التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1980 [ ص: 162 ] 25 - باب: موكل الربا

لقوله -عز وجل- : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إلى قوله : وهم لا يظلمون [البقرة : 278 - 281] قال ابن عباس : هذه آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ . [4544]

2086 - حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن عون بن أبي جحيفة قال : رأيت أبي اشترى عبدا حجاما ، فسألته فقال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ، وثمن الدم ، ونهى عن الواشمة والموشومة ، وآكل الربا ، وموكله ، ولعن المصور . [2238 ، 5347 ، 5945 ، 5962 - فتح: 4 \ 314]


ثم ساق من حديث عون بن أبي جحيفة قال : رأيت أبي اشترى عبدا حجاما ، فسألته ، فقال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ، وثمن الدم ، ونهى عن الواشمة والموشومة ، وآكل الربا وموكله ، ولعن المصور .

الشرح : أما الآية : فنزلت في بقية من الربا في حق جماعة من الصحابة ، والآية مدنية ، ويدل على تاريخها حديث عائشة السالف في الباب قبله ، وحرمت الخمر في شهر ربيع الأول سنة أربع .

إن كنتم مؤمنين على ظاهره ، أو من كان ، فهذا حكمه ، فأذنوا أي : أيقنوا ، أو : فأعلموا غيركم أنكم على حربهم ، لا تظلمون : لا تأخذون زيادة على رأس المال ولا تظلمون بنقص رأس المال وإن كان ذو عسرة : في مصحف عثمان : ذا عسرة :

[ ص: 163 ] نزلت في الربا وأعم ، فنظرة : أي : تأخير ، فينظر في دين الربا ، أو مطلقا ، أو الإنظار ، في دين الربا نصا ، وفي غيره قياسا ، ميسرة : يسار ، وقيل : الموت ، وأن تصدقوا على المعسر بالإبراء خير من الإنظار إلى الله إلى جزائه أو ملكه ، ما كسبت من الأعمال أو الثواب والعقاب ، لا يظلمون بنقص ما يستحقونه من الثواب ، ولا بزيادة على ما يستحق به من العقاب . وما ذكره البخاري عن ابن عباس أسنده في تفسيره من طريق الشعبي عنه .

وقال ابن جريج : مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها سبع ليال .

وقال ابن عباس : أحدا وثمانين يوما .

واعترض الداودي فقال : إما أن يكون وهم من بعض الرواة أو اختلافا من القول ، وقد قيل : إن آخر آية نزلت : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة : 281] والوهم ; لقربها منها ، وقيل : آخر آية نزلت : لقد جاءكم رسول [التوبة : 128] من آخر سورة براءة ، وفي البخاري بعد هذا ; آخر سورة نزلت براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة النساء : يستفتونك الآية [النساء : 176] .

[ ص: 164 ] وقال أبي بن كعب : آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من أنفسكم [التوبة : 128] . وقيل : إن قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة : 281] أنها نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع .

وحديث أبي جحيفة من أفراده ، وذكره في باب : ثمن الكلب وغيره ، وفي بعض طرقه زيادة : (كسب الأمة) وفي أخرى : (وكسب البغي) ، وتفرد منه بلعن المصور أيضا .

[ ص: 165 ] وإذا تقرر ذلك :

فقد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين موكل الربا وآكله في النهي : تعظيما لإثمه ، سوى بين الراشي والمرتشي في الإثم .

[ ص: 166 ] وموكل الربا : هو معطيه ، وآكله : الذي يأخذه . وأمر الله تعالى عباده بتركه والتوبة منه بقوله : اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [البقرة : 278] ، وتوعد تعالى من لم يتب منه بمحاربة الله ورسوله ، وليس في جميع المعاصي ما عقوبتها محاربة الله ورسوله غير الربا ، فحق [ ص: 167 ] على كل مؤمن أن يجتنبه ولا يتعرض لما لا طاقة له به من المحاربة المذكورة ، ألا ترى فهم عائشة هذا المعنى حين قالت للمرأة التي قالت لها : بعت من زيد بن أرقم جارية إلى العطاء بثمانمائة درهم ، ثم ابتعتها بستمائة درهم . فقالت لها عائشة : بئس ما شريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب . ولم تقل [ ص: 168 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ ص: 169 ] لها : إنه أبطل صلاته ولا صيامه ولا حجه ، فمعنى ذلك -والله أعلم- أن من جاهد في سبيل الله فقد حارب محاربة الله ، ومن أربا فقد أبطل حربه عن الله ، فكانت عقوبته من جنس (ذنبه) .

[ ص: 170 ] وهذه الأشياء المنهي عنها في الحديث مختلفة الأحكام ، فمنها ما هو على سبيل التنزه ككسب الحجام ، ومنها ما هو على سبيل التحريم كثمن الكلب عندنا ، وكره عند المالكية للضعة والسقوط في حقه ، ومنها حرام بين كالربا . وأما اشتراء أبي جحيفة الحجام ، ثم قال : (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم (بمحجمه) . وتخلص من إعطاء الحجام أجرة حجامته ; خشية أن يواقع نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم على ما تأوله في الحديث ، وقد جاء هذا مبينا في باب ثمن الكلب بعد هذا ، قال عون بن أبي جحيفة : رأيت أبي اشترى (عبدا) حجاما ، فأمر بمحاجمه فكسرت ، فسألت عن ذلك ، فقال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم . وإنما فعل ذلك على سبيل التورع والتنزه ، وسيأتي القول في كسب الحجام بعد هذا .

وقد اختلف العلماء في بيع الكلب ، فقال الشافعي : لا يجوز بيعها ، كلها سواء كان كلب صيد أو حرث أو ماشية أو غير ذلك ، ولا قيمة فيها ، وهو قول أحمد وحماد والحسن .

واختلفت الرواية عن مالك في بيعه ، فقال في "الموطأ" : أكره بيع الكلب الضاري وغيره ; لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب .

[ ص: 171 ] وروى نافع عن مالك أنه كان يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدين والمغانم ، وكان يكره بيعه الرجل ابتداء ، وقال نافع : وإنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن العقور .

وقال ابن القاسم : لا بأس بشراء كلاب الصيد ، ولا يعجبني بيعها .

وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية .

قال سحنون : ويحج بثمنها . وهو قول الكوفيين . وقال مالك : إن قتل كلب الدار فلا شيء فيه ، إلا أن يسرح مع الماشية .

وفي "مختصر ابن الحاجب" : وفي كلب الصيد قولان . وقال أبو عبد الملك : يجوز في القسم والمواريث دون غيرها . وعن أبي حنيفة : من قتل كلبا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته ، وكذلك السباع كلها . وقال الأوزاعي : الكلب لا يباع في مقاسم المسلمين ، هو لمن أخذه .

حجة الشافعي حديث الباب ، فإن النهي فيه عام .

حجة المخالف أن الله تعالى لما أباح لنا الذي علمناه أفاد لنا ذلك إباحة التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك ، وما قالوه هو عين النزاع .

قالوا" : وما في الآية بمعنى : الذي ، التقدير : الذي أحل لكم من الطيبات والذي علمتم من الجوارح مكلبين ، وهذا قول جماعة من السلف . وروي عن جابر : أنه جعل القيمة في كلاب الصيد ، وعن عطاء مثله ، وقال : لا بأس بثمن الكلب السلوقي . وعن النخعي مثله .

[ ص: 172 ] وقال أشهب : في قتل المعلم القيمة . وأوجب ابن عمر فيه أربعين درهما ، وفي كلب ماشية شاة ، وفي كلب الزرع فرقا من طعام ، وفي كلب الدار فرقا من تراب - أي : تراب المعدن دون الرماد .

ويقضى على صاحب الكلب بأخذه كما يقضى على الآخر بدفعه ، وأجاز عثمان الكلب الضاري في المهر ، وجعل فيه عشرين من الإبل على من قتله .

وقد أذن في اتخاذ كلب الصيد والماشية . وكان النهي منصبا إلى غير المنتفع به ، أو كان النهي فيه ، وكسب الحجام كان في بدء الإسلام ، ثم نسخ ذلك وأبيح الاصطياد به ، وكان كسائر الجوارح في جواز بيعه ; ولذلك لما أعطى الحجام أجرة كان ناسخا لما تقدمه . وذكر الطحاوي من حديث أبي رافع : أنه - عليه السلام - لما أمر بقتل الكلاب أتاه أناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح [المائدة : 4] ، فلما أبيح الانتفاع بها حل بيعها وأكل ثمنها ، لكن جاء في "سنن أبي داود" : (فإن جاء يطلب ثمنه فاملأ كفه ترابا) ، وهو دال على عدم صحة بيعه .

[ ص: 173 ] فصل :

وأما النهي عن ثمن الدم فهو على التنزيه على المشهور ، وبه قال الأكثرون ، وهو مشهور مذهب أحمد ، فإنه - عليه السلام - أعطاه أجرة ، ولو كان حراما لم يعطه ، وقال لمحيصة : "اعلفه ناضحك ، وأطعمه رقيقك" .

ونقل ابن التين عن كثير من العلماء أنه جائز من غير كراهة ، كالبناء ، والخياطة ، وسائر الصناعات ، والنهي عن ثمن الدم السائل الذي حرم الله تعالى . وقال أبو جحيفة : أجرة الحجام من ذلك . وهو قول أبي هريرة والنخعي ; لأنه قرنه بمهر البغي ، وهو حرام ، فكذا هو . قالوا : ولأن عمله غير معلوم ، وكذا مدة عمله ، فالإجارة فاسدة . وقال آخرون : إنه [ ص: 174 ] يأخذها على أخذ الشعر ، وهو قول عطاء : إذا رأى الشعر قبله . وقال الآخرون : يجوز للمحتجم إعطاؤها ، ولا يجوز للحجام أخذها . ورواه ابن جرير عن أبي قلابة . فإن الشارع أعطاها مع أنه قال : " إن كسبه خبيث" وفي رواية : "سحت" ، وبه قال ابن جرير إلا أنه قال : يعلفها ناضحه ومواشيه ولا يأكله ، فإن أكله كان حراما . وعن أحمد وبه قال فقهاء المحدثين : يحرم على الحر دون العبد ; لحديث : "اعلفه ناضحك ورقيقك" رواه حرام بن محيصة ، عن أبيه مرفوعا .

[ ص: 175 ] قالوا : ولا يجوز للحر أن يحترف بالحجامة ، وإن كان غلامه حجاما لم ينفق على نفسه من كسبه ، وإنما ينفقه على العبيد وعلى بهائمه . والقصد بالحجام : الذي يحجم ليس الذي يزين الناس .

وذكر ابن الجوزي : أن أجرة الحجام إنما كرهت ; لأنه مما يعين به المسلم أخاه إذا احتاج إليه ، فلا ينبغي له أن يأخذ من أخيه على ذلك أجرا .

وروى ابن حبيب : أن قريشا كانت تتكرم في الجاهلية عن كسب الحجام ; فلذلك جاء فيه النهي على وجه التكرم والأنفة عن دقائق الأمور . وروى ربيعة أنه قال : كان للحجامين سوق على عهد عمر ، ولولا أن يأنف رجال لأخبرتك عن آبائهم أنهم كانوا حجامين .

وقال يحيى بن سعيد : لم يزل المسلمون مقرين بأجر الحجامة ولا ينكرونها .

وحاصل الخلاف : كراهة التنزيه ، التحريم مطلقا ، الفرق بين الحر والعبد ، يجوز الإعطاء دون الأخذ . قول ابن جرير .

فصل :

قوله : (ونهى عن الواشمة والموشومة) ; أي : عن فعل الواشمة .

والوشم : أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ، ثم يحشى بالكحل و (النئور) فيخضر ، وقال الداودي : فيسود موضعه إذا حشي بالإثمد ، وهو من عمل الجاهلية ، وفيه تغيير لخلق الله .

[ ص: 176 ] والموشومة : التي يفعل ذلك بها ، وفي حديث آخر : "الموتشمة" ، وفي آخر : "المستوشمة" . وفسر العتبي في حديث آخر "لعن الواشمة" : أي : التي تنتحل .

فصل :

وقوله : (وآكل الربا) : قال الداودي : هو الذي يأكله ، كان هو المربي أو غيره . وقال القزاز : هو الذي يعمل به ويأكل منه ، وموكله : الذي يزيد في المال ; لأنه هو الذي جعل له ذلك وأطعمه إياه . وقال الداودي موكله : الذي يطعمه غيره ، وهذا من قوله تعالى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة : 2] . قال الخطابي : وإنما سوى في الإثم بين آكله وموكله وإن كان أحدهما هو الرابح مغتبطا والآخر منهضما ; لأنهما في الفعل شريكان ، ولله حدود لا تتجاوز في حال العدم والوجد .

فصل :

قوله : (ولعن المصور) : ظاهره العموم ، وخفف منه ما لا روح فيه كالشجر . وجاء أنه يقال لهم يوم القيامة : "أحيوا ما خلقتم" . وسيأتي باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك ، والنهي عن كسب الإماء ; لأنه رذيلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية