التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1963 2069 - حدثنا مسلم ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن أنس ح .

حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب ، حدثنا أسباط أبو اليسع البصري ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه أنه مشى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير ، وإهالة سنخة ، ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعا له بالمدينة عند يهودي ، وأخذ منه شعيرا لأهله ، ولقد سمعته يقول : " ما أمسى عند آل محمد - صلى الله عليه وسلم - صاع بر ولا صاع حب" وإن عنده لتسع نسوة . [2508 - فتح: 4 \ 302]


ذكر فيه حديث الأعمش قال : ذكرنا عند إبراهيم الرهن في السلم فقال : حدثني الأسود ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ، ورهنه درعا من حديد .

وحديث أنس : أنه مشى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير وإهالة سنخة ، ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعا له بالمدينة عند يهودي ، وأخذ منه شعيرا لأهله ، ولقد سمعته يقول : "ما أمسى عند آل محمد - صلى الله عليه وسلم - صاع بر ولا صاع حب" وإن عنده لتسع نسوة .

الشرح : حديث عائشة أخرجه مسلم أيضا .

وفي رواية للبخاري : ومات ودرعه مرهونة عنده .

[ ص: 112 ] وترجم عليه أيضا في السلم : باب الكفيل في السلم ، ثم ساقه ، وباب الرهن في السلم ، ثم ساقه ، وفيه : إلى أجل معلوم ، وارتهن منه درعا من حديد ، وكان ذلك لأهله كما في النسائي من حديث ابن عباس ، وفي "المدونة" : قضى بذلك دينا كان عليه ، وفي غير البخاري أنه كان لضيف طرقه ، ثم فداها الصديق . وخرجه البخاري في أحد عشر موضعا من "صحيحه" ، هذا أولها .

وحديث أنس الظاهر أنه من أفراده .

وفي الباب عن ابن عباس سلف ، وهو في أبي داود وابن ماجه بإسناد على شرط البخاري . وأسماء أخرجه النسائي . واختلف في [ ص: 113 ] مقدار ما استدانه ، ففي البخاري من حديث عائشة : ثلاثين صاعا من شعير ، وفي أخرى : بعشرين ، وفي "مصنف عبد الرزاق" : بوسق شعير أخذه لأهله ، وللبزار من طريق ابن عباس أربعين صاعا .

وروى زيد بن أسلم : أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه ، فأغلظ له ، فقال لرجل : "انطلق إلى فلان فليبعنا طعاما إلى أن يأتينا شيء" ، فأبى اليهودي إلا برهن ، فقال : "اذهب إليه بدرعي" .

[ ص: 114 ] وهذا اليهودي يقال له : أبو الشحم ، قاله الخطيب البغدادي في "مبهماته" وكذا جاء في رواية للشافعي والبيهقي من حديث (عبد الله ابن) جعفر بن أبي طالب عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - رهن درعا له عند أبي الشحم اليهودي -رجل من بني ظفر- في شعير ، لكنه منقطع كما قاله البيهقي . ووقع في "نهاية إمام الحرمين" تسميته بأبي شحمة . وهذه الدرع هي ذات الفضول قاله أبو عبد الله محمد بن أبي بكر التلمساني في كتابه : "الجوهرة" .

[ ص: 115 ] وفيه أحكام خمسة :

أحدها : ما ترجم عليه وهو الشراء بالنسيئة ، وهو إجماع . قال ابن عباس : هو في كتاب الله ، وذكر : إلى أجل مسمى [البقرة : 282] .

ثانيها : معاملة الشارع اليهود لبيان الجواز والاقتداء به . فإن قلت : لم لم يرهن عند مياسير الصحابة ؟ أجيب ; لأنه لا يبقى لأحد عليه منة لو أبرأ منه وقبل .

ثالثها : معاملة من يظن أن أكثر ماله حرام ما لم يتيقن أن المأخوذ بعينه حرام ، قاله الخطابي . قال ابن التين : ولا أدري من أين أخذه ؟ قلت : ظاهر ، وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون للسحت .

الرابعة : قال بعضهم : إنما رهن منهم ; لأنهم كانوا الباعة في المدينة حينئذ ، والأشياء (متعددة) عندهم ممكنة ، وكان وقت ضيق ، وربما لم يوجد عند أصحابه ، وكانت الأشياء متعذرة ، مع إشارته - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف مع أصاحبه .

وفيه : الرهن في الحضر كما صرح به في الحديث ، وانفرد مجاهد وتبعه داود بمنعه ، وقال : إنما ذكر الله في السفر . وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 116 ] أصح ولم يمنعه الله ، وإنما ذكر وجها من وجوهه وهو السفر .

والدرع : درع الحرب ، وقيده بالحديد ; لأن القميص يسمى درعا ، فرهن ما هو أشد إليه حاجة ، فما وجد شيئا يرهنه غيره . قال ابن فارس : درع الحديد مؤنثة ، ودرع المرأة قميصها مذكر .

و (الإهالة) : الودك . واستأهل الرجل إذا أكل الإهالة ، وقال ابن سيده : إنها ما أذيب من الشحم . وقيل : الشحم والزيت وقيل : كل دهن تأدم به إهالة ، واستأهل أخذ الإهالة . وفي "الواعي" : الإهالة : ما أذيب من شحم الألية . وقال الداودي : إنها العكة .

والسنخة : المتغيرة الرائحة من طول الزمن من قولهم : سنخ الدهن -بكسر النون- : تغير . وقال ابن التين : يعني أن فيها سمنا لم يغير طعمه شيئا ، ثم ذكر ما قدمته وروي زنخة بالزاي .

و (الآل) هنا الأهل أي : أهل البيت . وإنما قال ذلك ليعزي فقراء المؤمنين وهو شرح حال لا شكوى . ولعله سئل في وقت لم يكن عنده شيء واعتذر ، وهذا كله ابتلاء من الله ليعظم الأجر ، وإلا فقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فردها تواضعا ورضي بزي المساكين . وقال : "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" [ ص: 117 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ ص: 118 ] ليكون أرفع لدرجته ، ولقد كان يخرج فيلقى أبا بكر فيقول : "ما أخرجك" فيقول : الجوع . قال : "وأنا أخرجني" .

فكان هذا ابتلاء من الرب جل جلاله لجلالة قدره عنده . وقد قال موسى كليمه : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص : 24] والخير كسرة من شعير اشتاقها واشتهاها .

وفائدة ذلك من وجهين :

أحدهما : تعليم الخلق الصبر فكأنه قال : أنا أكرم الخلق على الله وهذا حالي ، فإذا ابتليتم أنتم فاصبروا .

ثانيهما : إعلام الناس أن البلاء يليق بالأخيار ; ليفرح المبتلى .

وفيه : رد على زفر والأوزاعي أن الرهن ممنوع في السلم .

[ ص: 119 ] نعم كره علي الرهن والقبيل في السلم ، وابن عمر وابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير وشريح وسعيد بن المسيب ، كما ذكره ابن أبي شيبة عنهم .

وقال مالك : لا بأس بالرهن والكفيل فيه ، ولم يبلغني أن أحدا كرهه غير الحسن البصري ، ورخص فيه عطاء والشعبي . وبه قال أبو حنيفة وصاحباه والثوري والشافعي . وقال أحمد وأبو ثور : لا يجوز ذلك في السلم ولا سبيل له على الكفيل .

وحجة من كرهه أنه إن أخذ الرهن في رأس المال فرأس المال غير الدين ، إنما دينه ما أسلم فيه ، ورأس المال مستهلك في الذمة غير مطلوب به ، وإن أخذه بالسلم فيه فكأنه اقتضاه قبل أجله ، وهو من باب سلف جر منفعة لأنه ينتفع بما يستوثق به من الرهن والضامن .

وحجة المجيز إجماعهم على إجازة الرهن والكفيل والحمالة في الدين المضمون من ثمن سلعة قبضت ، فكذلك السلم ، وبالقياس على الثمن .

وفيه : جواز رهن آلة الحرب عند أهل الذمة ، وذلك أن من أمنته فأنت آمن منه ، بخلاف الحربي .

وفيه : قبول ما تيسر وإهداء ما تيسر ، وقد دعي - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجاب ، أخرجه البيهقي عن الحسن مرسلا .

وفيه : مباشرة الشريف والعالم شراء الحوائج بنفسه وإن كان له من يكفيه ; لأن جميع المؤمنين كانوا حريصين على كفاية أمره وما يحتاج إلى التصرف فيه رغبة منه في رضائه وطلب الأجر والثواب .

[ ص: 120 ] فإن قلت : فما تعمل في الحديث الصحيح : "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مات وهي مرهونة .

قلت : هو محمول على من لم يخلف وفاء دون من خلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية