تغطي عند الرضا العيب ، وتبدي في عكسه المساوئ . وقسم بعضهم الورع ثلاثة أقسام ، واجب : وهو اجتناب ما يحققه لغيره ، ومستحب : وهو اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام ، ومكروه : أن لا يقبل الرخص ، ولا يجيب الداعي ، ولا يقبل الهدية ، ويجتنب الأشياء المباحة مثل المياه التي يتوضأ بها ، واجتناب الغريب التزويج مع الحاجة ; لقيام قدوم أبيه البلدة المذكورة والتزوج بها ، وكره ذلك ; لأن النادر لا عبرة به .

وقوله : ("من يرتع") قال ابن فارس : يقال رتع : إذا أكل ما شاء ، وقيل : رتعت أقامت في المرتع .

وعبارة ابن بطال : الحلال البين : ما نص الله على تحليله أي ورسوله ، والحرام البين : ما نص على تحريمه ، وكذا ما جعل فيه حد أو عقوبة أو وعيد ، والمشتبه : ما تنازعته الأدلة من الكتاب والسنة ،

وتجاذبته المعاني فوجه منه يعضده دليل الحرام ، وآخر عكسه ، وقال فيه : من ترك الشبهات إلى آخره ، فالإمساك عنه ورع ، والإقدام عليه لا يقطع عالم بتحريمه .

[ ص: 37 ] وقال القرطبي : أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله وتركه فيكون مباحا ، وما كان كذلك لم يتصور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين ، فإنه إن ترجح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحا فحينئذ يكون تركه راجحا على فعله وهو المكروه ، أو عكسه فالمندوب ، وفيه دليل أن الشبهة لها حكم خاص بها .

قال الخطابي : وقوله : "لا يعلمها كثير من الناس" معناه : أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض والعلماء يعرفونها ; لأن الله جعل عليها دلائل عرفها بها ، لكن ليس كل أحد يقدر على تحقيق ذلك ; ولهذا قال ذلك ولم يقل : لا يعلمها كل الناس .

وقوله : "كراع يرعى حول الحمى" هو مثل يحتمل أن صاحبه يقع في الحرام ولا يدري .

وقال الخطابي : إذا اعتادها قادته إلى الوقوع في الحرام ، فيتجاسر عليه ويواقعه عالما ومتعمدا ; لخفة الزاجر عنده ، ولما قد ألفه من المساهلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية