التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1985 [ ص: 191 ] 29 - باب: ذكر القين والحداد

2091 - حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن خباب قال : كنت قينا في الجاهلية ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه . قال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . فقلت : لا أكفر حتى يميتك الله ، ثم تبعث . قال : دعني حتى أموت وأبعث ، فسأوتى مالا وولدا فأقضيك . فنزلت : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا . [مريم : 77 - 78]


القين : هو الحداد ، ثم استعمل في الصانع ، قال ابن سيده : القين : الحداد . وقيل : كل صانع قين .

قلت : والقين أيضا العبد ، والقينة : المغنية والأمة والماشطة أيضا ، والتقين : التزين بأنواع الزينة ، والجمع أقيان وقيون .

وقد قان الحداد قينا ضربها بالمطرقة . وقان الشيء يقين قيانة : أصلحه .

وقالت أم أيمن : أنا قينت عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي : زينتها .

[ ص: 192 ] والقين : هو الذي يصلح الأبنية أيضا .

ذكر فيه حديث خباب قال : كنت قينا في الجاهلية ، وكان لي على العاصي بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه . قال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد قلت : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ، ثم تبعث . قال : دعني حتى أموت وأبعث ، فسأوتى مالا وولدا فأقضيك .

فنزلت : أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية [مريم : 77] .

هذا الحديث أخرجه البخاري في موضع آخر قريبا ، في باب : هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في دار الحرب بلفظ : (وإني لمبعوث بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال) . وقال في التفسير إثره : قال ابن عباس : هدا [مريم : 90] أي : هدما . وقد أسنده ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن أبيه ، ثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن طلحة ، عنه .

قال مقاتل : صاغ خباب شيئا من الحلي فلما طلب منه الأجر قال : ألستم تزعمون أن في الجنة الحرير والذهب والفضة والولدان ؟ قال خباب : نعم . قال العاصي : فميعاد ما بيننا الجنة .

وقال الكلبي ومقاتل فيما ذكره الواحدي : كان خباب قينا وكان العاصي يؤخر حقه فأتاه يتقاضاه ، فقال : ما عندي اليوم ما أقضيك . فقال خباب : لست بمفارقك حتى تقضيني . فقال العاصي : يا خباب [ ص: 193 ] ما لك! ما كنت هكذا ، وإن كنت لحسن الطلب . قال : كنت إذ ذاك على دينك وأما اليوم فإني على الإسلام . قال : أفلستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ؟ قال : بلى . قال : فأخرني حتى أقضيك في الجنة -استهزاء- فوالله إن كان ما تقول حقا إني لأفضل فيها نصيبا منك . فأنزل الله الآية .

وهذا الباب كالباب قبله أن الحداد لا تضره مهنته في صناعته إذا كان عدلا .

قال أبو العتاهية :

ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم     وليس على حر تقي نقيصة
إذا أسس التقوى وإن حاك أو حجم

وفيه : أن الكلمة من الاستهزاء قد يتكلم بها المرء فيكتب الله لربها سخطه إلى يوم القيامة . ألا ترى وعيد الله على استهزائه بقوله سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا [مريم : 79 ، 80] يعني من المال والولد بعد إهلاكنا إياه . ويأتينا فردا أي : نبعثه وحده تكذيبا لظنه .

وكان العاصي بن وائل لا يؤمن بالبعث فلذلك قال له خباب : (والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث) . ولم يرد خباب أنه إذا بعثه الله بعد الموت أن يكفر بمحمد لأنه حينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [الحجر : 2] ، ويتمنى العاصي بن وائل وغيره أن لو كان ترابا ولم يكن كافرا وبعد البعث يستوي يقين المكذب به مع يقين المؤمن [ ص: 194 ] ويرتفع الكفر وتزول الشكوك وكان غرض خباب من قوله إياس العاصي من كفره ، وذكر ابن الكلبي عن جماعة في الجاهلية أنهم كانوا زنادقة منهم العاصي بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، والوليد بن المغيرة ، وأبي بن خلف .

وفيه : جواز الإغلاظ في اقتضاء الدين لمن خالف الحق وظهر منه الظلم والتعدي . فإن قلت : من عين الكفر آجلا فهو كافر الآن إجماعا ، فكيف يصدر هذا عن خباب ودينه أصح وعقيدته أثبت وإيمانه أقوى وآكد من هذا كله . قلت : لم يرد خباب هذا وإنما أراد لا تعطني حتى تموت ثم تبعث أو إنك لا تعطيني ذلك في الدنيا فهنالك يؤخذ قسرا منك .

وقال أبو الفرج : لما كان اعتقاد هذا المخاطب أنه لا يبعث خاطبه على اعتقاده فكأنه قال : لا أكفر أبدا . وقيل : أراد خباب أنه إذا بعث لا يبقى كفر ; لأن الدار دار الآخرة . وقرئ : (وولدا) بضم الواو ذكره الفراء ، ونصبها عاصم ، وثقل في كل القرآن ، وقرأ مجاهد : ماله وولده إلا خسارا ، ونصب سائر القرآن . والولد والولد لغتان ، وقيس تجعل الولد جمعا والولد واحدا .

[ ص: 195 ] وقال الفارابي : الولد لغة في الولد ويكون واحدا وجمعا ، وذكره أيضا بكسر الواو وفتح الواو . وقال ابن سيده : الولد والولد ما ولد أيا ما كان وهو يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى ، ويجوز أن يكون الولد جمع ولد كوثن ووثن . والولد كالولد وليس بجمع . والولد أيضا : الرهط .

التالي السابق


الخدمات العلمية