التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1961 [ ص: 100 ] 13 - باب: من أحب البسط في الرزق

2067 - حدثنا محمد بن أبي يعقوب الكرماني ، حدثنا حسان ، حدثنا يونس ، حدثنا محمد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من سره أن يبسط له رزقه أو ينسأ له في أثره ; فليصل رحمه" . [5986 - مسلم: 2557 - فتح: 4 \ 301]


ذكر فيه حديث أنس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره : فليصل رحمه" .

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا ، وخرجه من حديث أبي هريرة أيضا ، ومحمد الراوي عن أنس هو الزهري ، وأخرجه البخاري في الأدب عن ابن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب .

وشيخ البخاري محمد بن أبي يعقوب الكرماني ، هو محمد بن إسحاق بن منصور بصري ، مات سنة أربع وأربعين ومائة .

و ("ينسأ") مهموز أي : يؤخر وهو رباعي أنسأ الله أجله ونسأ الله في أجله . والأثر -مفتوح الهمزة والثاء- باقي الأجل .

قال كعب بن زهير :

والمرء ما عاش ممدود له أجل لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر

وفي الحديث : إباحة اختيار الغنى على الفقر ، وسيأتي بسطه في الرقاق ، وجملة من الباب في الأدب في باب : من بسط له في الرزق لصلة الرحم ، إن شاء الله ، ولا تعارض بينه وبين حديث : "يجمع خلق [ ص: 101 ] أحدكم في بطن أمه" ، وفيه : "ويؤمر بكتب رزقه وأجله" ; لأمرين :

أحدهما ; أن معنى البسط في الرزق : البركة فيه ; لأن صلته أقاربه صدقة ، والصدقة تربي المال ، وتزيد فيه فينمو بها ويزكو .

ومعنى قوله : ("ينسأ له في أثره") يبقى ذكره الطيب وثناؤه الجميل مذكورا على الألسنة فكأنه لم يمت ، وبه قال القاضي عياض فقال : المراد بقاء الثناء الجميل بعد الموت . والعرب تقول : الثناء يعارض الخلود . قال الشاعر :

إن الثناء هو الخلو     د كما يسمى الذم موتا

قال : قد مات قوم وهم في الناس أحياء .

يعني : بسوء أفعالهم وقبح ذكرهم .

ثانيهما : أنه يجوز أن يكتب في بطن أمه أنه إن وصل رحمه فإن رزقه وأجله كذا ، وإن لم يصله فكذا ; لدلالة قوله تعالى في قصة نوح - عليه السلام - : واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى [نوح : 3 - 4] يريد أجلا قد قضى به إليكم إن أطعتم يؤخركم إليه ; لأن أجل الله إذا جاء في حال معصيتهم لا يؤخر عنهم ، قال تعالى : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا [يونس : 98] وهو [ ص: 102 ] الهلاك على الكفر ، ومتعناهم إلى حين فهذا كله من المكتوب في بطن أمه أي الأجلين استحق ، لا يؤخر عنه ، ويؤيده قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [الرعد : 39] وقد روي عن عمر ما هو تفسير لهذه الآية أنه كان يقول في دعائه : اللهم إن كنت كتبتني عندك شقيا فامحني واكتبني سعيدا ، فإنك تقول : يمحو الله الآية . وفي الحديث الحض على صلة الرحم .

قال الداودي : وفيه : دليل على فضل الكفاف . والزيادة كما أسلفناه مؤولة بأنه سبق في علم الله أن سيكون ، وقيل : الزيادة حقيقة لو لم يصل عمره رحمه ما زيدها في أجله ، وليس في قوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [الأعراف : 34] ما يدفعه ; لأن معناه الأجل الذي يكون بصلة الرحم لا كالذي يكون بقطعها ، وكذا الكلام في الرزق ودعاء الشارع لأنس : "اللهم أكثر ماله وولده" فأجيبت دعوته ولولاها لم يكن بتلك الكثرة ، فلما كان الدعاء يزيد في الرزق ويدفع البلاء [ ص: 103 ] ويبرئ المريض كذلك صلة الرحم ، وكما كان الدواء والرقى يبرئان المريض .

وفي "الترغيب والترهيب" للحافظ أبي موسى المديني من حديث عبد الرحمن بن سمرة -وقال : حسن جدا- مرفوعا : "إني رأيت البارحة عجبا ، رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه بر والديه فرد ملك الموت عنه" . الحديث .

ومن حديث أبي هريرة مرفوعا : "بر الوالدين يزيد في العمر" وفيه [ ص: 104 ] الوقاصي . وفي حديث داود بن المحبر ، عن عباد ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد يرفعانه : "ابن آدم اتق ربك ، وبر والديك ، وصل رحمك ، يمد لك في عمرك وييسر لك يسرك ويجيب عسرك وييسر لك في رزقك" . ومن حديث داود بن عيسى بن علي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مرفوعا : "إن صلة الرحم تزيد في العمر" .

قال أبو موسى : وفي الباب عن علي وابن عمر وأبي أمامة ومعاوية ابن حيدة وأم سلمة . ومن حديث زيان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن [ ص: 105 ] أنس ، عن أبيه مرفوعا : "من بر والديه طوبى له ، زاد الله في عمره" .

ومن حديث عبد الله بن الجعد عن ثوبان مرفوعا : "لا يزيد في العمر إلا بر الوالدين ، ولا يزيد في الرزق إلا صلة الرحم" . ومن حديث علي أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [الرعد : 39] فقال : "هي الصدقة على وجهها ، وبر [ ص: 106 ] الوالدين ، واصطناع المعروف ، وصلة الرحم تحول الشقاء سعادة ، وتزيد في العمر ، وتقي مصارع السوء" . زاد محمد بن إسحاق العكاشي : "يا علي من كانت فيه خصلة واحدة من هذه الأشياء أعطاه الثلاث خصال" .

وروي عن عمر وابنه وابن عباس وجابر بن عبد الله بن رئاب نحوه . ومن حديث عكرمة بن إبراهيم ، عن زائدة بن أبي الرقاد ، عن موسى بن الصباح ، عن ابن عمرو مرفوعا : "إن الإنسان ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاثة أيام فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة ، وإن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فينقص الله تعالى عمره حتى لا يبقى فيه إلا ثلاثة أيام" . قال : هذا حديث حسن لا أعرفه إلا بهذا الإسناد .

ومن حديث إسماعيل بن عياش عن داود بن عيسى قال : مكتوب في التوراة : صلة الرحم وحسن الخلق وبر القرابة تعمر الديار وتكثر [ ص: 107 ] الأموال وتزيد في الآجال وإن كان القوم كفارا .

[ ص: 108 ] قال أبو موسى : يروى هذا من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعا عن التوراة . فإن قلت : أليس فرغ من الرزق والأجل ؟ قلت : فيه خمسة أجوبة :

أحدها : أن يكون المراد بالزيادة توسعة الرزق وصحة البدن ، فإن الغنى يسمى حياة والفقر موتا .

ثانيها : أن يكتب أجل العبد مائة سنة ، ويجعل تركيبه تعمير ثمانين سنة ، فإذا وصل رحمه زاده الله في تركيبه فعاش عشرين أخرى ، قالهما ابن قتيبة .

ثالثها : أن هذا التأخير في الأجل مما قد فرغ منه ، لكنه علق الإنعام به بصلة الرحم فكأنه كتب أن فلانا يبقى خمسين سنة فإن وصل رحمه بقي ستين .

رابعها : أن تكون هذه الزيادة في المكتوب ، والمكتوب غير المعلوم ، فما علمه الله من نهاية العمر لا يتغير ، وما كتب قد يمحى ويثبت .

[ ص: 109 ] وقد كان عمر بن الخطاب يقول : إن كنت كتبتني شقيا فامحني ، كما سلف ، وما قال : إن كنت علمتني ; لأن ما علم وقوعه لا بد أن يقع . ويبقى عليه إشكال ، وهو أنه إذا كان المحتوم واقعا فما الذي أفاده زيادة المكتوب ونقصانه .

وجوابه : أن المعاملات على الظواهر ، والمعلوم الباطن خفي لا يعلق عليه حكم ، فيجوز أن يكون المكتوب يزيد وينقص ويمحى ويثبت ، ليبلغ ذلك على لسان الشارع إلى الآدمي ، فيعلم فضيلة البر وشؤم العقوق . ويجوز أن يكون هذا مما يتعلق بالملائكة ، فتؤمر بالإثبات والمحو ، والعلم الحتم لا يطلعون عليه ، ومن هذا إرسال الرسل إلى من لا يؤمن .

خامسها : إن زيادة الأجل تكون بالبركة فيه ، وتوفيق صاحبه بفعل الخير ، وبلوغ الأغراض ، فينال في قصر العمر ما يناله غيره في طويله .

وادعى الحكيم الترمذي أن المراد بذلك قلة المقام بالبرزخ . ولا أدري ما هذا! ؟

قال القاضي عياض : لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة ، وقطيعتها معصية كبيرة ، والأحاديث تشهد لهذا ، ولكن الصلة درجات بعضها فوق بعض ، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام . ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة ، فمنها واجب ، ومنها مستحب ، ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعا ، ولو قصر عما يقدر عليه ، وينبغي له ألا يسمى واصلا .

واختلف في حد الرحم التي تجب صلتها ، فقيل : في كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما ، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام وأولاد الأخوال .

[ ص: 110 ] واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح ونحوه ، وجاوز ذلك في بنات الأعمام والأخوال .

وقيل : هو عام في كل رحم من الأرحام في الميراث يستوي فيه المحرم وغيره ، ونزل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ثم أدناك أدناك" . قلت : وروي : "إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما" أخرجه مسلم . وحديث "أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه" مع أنه لا محرمية .

التالي السابق


الخدمات العلمية