التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1956 [ ص: 83 ] 9 - باب: الخروج في التجارة

وقول الله تعالى : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [الجمعة : 10] .

2062 - حدثنا محمد بن سلام ، أخبرنا مخلد بن يزيد ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني عطاء ، عن عبيد بن عمير ، أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلم يؤذن له -وكأنه كان مشغولا- فرجع أبو موسى ، ففرغ عمر فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له . قيل : قد رجع . فدعاه ، فقال : كنا نؤمر بذلك . فقال : تأتيني على ذلك بالبينة . فانطلق إلى مجلس الأنصار ، فسألهم . فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري . فذهب بأبي سعيد الخدري . فقال عمر : أخفي علي من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! ألهاني الصفق بالأسواق . يعني : الخروج إلى تجارة . [6245 ، 7353 - مسلم : 2153 - فتح : 4 \ 218]


ثم ذكر حديث عبيد بن عمير : أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر ، فلم يؤذن له -وكأنه كان مشغولا- فرجع أبو موسى ، ففرغ عمر فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له . قيل : قد رجع . فدعاه ، فقال : كنا نؤمر بذلك . فقال : (لتأتيني) على ذلك بالبينة . فانطلق إلى مجلس الأنصار ، فسألهم ، فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري . فذهب بأبي سعيد الخدري . فقال عمر : أخفي علي (هذا) من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! ألهاني الصفق بالأسواق . يعني : الخروج إلى تجارة .

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا . وفيه : أن الشاهد أبي بن كعب وقال له : يا ابن الخطاب : لا تكن عذابا على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 84 ] قال : سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ، وفي أبي داود : فقال عمر لأبي موسى : إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد . وفي "الموطأ" : أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقال ابن عبد البر : عن بعضهم في هذا الحديث : كلنا سمعه ، وقد رواه قوم عن أبي سعيد عن أبي موسى : وإنما هو من النقلة لاختلاط الحديث عليهم ودخول قصة أبي سعيد مع أبي موسى في ذلك ، كلهم يقولون : عن أبي سعيد في قصة أبي موسى .

ولم يخف على عمر أصل الاستئذان فإنه ثابت بنص القرآن ، وإنما خفي عليه تثليث الاستئذان فطلب تأكيده .

وفيه : إيجاب الاستئذان ، والاستئناس وهو الاستئذان أيضا في قوله تعالى : حتى تستأنسوا [النور : 27] الآية . وقال بعضهم : تثليث الاستئذان مأخوذ من قوله تعالى : ثلاث مرات [النور : 58] أي : ثلاث دفعات ، فورد القرآن في المماليك والصبيان ، والسنة في الجميع .

قال أبو عمر : وهذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية الكريمة ، والذي عليه جمهورهم في قوله : ثلاث مرات [النور : 58] أي : ثلاثة أوقات ، ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها من قبل صلاة الفجر [النور : 58] الآية .

وفيه : أن الرجل العالم قد يوجد عند من هو دونه في العلم ما ليس عنده ، إذا كان طريق ذلك العلم السمع ، وإذا جاز هذا على عمر فما [ ص: 85 ] ظنك بغيره بعده ، وقد قال ابن مسعود : لو أن علم عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر عليهم .

وزعم قوم أن عمر لا يقبل خبر الواحد ، وليس كما زعموا ، كما قال ابن عبد البر ; لأنه قد ثبت عنه خبر الواحد وقبوله وإيجاب الحكم به ، أليس هو الذي نشد الناس بمنى : من كان عنده علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية فليخبرنا ، وكان رأيه : أن المرأة لا ترث من دية زوجها ; لأنها ليست من عصبته الذين يعقلون عنه ، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال : كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن "ورث امرأة أشيم من دية زوجها" ، [ ص: 86 ] وكذلك نشد الناس في دية الجنين ، فقال حمل بن النابغة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد أو وليدة ، فقضى به عمر ، ولا يشك ذو لب [ ص: 87 ] ومن له أقل منزلة من العلم أن موضع أبي موسى من الإسلام ومكانه من الفقه والدين أجل من أن يرد خبره ويقبل خبر الضحاك وحمل ، وكلاهما لا يقاس به في حال ، وقد قال له عمر في "الموطأ" : إني لم أتهمك ، كما سلف . فدل ذلك على اعتماد كان من عمر في ذلك الوقت ، الله أعلم به .

وقد يحتمل أن عمر عنده في ذلك الحين من ليست له صحبة من أهل العراق أو الشام ، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم ; لقرب عهدهم به ، فخشي عليهم أن يختلقوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الرغبة أو الرهبة أو طلبا للحجة ، لقلة علمهم ، فأراد عمر أن يريهم أن من فعل شيئا ينكر عليه ففزع إلى الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ليثبت له بذلك فعله وجب التثبت فيما جاء به إذا لم يعرف حاله حتى يصح قوله ، فأراهم عمر ذلك ووافق أبو موسى ، وإن كان عنده معروفا بالعدالة غير متهم ; ليكون ذلك أصلا عنه لهم ، وللحاكم أن يجتهد ما أمكنه .

[ ص: 88 ] وكان عمر قد استعمل أبا موسى ، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا ساعيا وعاملا على بعض الصدقات ، وهذه منزلة رفيعة في الثقة والأمانة .

وزعم الترمذي أن عمر إنما أنكر على أبي موسى قول : "الاستئذان ثلاث مرات فإن أذن لك ، وإلا فارجع" ، وذلك أن أبا زميل روى عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : استأذنت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا فأذن لي . ثم قال : حسن غريب .

وفيه دلالة على أن طلب الدنيا تمنع من استفادة العلم ، وأن كلما ازداد المرء طلبا لها ازداد جهلا ، وقل علمه ، ومن هذا قول أبي هريرة السالف : وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم السفق بالأسواق ، وروى عقيل عن ابن شهاب أنه قال : إنما سن التسليمات الثلاثة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أتى سعد بن عبادة ، فقال : "السلام عليكم" ، فلم يردوا ، ثم قال : "السلام عليكم" ، فلم يردوا ، فرجع - صلى الله عليه وسلم - ، فلما فقد سعد صوت رسول - صلى الله عليه وسلم - ، عرف أنه قد انصرف ، فخرج سعد في إثره حتى أدركه ، فقال : وعليك السلام يا رسول الله ، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك . الحديث . وروى حماد بن سلمة ، عن أيوب وحبيب ، عن محمد ، عن أبي هريرة قال : [ ص: 89 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" ، ومن أحسن حديث روي في كيفية الاستئذان ما رواه سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : استأذن عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : السلام على رسول الله ، السلام عليكم ، أيدخل عمر ؟

[ ص: 90 ] وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن أبي الزبير ، عن عمرو مولى آل عمر أنه دخل على عبد الله بن عمر بمكة ، قال : فوقفت على الباب ، فقلت : السلام عليكم ، ثم دخلت ، فنظر في وجهي ، ثم قال : اخرج ، قال : فخرجت ، ثم قلت : السلام عليكم ، أأدخل ؟ قال : ادخل الآن .

وقال عطاء : سمعت أبا هريرة يقول : إذا قال الرجل : أأدخل ؟ ، ولم يسلم ، فلا تأذن له حتى يأتي بمفتاح ، قلت : السلام ؟ قال : نعم .

ومن حديث إبراهيم بن إسماعيل ، عن أبي الزبير ، والوليد أبي المغيث ، عن جابر قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له" وروى عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان الناس [ ص: 91 ] ليس لبيوتهم ستر ولا حجاب ، فأمرهم الله تعالى بالاستئذان ، ثم جاءهم الله بالستور وبالخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد ، وأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جابر حين دق الباب ، فقال : "من هذا ؟ " قلت : أنا ، قال : [ ص: 92 ] "أنا"! فكرهه" ، والسنة أن يسلم ويستأذن ثلاثا ; ليجمع بينهما . واختلفوا هل يستحب تقديم السلام ، ثم الاستئذان أو عكسه ، وقد صح حديثان في تقديم السلام ، فذهب جماعة إلى الأول ، وقيل : يقدم الاستئذان واختار الماوردي في "حاويه" : إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، وأما إذا استأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، فظن أنه لم يسمعه ، ففيه ثلاثة مذاهب ، أظهرها : أنه ينصرف ولا يعيد الاستئذان - ثانيها : يزيد فيه ، ثالثها : إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده ، وإن كان بغيره أعاده .

وقوله : (ألهاني الصفق بالأسواق) : يعني : الخروج إلى التجارة ، وهذا على معنى الذم لنفسه ; لأن بخروجه إليه تحدث وقائع ، فيفتي [ ص: 93 ] فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتفوته ، وكان عمر يفعل ذلك للكفاف ، حاشا أن يقل من مجالسته وملازمته ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقول : "فعلت أنا وأبو بكر وعمر" ، و "كنت أنا وأبو بكر وعمر" ، ومكانهما منه عال ، لا يقدر على نواله ، وكان عمر من أزهد الناس ; لأنه وجد فترك .

قال المهلب : وهذا مأخوذ من قوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا [الجمعة : 11] قرنا به ، فسماها عمر لهوا مجازا ; لأن اللهو المذكور في الآية غير التجارة للفصل بأو ، وهو الدف عند النكاح وشبهه ، فدل هذا إنما أراد : شغلني البيع والشراء عن الملازمة في كل أحيانه ، حتى حضر من هو أصغر مني ما لم أحضره من العلم .

وفيه : أن الصغير قد يكون عنده ما ليس عند الكبير كما سلف ، وإنه يجب البحث وطلب الدليل على ما ينكره من الأقوال حتى تثبت عنده .

التالي السابق


الخدمات العلمية