التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1952 2057 - حدثني أحمد بن المقدام العجلي حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سموا الله عليه وكلوه" . [5507 ، 7398 - فتح: 4 \ 294]


ثم ذكر فيه حديث : الرجل يجد الشيء في الصلاة ، وقوله : "لا ، حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" . وقال ابن أبي حفصة ، عن الزهري : لا وضوء إلا فيما وجدت الريح أو سمعت الصوت.

ثم ذكر حديث : إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا . فقال : "سموا الله عليه وكلوه" .

الشرح : أثر حسان أخرجه أبو نعيم ، عن محمد بن جعفر ، ثنا محمد بن أحمد بن (عمرو) ، ثنا عبد الرحمن بن (عمرو) رسته ، ثنا زهير بن نعيم البابي قال : اجتمع يونس بن عبيد وحسان بن أبي [ ص: 42 ] سنان -يعني أبا عبد الله عابد أهل البصرة- فقال يونس : ما عالجت شيئا أشد علي من الورع . فقال حسان : لكن أنا ما عالجت شيئا أهون علي منه . قال يونس : كيف ؟ قال حسان : تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت . ثم روى بإسناده عن الحسن بن عبد العزيز الجروي قال : كتب إلي ضمرة ، عن عبد الله بن شوذب قال : قال حسان بن أبي سنان : ما أيسر الورع! إذا شككت في شيء فاتركه .

قلت : ولفظ : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" صح من حديث الحسن بن علي . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقال الحاكم : صحيح الإسناد .

[ ص: 43 ] وشاهده حديث أبي أمامة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما الإيمان ؟ قال : "إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن" قال : يا رسول الله : ما الإثم ؟ قال : "إذا حاك في صدرك شيء فدعه" . وروى محمد ابن أسلم في كتاب "الربا" من حديث ابن لهيعة ، عن يزيد ، عن سويد بن قيس ، عن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمن سأله عما يحل له : "ما أنكر قلبك فدعه" .

[ ص: 44 ] وحديث عقبة في المرأة السوداء انفرد به البخاري ; بل لم يخرج مسلم في "صحيحه" عن عقبة هذا شيئا . وللترمذي : فجاءت امرأة سوداء فقالت : إني أرضعتكما ، وهي كاذبة . فقال - صلى الله عليه وسلم - : "دعها عنك" وسلف في الرحلة في المسألة النازلة ، من كتاب العلم ، وسيأتي في النكاح ، وفي باب إذا شهد شاهد ، فقال آخرون : ما علمنا بذلك .

وحديث : "احتجبي منه يا سودة" أخرجاه .

وحديث عدي تقدم في الطهارة في آخر باب : الماء الذي يغسل به شعر الإنسان ، وذكره هنا ; لأجل قوله : "إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" ، ويأتي في الصيد إن شاء الله .

وحديث أنس في التمرة أخرجه مسلم أيضا .

وتعليق أبي هريرة الذي قال فيه : وقال همام عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أجد تمرة ساقطة على فراشي" وهذا سيأتي مسندا في اللقطة .

[ ص: 45 ] وأخرجه مسلم أيضا . وللحاكم مثله من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا نحوه ، وقال : صحيح الإسناد . وللترمذي عن عطية السعدي مرفوعا : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" ثم قال : حسن غريب . وحديث عبد الله بن زيد سلف في الطهارة . وابن أبي حفصة (خ . م . س) هو أبو سلمة محمد بن ميسرة البصري .

وحديث : إن قوما يأتوننا بلحم . انفرد به البخاري من حديث عائشة .

وللدارقطني من حديث مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها : أن ناسا من أهل البادية يأتون بأجبان أو بلحمان لا ندري أسموا عليها أم لا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "سموا عليها ثم كلوا" ثم قال : تفرد به عبد الوهاب بن عطاء عن مالك متصلا ، وغيره يرويه عنه مرسلا لا يذكر عائشة .

[ ص: 46 ] وقال ابن عبد البر : لم يختلف عن مالك في إرساله فيما علمته ، وقد أسنده جماعة عن هشام .

قال ابن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها . وقال حوثرة بن محمد : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه عنها ، فذكرته . وساقه البخاري خوفا على الوسواس في المكاسب إذ لا فرق بينهما .

إذا تقرر ذلك : فـ (يريب) في أثر حسان بفتح الياء ، قال أبو العباس : يقال : رابني الشيء : إذا تبينت منه الريبة ، وأرابني : إذا لم أتبينها ، وقال غيره : أراب في نفسه وراب غيره . ورابني أفصح من أرابني .

وحسان هذا عابد ، روى عن الحسن ، وعنه ابن شوذب وغيره .

وقد أسلفنا في الباب قبل : الشبهات ما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني وتساوت فيه الأدلة ، ولم يغلب أحد الطرفين صاحبه . وبيان ذلك في حديث عقبة بن الحارث .

وذلك أن الجمهور ذهبوا إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - أفتاه بالتحرز من الشبهة وأمره [ ص: 47 ] بمجانبة الريبة ; خوفا من الإقدام على فرج يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام ; لأنه قد قام دليل للتحريم بقول المرأة : أنا أرضعتهما . لكن لم يكن قاطعا ولا قويا ; لإجماع العلماء أن شهادة امرأة واحدة لا يجوز في مثل ذلك . كذا ادعاه ابن بطال ، وقد أفسدناه في كتاب : العلم ، لكن أشار عليه الشارع بالأحوط ، يدل عليه أنه لما أخبره أعرض عنه ، فلو كان حراما لما أخبرها وأعرض عنه بل كان يجيبه بالتحريم ، فلما كرر عليه مرة بعد أخرى أجابه بالورع .

وأما حديث : "احتجبي منه" وهو حديث عائشة فالكلام عليه من أوجه :

أحدها : في الأسماء الواقعة فيه :

سعد بن أبي وقاص -مالك- بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة فارس الإسلام ، أسلم سابع سبعة ، مات سنة خمس وخمسين . وعبد بن (موسى) عامري من السادات . وزمعة -بفتح الميم وإسكانها وهو الأكثر - أمه عاتكة بنت الأخيف بن علقمة ، [ ص: 48 ] وهو أخو سودة -أم المؤمنين- لأبيها ، وأخوه لأبيه عبد الرحمن بن زمعة المبهم في هذا الحديث ، وأخوه لأمه : قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، وعتبة بن أبي وقاص ، ذكره العسكري في الصحابة ، وقال : كان أصاب دما في قريش ، وانتقل إلى المدينة قبل الهجرة ، ومات في الإسلام . وكذا قال أبو عمر . وجزم به الذهبي في "معجمه" فأخطأ .

ولم يذكره الجمهور في الصحابة . وذكره ابن منده فيهم . واحتج بوصيته إلى أخيه سعد بابن وليدة زمعة ، وأنكره أبو نعيم . قال أبو نعيم : وهو الذي شج وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسر رباعيته يوم أحد ، وما علمت له إسلاما ولم يذكره أحد من المتقدمين في الصحابة .

[ ص: 49 ] وقيل : إنه مات كافرا . وروى معمر ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم أن عتبة لما كسر رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه فقال : "اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا" فما حال عليه الحول حتى مات كافرا .

وذكر الزبير أنه أصاب دما في قريش ، فانتقل إلى المدينة قبل الهجرة واتخذ بها منزلا ومالا ، ومات في الإسلام ، وأوصى لأخيه سعد ، وأمه هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة . وعتبة هذا أخو سعد لأبيه ، وكذلك خالدة أخت سعد لأبيه ، وأخوه لأبيه وأمه : عمر [ ص: 50 ] وعامر ، أمهم حمنة بنت سفيان بن أمية .

وقال ابن التين : فيه : وصية الكافر إلى المسلم ; لأن عتبة كان كافرا ، وأن للمسلم قبولها . وذكر بعده أيضا أنه مات كافرا ، وبه جزم الدمياطي أيضا .

والغلام المتنازع فيه اسمه عبد الرحمن -كما سلف- بن زمعة بن قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ، وأمه امرأة يمانية ، وله عقب بالمدينة ، وله ذكر في الصحابة .

وهذه المخاصمة كانت عام الفتح كما أخرجه البخاري في الفرائض . وسودة إحدى أمهات المؤمنين ، تزوجها بعد خديجة ، وماتت في آخر خلافة معاوية .

ثانيها : في ألفاظه : (الوليدة) : الجارية ، وجمعها : ولائد . قال ابن داود من أصحابنا : وهو اسم لغير أم الولد . وقال الجوهري : (الوليدة) : الصبية والأمة .

وقوله : ("يا عبد بن زمعة") يجوز في ابن رفعه على النعت ونصبه على الموضع ، ويجوز لك في عبد ضم داله على الأصل وفتحه إتباعا [ ص: 51 ] لنون ابن . وزمعة بإسكان الميم على الأكثر كما مضى .

واختلف في معنى قوله : ("هو لك يا عبد") على قولين :

أحدهما : معناه : هو أخوك ، قضاء منه - صلى الله عليه وسلم - بعلمه لا باستلحاق عبد له ; لأن زمعة كان صهره - صلى الله عليه وسلم - ، وسودة ابنته كانت زوجته فيمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - علم أن زمعة كان يمسها .

والثاني : معناه : هو لك يا عبد ملكا ; لأنه ابن وليدة أبيك ، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد ، ولم يقر زمعة ولا شهد عليه ، والأصول تدفع قول ابنه فلم يبق إلا أنه عبد تبعا لأمه ، قاله ابن جرير .

وقال الطحاوي : معنى : "هو لك" أي : بيدك لا ملك له ، لكنك تمنع منه غيرك ، كما قال للملتقط في اللقطة : "هي لك" أي : بيدك تدفع عنها غيرك حتى يأتيها صاحبها ، لا أنها ملك لك . ولا يجوز أن يضاف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جعله ابنا لزمعة وأمر أخته أن تحتجب منه ، لكن لما كان لعبد شريك فيما ادعاه وهو سودة ، ولم يعلم منها تصديقه ألزم - صلى الله عليه وسلم - عبدا بما أقر به ، ولم يجعله حجة على سودة ، ولم يجعله أخاها ، وأمرها أن تحتجب منه .

قلت : فيه نظر ، وسيأتي الجواب عن احتجابها منه ، وليس بمحال .

ويؤيد الأول رواية البخاري في المغازي : "هو لك ، هو أخوك يا عبد ابن زمعة" من أجل أنه ولد على فراشه . لكن في "مسند أحمد" و"سنن النسائي" : "ليس لك بأخ" . واختلف في تصحيحها ; [ ص: 52 ] فأعلها البيهقي والمنذري والمازري ، وأما الحاكم فاستدركها وصحح إسنادها .

[ ص: 53 ] وقال بعضهم الرواية فيه : "هو لك عبد" بإسقاط حرف النداء الذي هو ياء ، أي : هو وارثه ، فيرث هذا الولد وأمه . وهي غير صحيحة ، ثم على تقدير صحتها قد يكون المراد : يا عبد ، فحذف حرف النداء كقوله : يوسف أعرض عن هذا [يوسف : 29] .

وقوله : ("الولد للفراش") أي : لصاحب الفراش . وكذا أخرجه في الفرائض البخاري من حديث أبي هريرة وترجم عليه وعلى حديث عائشة : الولد للفراش حرة كانت أو أمة . والعاهر : الزاني . ومعنى له الحجر : الخيبة ولا حق له في الولد .

وقد أوضحت شرح هذا الحديث في شرحي "للعمدة" فليراجع منه .

وانفرد أبو حنيفة فقال : لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت ولدا واستلحقه فما يأتي بعد ذلك يلحقه إلا أن ينفيه . ومقصود البخاري بإيراده هنا استعمال الورع في الأمر الثابت في ظاهر الشرع ، والأمر للاحتياط حيث أمرها بالاحتياط ورعا .

وقوله : (من شبهه) بفتح الشين والباء وبكسر الشين وسكون الباء .

وادعى الداودي أن هذا الحديث ليس من الباب في شيء ; لأنه يحكم [ ص: 54 ] فيه بالشبه وبقول القافة . وليس كما زعم بأنه تفسير للشبهات . واحتج لابن القاسم على عبد الملك بقوله : ("احتجبي") في قوله : إن الزاني لا ينكح ابنته . قالوا : فلو لم يراع الزاني ، لما أمرها أن تحتجب . وأجيب بأن ذلك من باب الستر ، وللرجل أن يمنع زوجته رؤية أخيها .

تنبيهات :

أحدها : روى الطحاوي من حديث عروة ، عن عكرمة ، عن عبد الله ابن زمعة أنه خاصمه رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد ولد على فراش أبيه ; فقال - صلى الله عليه وسلم - : "الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة" قال : والأول أولى لموافقة الجماعة ; ولأن عبد الله بن زمعة لم يعلم له حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى حديث الوليدة . وعبد الله بن زمعة -الذي روى عنه عروة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باستخلاف أبي بكر على الصلاة .

[ ص: 55 ] وحديث عاقر الناقة -ليس هو بابن زمعة أخي سودة ، إنما هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب .

ثانيها : ذكر ابن الجوزي : إذا مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره فادعاه ورثته لحق به ، إلا أنه لا يشارك مستلحقيه في ميراثهم إلا أن يستلحق قبل القسمة ، فإن كان أنكره فلا إلحاق . وكان سعد يقول : هو ابن أخي ، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، وكان عبد يقول : هو أخي ولد على فراشه ، يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإسلام ، فقضى به - صلى الله عليه وسلم - إبطالا لحكم الجاهلية .

ثالثها : يؤخذ من قوله : "احتجبي منه يا سودة" أن من فجر بامرأة حرمت على أولاده ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والأوزاعي والثوري ، وهو قول لنا لأنه لما رأى الشبه بعتبة فأجراه مجرى النسب ، والأظهر عندنا وعن مالك وأبي ثور : لا ، والاحتجاب للتنزيه .

ويحتمل كما قال القرطبي أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق سودة . وكذلك قال في حفصة وعائشة في حق ابن أم مكتوم : "أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه" ، وقال لفاطمة بنت قيس :

[ ص: 56 ] "انت قلي إلى بيت ابن أم مكتوم تضعين ثيابك عنده" فأباح لها ما منعه لأزواجه .

قلت : بل هما أم سلمة وميمونة ، لا حفصة وعائشة .

رابعها : قول عبد : (أخي) تمسك به الشافعي على أن الأخ يجوز أن يستلحق الوارث نسبا لمورثه بشرط حوزه للإرث ، إذ يستلحقه الكل وبشرط الإمكان وغير ذلك مما هو مذكور في الفروع ، وهي موجودة في الولد المذكور حين استلحقه عنده . وتأوله أصحابنا بتأويلين :

أحدهما : أن سودة أخت عبد استلحقته معه ووافقته في ذلك حتى يكون كل الورثة مستلحقين .

[ ص: 57 ] ثانيهما : أن زمعة مات كافرا فلم ترثه سودة كما سلف وورثه عبد .

وقال مالك : لا يستلحق إلا الأب خاصة ، واعتذر عنه بأنه - صلى الله عليه وسلم - لعله علم أنه بالفراش .

خامسها : قال الطحاوي : جعل بعض الناس دعوى سعد دعوى ادعاها لأخيه من أمة لغيره لا تزويج بينهما ، وليس كما قال ; لأنه أعلم من أن يدعي دعوى لا معنى لها ، ووجه دعواه أن أولاد البغايا في الجاهلية قد كانوا يلحقونهم في الإسلام بمن ادعاهم ، وقد كان عمر بن الخطاب يحكم بذلك على بعده من الجاهلية ، فكيف في عهده - صلى الله عليه وسلم - مع قربه من الجاهلية! فإن ما ادعى سعد ما كان يحكم له به ; لأنه بمنزلة أخيه في ذلك الذي قد توفي بعهده فيه ; لولا أن عبد بن زمعة قابل دعواه بدعوى توجب عتاقه للمدعي فيه ; لأنه كان يملك بعضه بكونه ابن أمة أبيه ، فلما ادعى الأخوة عتق منه حظه ، وكان ذلك هو الذي أبطل دعوى سعد فيه لا لأنها كانت باطلة ، ولم يكن من سودة تصديق لأخيها عبد على ما ادعاه من ذلك ، فألزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أقر به في نفسه وخاطبه بقوله : "الولد للفراش" ولم يجعل ذلك حجة عليها ، وأمرها بالحجاب منه ، إذ لم يجعله أخاها ، وكيف يجوز أن يجعله أخاها ويأمرها بالاحتجاب منه ، وهو قد أنكر على ذلك احتجابها من عمها من الرضاعة ؟

فائدة : لا خلاف أن من مات وبيده عبد فادعى بعض بني المتوفي أنه أخوه أنه لا يثبت له بتلك الدعوى نسب من المتوفي ، وأنه يدخل مع المدعي في ميراثه عند أكثر أهل العلم ، وإن كان ما يدخل منه مختلفا [ ص: 58 ] في مقداره ، ولا يدخل في قول أخرى في شيء مما بيده ، منهم الشافعي ، وحكي أنه قول جماعة من المدنيين .

قال الطحاوي : وقد روي عن عبد الله بن الزبير أنه كان لزمعة جارية يطؤها ، وكان يظن برجل يقع عليها ، فمات زمعة وهي حامل ، فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها فذكرته سودة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : "أما الميراث فله وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك" ففيه نفي الأخوة . واحتمل قوله : "أما الميراث فله" أن يكون المراد به الميراث الذي وجب له في قصة عبد بإقراره به لا فيما سواه من تركه زمعة .

سادسها ; فائدة : فيه -كما قال أبو عمر- : الحكم بالظاهر إذ حكم للولد بالفراش ولم يلتفت للشبه ، وكذلك حكم في اللعان بظاهر الحكم ، ولم يلتفت إلى ما جاءت به على النعت المكروه . وحكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطل لأمره سودة بالاحتجاب .

وأما حديث عدي فذكره هنا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أفتاه بالشدة عن الشبهة أيضا ; خشية أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه كما أسلفناه ، فكأنه أهل به لغير الله ، وقد قال تعالى في ذلك وإنه لفسق [الأنعام : 121] فكانت في فتياه باجتناب الشبهات دلالة على اختيار القول في الفتوى بالأحوط في النوازل والحوادث المحتملة للتحليل والتحريم الذي لا يقف على حلالها وحرامها ; لاشتباه أسبابها ، وهذا معنى الحديث السالف : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أي : دع ما تشك فيه ولا تتيقن إباحته ، وخذ ما لا يشك فيه ولا التباس ، وقال ابن المنذر عن بعضهم : الشبهة تنصرف ثلاثة أقسام :

[ ص: 59 ] أحدها : شيء يعلمه المرء حراما ثم يشك في حله ، فالأصل التحريم إلا بيقين مثل: الصيد حرام قبل ذكاته ، ثم يشك في ذكاته . وحديث عدي شاهد له ، وهو أصل لكل محرم حتى يحل ، ومن ذلك موت قريب على ما بلغه ، وله جارية فيتوقف حتى يتبين . وكذا إذا اشتبه عليه مذكى بميتة ، ولا مدخل للاجتهاد فيه على الأصح .

ثانيها : شيء يعلمه حلالا ثم يشك في تحريمه ، فالأصل الحل ، كجارية شك في عتقها ، وزوجة شك في طلاقها . وحديث عبد الله بن زيد شاهد له .

ثالثها : أن يشكل فلا يدري حله أو حرمته ويحتملان ، فالأحسن التنزه كما فعل الشارع في التمرة الساقطة .

وفيه : المعراض وهو عصا في طرفها حديدة يرمي الصائد بها الصيد ، فما أصاب بحده فهو وجه ذكاته فيؤكل ، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ ، وهو المقتول بما لا حد له كالعصا والحجر . يقال : أقذتها أقذها إذا أثخنتها ضربا . وقال أبو سعيد : الوقذ : الضرب على ما بين القفا فتصير هدتها إلى الدماغ فتذهب العقل . وقال ابن فارس : الوقذ : شدة الضرب .

وفيه : دلالة على اعتبار التسمية في الصيد . وقد اختلف العلماء في تاركها عمدا وسهوا على ثلاثة أقوال ، ثالثها : يفرق بين العامد والساهي ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن [ ص: 60 ] حي وإسحاق ورواية عن أحمد ، وقال أشهب : يؤكل مطلقا إلا أن يكون مستحقا .

وحمل ابن القصار وابن الجهم قول مالك في العامد على الكراهية .

وقال عيسى وأصبغ : هو حرام مطلقا . وهو قول أبي ثور وداود . وقال الشافعي : هو حلال مطلقا ، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة .

قال ابن عبد البر : ولا أعلم أحدا من السلف روي عنه المنع مطلقا إلا محمد بن سيرين والشعبي ، على خلاف فيه ، ونافع .

وأما حديث التمرة المسقوطة والساقطة ، قد يأتي مفعول بمعنى فاعل كقوله : إنه كان وعده مأتيا [مريم : 61] ، أي : آتيا ، و حجابا مستورا [الإسراء : 45] أي : ساترا .

وفيه : أن التمرة وغيرها من اللقط لا يعرف .

وفيه : أنه لا يجب أن يتصدق بها .

وفي "المدونة" : يتصدق بالطعام تافها كان أو غير تافه أعجب إلي إذا كان إن بقي خشي عليه الفساد . وقال مطرف : إن أكله غرمه وإن كان تافها . وهذا الحديث حجة عليه ، قال : وإن تصدق به فلا شيء عليه ، ومذهبه تعريف اللقطة وإن قلت كالتمرة والدرهم ، وكذا الشافعي لكن ليس كالكثير بل زمنا يقل أسف صاحبه عليه غالبا . وحكى ابن المنذر عن مالك : يعرفها سنة فإن كانت أقل من درهم إلا أن تكون اليسير مثل الفلس والجزرة فإنه يتصدق به من يومه ولا يأكله . وعن أبي حنيفة أن القليل عشرة دراهم . وقال ابن وهب : يعرفه أياما ثم يأكله إن كان فقيرا أو يتصدق به إن كان مليا .

[ ص: 61 ] وفيه : أنه لا يأكل الصدقة ; لتخوفه أن يكون ذلك من الصدقة ، وأنها حرام عليه ، وقد سلف ذلك في الزكاة .

قال المهلب : تركها تنزها عنها ; لجواز أن تكون من تمر الصدقة ، وليس على أحد غيره بواجب أن يتبع (الجزازات) ; لأن الأشياء مباحة حتى يقوم الدليل على الحظر ، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره ، ولا يدرى أحلال هو أم حرام واحتملهما ولا دليل على أحدهما ، ولا يجوز أن يحكم على من أخذ مثل ذلك أنه أخذ حراما ; لاحتمال أن يكون حلالا ، غير أنا نستحب من باب الورع أن نقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما فعل في التمرة ، وقد قال لوابصة بن معبد حين سأله عن البر والإثم فقال : "البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في الصدر" كذا ساقه ابن بطال عن وابصة ، والذي يحضرنا أنه قال للنواس بن سمعان . وقال ابن عمر : لا يبلغ أحد حقيقة التقوى [ ص: 62 ] حتى يدع ما حاك في الصدر .

فإن قلت : إذا وجدت التمرة في البيت فقد بلغت محلها وليست منالصدقة ، قلت : كان - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل -كما ساقه البخاري عن أبي هريرة- وإن الحسن أو الحسين أخذ تمرة فجعلها في فيه ، فطرحها من فيه . وهذا أحسن من جواب القابسي أنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم الصدقة ثم ينقلب إلى أهله ، فربما علقت تلك التمرة بثوبه فسقطت على فراشه فصارت شبهة .

وفيه أيضا : أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة ويتشاح في مثله ، وأما التمرة واللبابة من الخبز ونحوهما فقد أجمعوا على أخذها [ ص: 63 ] ورفعها من الأرض وإكرامها بالأكل دون تعريفها ; استدلالا بقوله :

"لأكلتها" وأنها مخالفة لحكم اللقطة ، وسيأتي ذلك في كتاب : اللقطة . وحديث أنس وحديث أبي هريرة يدل أنهما واقعتان ، وجد تمرة في الطريق والثانية على فراشه .

وأما حديث عائشة فإقراره لهم على هذا السؤال وجوابه لهم يدل على اعتبار التسمية إما عند الذبح أو عند الأكل ، والتسمية عند الأكل مستحبة ، وظاهره أنها تنوب عن التسمية عند الذكاة ، لا كما نفاه ابن التين وابن الجوزي حيث قال : قوله : "سموا وكلوا" ليس يعني أنه يجزئ عما لم يسم عليه ولكن ; لأن التسمية عند الطعام سنة ، ويستباح بها أكل ما لم يعرف أسمي عليه أم لا إذا كان الذابح ممن تصح ذكاته إذا سمى .

قال الداودي : أمر - صلى الله عليه وسلم - ألا نظن بالمسلمين إلا خيرا ، وأن نحمل أمرهم على الصحة حتى يتبين غيره .

وقال مالك في "الموطأ" : هذا كان في أول الإسلام قبل أن تنزل آية التسمية . وقد روى ذلك مبينا في حديث عائشة : أن الذابحين كانوا حديثي عهد بالإسلام وممن يصح أن لا يعلموا أن هذا شرع ، وأما الآن فقد استبان ذلك حتى لا نجد من لا يعلم أنها مشروعة ، ولا نظن بالمسلمين تركها ، فليسم إذا أكل ، ويسمي الآكل لما يخشى من النسيان ، قاله الداودي ، وهي نزعة مالكية .

وقال ابن بطال : في جواب هذا منه - صلى الله عليه وسلم - من الأخذ بالحزم في ذلك ; خشية أن ينسى الذي صاده التسمية ، وإن كانت التسمية عند الأكل غير [ ص: 64 ] واجبة ، لما تقرر من فضل أهل ذلك القرن ، وبعدهم عن مخالفة أمر الله ورسوله في ترك التسمية على الصيد . وإنما لم تدخل الوساوس في حكم الشبهات المأمور باجتنابها لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" فالوسوسة ملغاة مطرحة لا حكم لها ما لم تستقر وتثبت . والمالكية حملوا حديث عبد الله بن زيد على المستنكح الذي يغتر به ذلك كثيرا بدليل شكايته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك . والشكوى إنما تكون من علة ، فإذا كثر الشك في مثل ذلك وجب إلغاؤه وإطراحه ; لأنه لو أوجب له - صلى الله عليه وسلم - حكما ; لما انفك صاحبه من أن يعود إليه مثل ذلك التخيل والظن فيقع في ضيق وحرج . وكذا حديث عائشة مثل هذا المعنى ; لأنه لو حمل ذلك الصيد على أنه لم يذكر اسم الله عليه ، لكان في ذلك أعظم الحرج ، والمسلمون محمولون على السلامة ، ولا ينبغي أن نظن بهم ترك التسمية ، فتضعف الشبهة فيه ، فلذلك لم يحكم بها وغلب الحكم بضدها ، لأن المسلمين في ذلك الزمن كانوا من القرن الذين أثني عليهم ، فلا يتوجه إليهم سوء الظن في دينهم .

وكذا قال أبو عمر : في الحديث من الفقه أن ما ذبحه المسلم ولا يدرى هل سمى عليه أم لا ؟ أنه لا بأس به ، وهو محمول على [ ص: 65 ] أنه سمى ، إذ المؤمن لا يظن به إلا الخير ، وذبيحته وصيده أبدا محمولة على السلامة حتى يتبين غيره من تعمد ترك التسمية ونحوه ، قال : وبلغني أن ابن عباس سئل عن الذي نسي أن يسمي الله -عز وجل- على ذبيحته ، قال : يسمي الله ويأكل ولا بأس عليه . وقال مالك مثله .

ومما يدل على بطلان قول من قال : إن ذلك كان قبل نزول : ولا تأكلوا أن هذا الحديث كان بالمدينة ، وأن أهل مكة باديتها هم الذين أشير إليهم بالذكر في الحديث . ولا يختلف العلماء أن الآية نزلت في الأنعام بمكة ، وأن الأنعام مكية .

قلت : لكن ذكر الثعلبي وغيره أن فيها ست آيات مدنيات نزلن بها .

وأجمع العلماء على أن التسمية على الأكل إنما معناها التبرك لا مدخل لها في الذكاة بوجه من الوجوه . واستدل جماعة العلماء على أن التسمية ليست واجبة بهذا الحديث لما أمرهم بأكل ذبيحة الأعراب بالبادية ، إذ يمكن أن يسموا ويمكن أن لا بجهلهم . ولو كان الأصل أن لا يؤكل من ذبائح المسلمين إلا ما صحت التسمية عليه لم يجز استباحة شيء من ذلك إلا بيقين من التسمية ، إذ الفرائض لا تؤدى إلا بيقين ، والشك والإمكان لا تستباح به المحرمات . قالوا : وأما قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الآية [الأنعام : 121] فإنما خرج على تحريم الميتة وتحريم ما ذبح على النصب وأهل به لغير الله ، قال ابن عباس : خاصمت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل [ ص: 66 ] مما قتل الله . فأنزل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " الآية .

[ ص: 67 ] قال أبو عمر : كذا في الحديث : اليهود ، وإنما هم المشركون ; لأن اليهود لا يأكلون الميتة كما ساقه ابن عباس مرة أخرى . والمخاصمة هي التي قال تعالى : وإنه لفسق الآية [الأنعام : 121] . يريد قولهم : ما قتل الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية