التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1969 2075 - حدثنا يحيى بن موسى ، حدثنا وكيع ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، [ ص: 122 ] عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لأن يأخذ أحدكم أحبله [خير له من أن يسأل الناس" ] . [انظر : 1471 - فتح: 4 \ 304]


ذكر حديث عروة أن عائشة قالت لما استخلف أبو بكر الصديق قال : لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي ، وشغلت بأمر المسلمين ، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين فيه .

وحديثها : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمال أنفسهم الحديث .

وسلف في الجمعة ، رواه همام ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .

ثم ساق حديث المقدام من حديث خالد بن معدان ، عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" .

وهو من أفراده كالأثر الأول ، وهو هنا خاصة .

ومحمد شيخ البخاري في حديث عائشة هو محمد بن يحيى الذهلي كما قاله الجياني .

[ ص: 123 ] وقوله : (رواه همام إلى آخره) أسنده أبو نعيم من حديث هدبة عنه .

والراوي عن أبي الأسود سعيد وهو ابن أبي أيوب مقلاص أبو يحيى ، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة .

وزعم الإسماعيلي أن سنده منقطع ، بين خالد والمقدام جبير بن نفير .

ورواه ابن ماجه ، عن هشام ، عن ابن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن خالد بن معدان ، عنه مرفوعا : "ما من كسب الرجل أطيب من عمل يديه ، وما أنفق الرجل على نفسه وولده وخادمه فهو صدقة" .

والمقدام : - (خ) والأربعة -هو ابن معدي كرب مات سنة سبع وثمانين عن إحدى وتسعين سنة .

ثم ذكر حديث أبي هريرة : "أن داود كان لا يأكل إلا من عمل يده" .

وهو من أفراده ، وللإسماعيلي زيادة : "خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه لتسرج فكان يقرأ القرآن قبل أن تسرج وإنه كان لا يأكل إلا من عمل يده" .

ويحيى بن موسى شيخ البخاري فيه هو المعروف : بخت ، لقب بذلك ; لأن اللفظة المذكورة جرت على لسانه .

[ ص: 124 ] وحديثه أيضا : "لأن يحتطب . . . " إلى آخره . سلف . وكذا حديث الزبير مثله .

وفي الإسرائيليات : سمع داود يوما قائلا يقول : نعم العبد داود لو كان يأكل من عمل يده ، فدعا الله فعلمه صنعة الحديد . وفي الحاكم من حديث أبي بردة ، -يعني : ابن نيار- : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الكسب أطيب وأفضل ؟ قال : "عمل الرجل بيده أو كل بيع مبرور" .

وعن البراء بن عازب نحوه ، وقال : صحيح الإسناد .

[ ص: 125 ] وعن رافع بن خديج مثله .

وللنسائي عن عائشة : "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" .

[ ص: 126 ] ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم" .

إذا تقرر ذلك : فالحرفة والاحتراف : الكسب ، يقال : فلان يحترف لعياله أي يكتسب ، واحترف احترافا نما ماله وصلح ، قال المهلب : الحرفة هنا : التصرف في المعاش . والتحرف لما اشتغل عنه أبو بكر بأمر المسلمين ضاع أهله ، فاحتاج أن يأكل هو وأهله من بيت المال ; لاستغراقه وقته في أمورهم واشتغاله عن تعيش أهله .

وقوله : (واحترف للمسلمين فيه) أي : اتجر لهم في مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما أكل أو أكثر ، وليس بواجب على الإمام أن يتجر في مال المسلمين بقدر مؤنته إلا أن يتطوع بذلك كما تطوع الصديق ; لأن مؤنته مفروضة في بيت المال بكتاب الله تعالى ; لأنه رأس العاملين عليها .

وفي "الطبقات" عن حميد بن هلال : لما ولي أبو بكر قال الصحابة : افرضوا للخليفة ما يعينه ، قالوا : نعم برداه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ [ ص: 127 ] بدلهما ، وظهره إذا سافر ، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف ، فقال أبو بكر : رضيت .

وعن ميمون قال : لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين ، قال : زيدوني فإن لي عيالا ، فزادوه خمسمائة ، قال : إما أن تكون ألفين فزادوه خمسمائة ، أو كانت ألفين وخمسمائة ، فزادوه خمسمائة .

وقال ابن التين : يقال : إن أبا بكر ، أرزق في كل يوم شاة ، وكان شأن الخليفة أن يطعم من حضره قصعتين كل يوم غدوة وعشاء . ولما حضرت أبا بكر الوفاة حسب ما أنفق من بيت المال فوجده سبعة آلاف درهم ، فأمر بماله غير الرباع فأدخل في بيت المال ، فكان أكثر مما أنفق ، فربح المسلمون عليه وما ربحوا على غيره .

وقوله : (تعجز) أي : تقصر .

(وشغلت بأمر المسلمين) أي : عن حرفته . وآله : أهل بيته . وهو دليل واضح على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر عمالته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة .

و (الأرواح) في حديث عائشة جمع ، وأصل ريح : روح ، فلما سكنت الواو وانكسر ما قبلها قلبت ياء .

وفيه : ما كان عليه الصحابة من التواضع واستعمال أنفسهم في أمور دنياهم .

و (أحبله) قال ابن التين : كذا سمعناه ، وفي بعضها حبله .

وقوله : (لو اغتسلتم) يبين ما روى أبو سعيد الخدري مرفوعا :

[ ص: 128 ] "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" أنه ليس بواجب فرضا ، وأن المراد بذلك الندب إلى النظافة ، وتأكيد الغسل عليهم لفضل الجمعة ومن يشهدها من الملائكة والمؤمنين ، وقد تقدم ما للعلماء فيه في كتاب : الجمعة فراجعه .

وفي حديث المقدام : أن أفضل الكسب عمل اليد ، ألا ترى أن نبي الله داود - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من عمل يده ، وعليه ترجم البخاري . وقال أبو الزاهرية : كان داود يعمل القفاف ويأكل منها . قلت : عمله الحديد -أي : الدروع- بنص القرآن ، فالأكل مما عملته الأيدي أفضل مآكل التجر ، وكان سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل من سعيه الذي بعثه الله عليه في القتال ، وكان يعمل طعامه بيده ليأكل من عمل يده ، قيل لعائشة : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل في أهله ، قالت : كان في مهنة أهله فإذا أقيمت الصلاة خرج إليها .

قال الماوردي : أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة ، وأيها أطيب ؟ فيه ثلاثة مذاهب للناس ، وأشبهها بمذهب الشافعي : أن التجارة أطيب ، والأشبه عندي : أن الزراعة أطيب لأنها أقرب إلى التوكل .

قال النووي : وحديث البخاري صريح في ترجيح الزراعة والصنعة لكونها عمل يده ، لكن الزراعة أفضلهما ; لعموم النفع بها للآدمي وغيره ، وعموم الحاجة إليها . وظاهر تبويب البخاري ترجيحا لصناعة .

[ ص: 129 ] وقوله : " (لأن يحتطب أحدكم") إلى آخره ، يدل على فضل الكفاف وكراهية السؤال .

قال ابن المنذر : وإنما فضل عمل اليد على سائر المكاسب إذا نصح العامل بيده ، جاء ذلك مبينا في حديث رواه المقبري عن أبي هريرة مرفوعا : "خير الكسب يد العامل إذا نصح" وكان زكريا نجارا و"ما من نبي إلا ورعى الغنم" . وذكر معمر عن سلمان أنه كان يعمل الخوص ، فقيل له : أتعمل هذا وأنت أمير المدائن يجري عليك رزق . قال : إني أحب أن آكل من عمل يدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية