التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1973 [ ص: 138 ] 19 - باب: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا .

ويذكر عن العداء بن خالد قال كتب لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هذا ما اشترى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العداء بن خالد ، بيع المسلم المسلم ، لا داء ، ولا خبثة ، ولا غائلة" . وقال قتادة : الغائلة الزنا والسرقة والإباق . وقيل لإبراهيم : إن بعض النخاسين يسمي آري : خراسان وسجستان ، فيقول : جاء أمس من خراسان ، جاء اليوم من سجستان . فكرهه كراهية شديدة . وقال عقبة بن عامر : لا يحل لامرئ يبيع سلعة ، يعلم أن بها داء ، إلا أخبره .

2079 - حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن عبد الله بن الحارث رفعه إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال : حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" . [2082 ، 2108 ، 2110 ، 2114 - مسلم: 1532 - فتح: 4 \ 309]


ثم ذكر حديث عبد الله بن الحارث رفعه إلى حكيم بن حزام قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال : حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" .

[ ص: 139 ] الشرح :

حديث العداء بن خالد بن هوذة العامري -وقد أسلم هو وأبوه وعمه - رواه الترمذي . وابن ماجه عن ابن بشار ، عن عباد بن ليث -صاحب الكرابيسي- عن عبد المجيد بن وهب قال : قال لي العداء بن خالد : ألا أريك كتابا كتبه لي النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قلت : بلى . فأخرج لي كتابا : "هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم" . ثم قال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن ليث ، وقال الدارقطني : لم يروه غيره . قلت : لا ، فقد أخرجه أبو عمر من حديث عثمان الشحام عن أبي رجاء العطاردي قال : قال لي العداء :

[ ص: 140 ] ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فإذا فيه مكتوب : "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اشترى منه عبدا أو أمة -شك عثمان- بياعة المسلم -أو بيع المسلم- المسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة"
.

وهذا أشبه من لفظ البخاري : "اشترى محمد" لأن العهدة إنما تكتب للمشتري لا للبائع . وكذلك رواه جماعة كرواية الترمذي ، وهو الصحيح ، وادعى ابن التين إرسال الحديث فقال : هذا الحديث مرسل . وهو عجيب ، وكأنه أراد أنه ذكره معلقا بغير إسناد ، وقد أسندناه واتصل ولله الحمد .

[ ص: 141 ] وقوله : ("بيع المسلم المسلم") أي لا خديعة فيه ; لأنه شأن المسلم . والداء : العيب كله .

قال ابن قتيبة : أي لا داء لك في العبد من الأدواء التي يرد بها كالجنون والجذام والبرص والسل والأوجاع المتفاوتة .

وقوله : ("ولا غائلة") هو من قولهم : اغتالني فلان إذا احتال عليك بحيلة يتلف بها بعض مالك ، يقال : غالت فلانا غولا إذا أتلفته . والمعنى : لا حيلة عليك في هذا البيع يغتال بها مالك . وقد نقل البخاري قول قتادة في الغائلة كما سلف وقال الخطابي : الغيلة : ما يغتال حقك من حيلة أو تدليس بعيب ، وهو معنى قول قتادة ، أي : لا يخفي شيئا من ذلك وليبينه . وذكر الأزهري وغيره أيضا : أن الغائلة هنا معناها : لا حيلة على المشتري في هذا البيع يغال بها ماله . ولما سأل الأصمعي سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة أجاب كجواب قتادة سواء ، ولما سأله عن الخبثة قال : بيع عهدة المسلمين . وقال الخطابي : خبثة على وزن خيرة قيل : أراد بها الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب . قال تعالى : ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف : 157] والخبثة : نوع من أنواع الخبيث أراد به عبد رقيق لا أنه من قوم لا يحل سبيهم .

وقال ابن بطال : الخبثة : يريد الأخلاق الخبيثة كالإباق (والسرقة) ، والعرب أيضا يدعون الزنا خبثا وخبثة . وقال صاحب [ ص: 142 ] " العين" : الخبثة : الريبة .

قال ابن التين : وهو مضبوط في أكثر الكتب بضم الخاء ، وكذا سمعناه ، وضبط في بعضها بالكسر أيضا ، والخبثة أن يكون غير طيب ; لأنه من قوم لا يحل سبيهم لعهد تقدم لهم أو جزية ، في الأصل وخبث لهم . وقال الداودي : الخبثة : أن يخفي عنه شيئا .

وفي حديث العداء هذا ثماني فوائد أبداها ابن العربي :

الأولى : البداءة باسم الناقص قبل الكامل في الشروط ، والأدنى قبل الأعلى بمعنى : هو الذي اشترى ، فلما كان هو الذي طلب أخبر عن الحقيقة كما وقعت ، وكتب حتى يوافق المكتوب ويذكر على وجهه في (المثول) .

قلت : رواية البخاري السالفة عكس هذا ، وهو تقديم الأعلى على الأدنى .

ثانيها : في كتبه - صلى الله عليه وسلم - ذلك له وهو ممن يؤمن عهده ولا يجوز عليه أبدا نقضه لتعليم الأمة ; لأنه إذا كان هو يفعله فكيف غيره . قلت : هذا لا يتأتى على رواية البخاري .

ثالثها : أنه على الاستحباب ; لأنه باع وابتاع من اليهود من غير إشهاد ولو كان أمرا مفروضا أقام به قبل الخلق .

[ ص: 143 ] قلت : ذهب جماعة إلى اشتراطه ; ولأن الآية محكمة وابتياعه من اليهودي كان مرهنا ، وقد قال تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [البقرة : 283] .

رابعها : يكتب الرجل اسمه واسم أبيه وجده حتى ينتهي إلى جد يقع به التعريف ويرتفع الاشتراك الموجب للإشكال عند الاحتياج إليه ، وما ذكره إنما يتأتى إذا كان الرجل غير معروف ، أما إذا كان معروفا فلا يحتاج إلى ذكر أبيه ، فإن لم يكن معروفا وكان أبوه معروفا لم يحتج إلى ذكر الجد ، كما جاء في البخاري من غير ذكر جد العداء .

خامسها ; لا يحتاج إلى ذكر النسب إلا إذا أفادت تعريفا أو دفع إشكال .

سادسها : قوله : "هذا ما اشترى العداء بن خالد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه" كرر لفظ الشرى وقد كان الأول كافيا ، ولكنه لما كانت الإشارة بهذا إلى المكتوب ، ذكر الاشتراء في القول (المقول) .

سابعها : قوله : (عبد) ولم يصفه ، ولا ذكر الثمن ، ولا قبضه ، ولا قبض المشتري .

واقتصر على قوله : ("لا داء") وهو ما كان في الجسد والخلقة ، ("ولا خبثة") : وهو ما كان في الخلق . ("ولا غائلة") وهو سكوت البائع على ما يعلم من مكروه البيع وهو الذي قصد الشارع إلى كتبه ليبين كيف يجب على المسلم في بيعه . فأما تلك الزيادات فإنما أحدثها الشروطيون لما حدث من الخيانة في العالم .

[ ص: 144 ] ثامنها : قوله : ("بيع المسلم المسلم") ليبين أن الشراء والبيع واحد . قال : وقد فرق بينهما أبو حنيفة وجعل لكل واحد حكما . وقال غيره : فيه تولي الرجل البيع بنفسه ، وكذا في حديث اليهودي . وذكر بعضهم لئلا يسامح ذو المنزلة فيكون نقصا من أجره ، وجاز ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعصمته لنفسه .

وقوله -أعني البخاري- : وقيل لإبراهيم : إن بعض النخاسين يسمي آري خراسان وسجستان ، فيقول : جاء أمس من خراسان وجاء اليوم من سجستان ، فكرهه كراهة شديدة . أي : كان بعض النخاسين يسمي آري يريد : يسمي موضع الدابة في داره ومربطها خراسان وسجستان ، يريد بذلك الخديعة والغرر بالمشتري منه ، وهذا الأثر رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن هشيم ، عن مغيرة ، عنه بلفظ : قيل له : إن ناسا من النخاسين وأصحاب الدواب يسمي أحدهم اصطبل دوابه خراسان وسجستان ، ثم يأتي السوق ، فيقول : جاءت من ذلك ، فكره ذلك إبراهيم ، ورواه دعلج عن محمد بن علي بن زيد ، ثنا سعيد بن قيس ، ثنا هشيم ولفظه : إن بعض النخاسين يسمي آريه خراسان وسجستان ، إلى آخره .

واختلف أهل اللغة في تفسير الآري كما قال ابن بطال ، وضبطها خطأ بضم الهمزة : فقال ابن الأنباري : هو عند العرب الآخية التي تحبس بها الدابة وتلزم بها موضعا واحدا ، وهو مأخوذ من قولهم : قد تأرى الرجل بالمكان إذا أقام به .

[ ص: 145 ] قال الأعشى :

لا يتأرى لما في القدر يرقبه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والعامة تخطئ في الآري فتظن أنها المعلف . هذا آخر كلام ابن الأنباري ، وجعله أيضا ابن السكيت من لحن العامة ، وقال صاحب "العين" : الآري : المعلف ، وأرت الدابة إلى معلفها تأري إذا ألفته .

وقال ابن التين : ضبط في بعض الكتب بفتح الهمزة وسكون الراء ، وفي بعضها بضم الهمزة وفتح الراء ، وفي رواية أخرى : قرى خراسان وسجستان ، وضبط في بعض الكتب بالمد وكسر الراء وتشديد الياء .

قال ابن فارس : آري الدابة : المكان الذي تتأرى فيه أي : تتمكث به ، وتقديره آري . وكذا قال أهل اللغة : إنها الخية التي تعمل في الأرض للدابة ، وقال صاحب "المطالع " : آرى كذا قيده جل الرواة ، ووقع للمروزي : أرى بفتح الهمزة والراء ، على مثال دعا ، وليس بشيء . ووقع لأبي ذر بضم الهمزة ، وهو أيضا تصحيف ، وهو في التقدير فاعول ، وهو مربط الدابة ، ويقال : معلفها ، قاله الخليل .

وقال الأصمعي : هو الخية في الأرض ، وأصله من الحبس والإقامة ، وعند التاريخي عن الشعبي وغيره : أمر سعد بن أبي وقاص أبا الهياج الأسدي والسائب بن الأقرع أن يقسما للناس -يعني : الكوفة- فاختطوا من رواء السهام ، وكان المسلمون يعقلون إبلهم ودوابهم في ذلك الموضع حول المسجد فسموه : الآري ، ومعنى ما أراد البخاري :

[ ص: 146 ] أن النخاسين كانوا يسمون مرابط دوابهم بهذه الأسماء ليدلسوا على المشتري فيحرص المشتري عليها ، ويظن أنها طرية الجلب ، وأرى أنه نقص في الأصل بعد لفظة : آري لفظة : دوابهم .

وما ذكره البخاري عن عقبة موقوفا ، رفعه الأئمة : أحمد ، وابن ماجه والحاكم من حديث ابن شماسة عنه مرفوعا : "المسلم أخو المسلم ، لا يحل لامرئ مسلم أن يغيب ما بسلعته عن أخيه ، إن علم بذلك تركها" هذا لفظ أحمد ، ولفظ ابن ماجه : "المسلم أخو المسلم ، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه" ، ولفظ الحاكم : "المسلم أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعا فيه عيب أن لا يبينه له" ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين . وأقره البيهقي في "خلافياته" على تصحيحه .

وفي "مسند الإمام أحمد" -وحده- ابن لهيعة ، وحالته معلومة .

وابن شماسة : هو عبد الرحمن ، وقد انفرد عنه بالإخراج مسلم ووثق .

[ ص: 147 ] وفي سند الحاكم محمد بن سنان القزاز . قال الدارقطني : لا بأس به .

وضعفه غيره جدا ، وقد تابعه ابن بشار الإمام كما هو عند ابن ماجه ، وأما ابن جرير الطبري فقال : في إسناده نظر . ولابن ماجه من حديث مكحول وسليمان بن موسى عن واثلة مرفوعا : "من باع (عيبا) لم يبينه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه" .

وروى مكحول عن أبي أمامة مرفوعا : "أيما مسلم استرسل إلى مسلم فغبنه كان غبنه ذاك ربا" ، رواه قاضي سمرقند محمد بن أسلم في كتاب "الربا" عن علي بن إسحاق : أنا موسى بن عمير ، عن مكحول به .

[ ص: 148 ] وحديث الباب يأتي قريبا في باب : كم يجوز الخيار ، وأقرب منه باب : ما يمحق الكذب والكتمان في البيع .

وأصل الباب : أن نصيحة المسلم للمسلم واجبة ، وقد كان سيد الأمة يأخذها في البيعة على الناس كما يأخذ عليهم الفرائض .

[ ص: 149 ] قال جرير : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة ، فشرط علي :

"والنصح لكل مسلم"
كما سلف آخر الإيمان ، فكان إذا بايع أحدا يقول : " الذي أخذنا منك أحب إلينا من الذي أعطيناك" لأجل هذه المبايعة .

وأمر أمير المؤمنين بالتحابب والمؤاخاة في الله . وصح كما سلف أنه : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ; فحرم بهذا كله غش المؤمن وخديعته ، دليله حديث عقبة السالف وغيره ، فكتمان العيب في السلع حرام ، ومن فعل هذا فهو متوعد بمحق بركة بيعه في الدنيا والعقاب الأليم في الآخرة .

وعندنا : أن الأجنبي إذا علم بالعيب -أيضا- يجب عليه بيانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية