التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2011 [ ص: 268 ] 48 - باب: ما يكره من الخداع في البيع

2117 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رجلا ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع ، فقال : " إذا بايعت فقل : لا خلابة" . [2407 ، 2414 ، 6946 - مسلم: 1533 - فتح: 4 \ 337]


ذكر فيه حديث ابن عمر : أن رجلا ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع ، فقال : "إذا بايعت فقل : لا خلابة" .

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا ، فكان إذا بايع يقول : لا خلابة .

وهذا الرجل هو حبان بن منقذ ، بفتح الحاء المهملة ثم باء موحدة مفتوحة ، شهد أحدا وأصابته آفة في رأسه ، وولد ولده محمد بن يحيى بن حبان ، روى له الجماعة ، وعمه واسع بن حبان أخرجوا له أيضا ، وروى مسلم وأبو داود والترمذي لابنه حبان . وقيل : إن هذه القصة لمنقذ بن عمرو ، قال ابن بطال : وهو أصح . وعاش منقذ مائة وثلاثين سنة كما سيأتي .

وفي "الاستيعاب" أنه منقذ ، وذلك محفوظ من حديث ابن عمر وغيره . والحاكم ذكره من حديث ابن عمر في ولده حبان ، ثم قال :

[ ص: 269 ] متصل الإسناد .

وللدارقطني من حديث ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رجلا من الأنصار كان بلسانه لوثة ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "إذا بايعت فقل : لا خلابة مرتين" .

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال : هو جدي منقذ بن عمرو ، وكان رجلا قد أصابته آفة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله ، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن .

وفيه ، وكان عمر عمرا طويلا ، عاش ثلاثين ومائة سنة ، وكان في زمن عثمان حين فشا الناس . وفي لفظ عن ابن عمر : كان حبان رجلا ضعيفا ، وكان قد سفع في رأسه مأمومة ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له الخيار فيما يشتري ثلاثا ، وكان قد ثقل لسانه ، فكنت أسمعه يقول : لا خذابة لا خذابة . قال الدارقطني : وكان ضرير البصر .

وفي الطبراني لما عمي قال له - عليه السلام - ذلك . ولابن حزم من حديث ابن إسحاق : أن منقذا سفع في رأسه مأمومة في الجاهلية فحلت لسانه .

وفيه : "وأنت بالخيار ثلاثا" .

[ ص: 270 ] وقال الجياني : شج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الحصون بحجر . قال صاحب "المطالع" : وكان ألثغ لا يعطيه لسانه إخراج اللام ، وكان ينطق به ياء أو ذالا معجمة ، وصحف من قال : لا خيانة .

و (الخلابة) : المخادعة ، فلا خلابة ، أي : لا خديعة ، ولا غش ، ولا كيد ، ولا غبن ونحو ذلك . قال المهلب : أي : لا تخلبوني فإنه لا يحل ، فإن اطلعت على عيب رجعت به .

واختلف الفقهاء فيمن باع بيعا غبن فيه غبنا لا يتغابن الناس بمثله ، فقال مالك : إن كانا عارفين بتلك السلعة وبأسعارها في وقت البيع لم يفسخ ولو كثر الغبن ، وإن كانا أو أحدهما غير عارف بتقلب السعر وتغيره وتفاوت الغبن فسخ البيع ، إلا أن يريد أن يمضيه . ومن أصحاب مالك من اعتبر مقدار ثلث السلعة ، ولم يجد مالك في ذلك حدا . ومذهبه إذا خرج عن تغابن الناس في مثل تلك السلعة أنه يفسخ . وبهذا قال أبو ثور . وقال أبو حنيفة والشافعي : ليس له أن يفسخ في الغبن وإن كثر ، وبه قال ابن القاسم : وحجتهم هذا الحديث ; لأن من يخدع في عقله بضعف يلحقه الغبن في عقوده ، فجعل له الشارع الخيار لما يلحقه من ذلك ، فلو كان الغبن شيئا يملك به فسخ العقد لما احتاج إلى شرط خيار مع استغنائه عنه .

[ ص: 271 ] قلت : ذلك بأنه - عليه السلام - قال : "لك الخيار" ولم يقل له : اشترط الخيار . وقال له : ("قل : لا خلابة") أي : لا خديعة ، فلو كان الغبن مباحا لم يكن لقوله : "لا خلابة" معنى ، ولم ينفعه ذلك ، فلما كان ذلك ينفعه جعل له الشارع الخيار بعد ذلك ، لينظر فيما باعه ويسأل عن سعره ويرى رأيه فيه ، وإنما جعل ذلك في حبان ليعلمنا الحكم في مثله ، وإنما تعرف الأحكام بما يبينه ، فبين من يغبن في بيعه إذا لم يكن عارفا بما يبيعه . وأيضا فقد جعل الشارع الخيار للمتلقي لأجل الغبن ، واعترضه ابن حزم بأن فيه الخيار إلى دخول السوق ، ولعله لا يدخله إلا بعد عام أو أكثر .

قلت : خلاف الغالب ، وأيضا لو ابتاع سلعة فوجد بها عيبا كان له الخيار في الرد لأجل النقص الموجود بها ، فلا فرق بين أن يجد النقص بالسلعة أو بالثمن ; لأنه في كلا الموضعين قد وجد النقص الذي يخرج به عن القصد ، ولا يرد الغبن اليسير ; لاحتماله غالبا .

وذكر ابن حبيب عن مالك أنه سئل عن جاهل باع حجرا أو درة بدرهمين فألفاه ، أي : وجده المشتري ياقوتة فلم ير فيه رجوعا ; لأن الغلط ماض على البائع والمبتاع في المساومة ، وإنما يرد في البيع على المرابحة ، إلا أن يبيعه بائعه على أنه زجاج فألفاه المشتري ياقوتة ، فإنه يرد البيع ، وكذلك لو باعه على أنه ياقوت فألفاه المشتري زجاجا ، يرد أيضا .

وزعم ابن عبد البر أن هذا خاص بحبان ، وأن الغبن بين المتبايعين [ ص: 272 ] لازمه ، ولا خيار للمغبون بتسببها ، سواء قلت أو كثرت ، وهو أصح الروايتين عن مالك . وقال البغداديون من أصحابه : للمغبون الخيار بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة . وكذا حده أبو بكر بن موسى من الحنابلة . وقيل : السدس ، وعن داود : العقد باطل . ويؤيد الخصوص رواية ابن لهيعة ، عن حبان ، عن طلحة بن يزيد بن ركانة أنه كلم عمر بن الخطاب في البيوع ، فقال : ما أجد لكم شيئا مما جعله سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان ، ورواية ابن لهيعة أيضا عن حبان بن واسع ، عن أبيه ، عن جده ، قال عمر بن الخطاب الحديث ، لكنهما ضعيفان .

وتمسك بهذا الحديث من لا يرى الحجر على الكبير ، لا سيما وقد جاء في بعض طرقه أن أهل هذا الرجل سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحجر عليه لما في عقوده من الغبن ، فلم يحجر عليه ، وأمره بقوله : "لا خلابة" .

قلت : قد يقال : إن الحجر عليه يؤخذ منه ; لأنهم سألوه ما أنكر عليهم ، وقد قال له : "قل : لا خلابة ، ولك الخيار ثلاثا" . ويروى : "واشترط الخيار ثلاثا" .

[ ص: 273 ] ويجوز أن يكون تركه لكونه يسيرا لا يحجر بمثله .

قال الدودي : أسفر لنفسه فدله على وجه يختص به ، ولم يضرب على يديه . وأجاب ابن العربي بأنه يحتمل أن تكون الخديعة كانت في العيب أو في الغبن أو في الكذب أو في الثمن أو في العين .

وليست قضية عامة فتحمل على العموم ، وإنما هي خاصة في عين وحكاية حال . وعند المالكية خلاف في الحجر على من يخدع في بيعه ، قال ابن شعبان : نعم . وقال غيره : لا ; عملا بهذا الحديث ، واستدل به على أن بيع السفيه إذا لم يكن عليه وصي على الجواز حتى يضرب على يده ، لإجازة الشارع ما تقدم من بيوعه .

وعورض بأنه يحتمل أن يكون بائعه غير معروف أو غائبا . وقد قال ابن القاسم : يفسخ بيعه وإن لم يضرب على يديه ، وخالفه جميع أصحاب مالك .

قال ابن حزم : من قال حين يبيع أو يبتاع : لا خلابة ، فله الخيار ثلاث ليال بما في خلالهن من الأيام ، إن شاء رد بعيب أو بغيره أو بخديعة أو بغيرها بغبن أو بغيره ، وإن شاء أمسكه ، فإذا انقضت الليالي الثلاث بطل خياره ولزمه ، ولا رد إلا من عيب إذا وجد ، فإن قال لفظا غير : لا خلابة بأن يقول : لا خديعة ، أو لا غش ، أو لا كيد ، أو لا غبن ، أو لا منكر ، أو لا عيب ، أو لا ضرر ، أو على السلامة ، أو لا داء ، أو لا غائلة أو لا خبث ، أو نحو هذا لم يكن له الخيار المجعول لمن قال : لا خلابة ; لكن إن وجد شيئا مما بايع على أن لا يعقد بيعه عليه بطل البيع ، وإن لم يجده لزم البيع .

[ ص: 274 ] وحكى ابن التين قولا أن معنى : لا خلابة في صفة النقد ، وفي وفاء الوزن والكيل ، قال : ويحتمل أن يأمره بذلك على وجه الإعذار لبائعه . وقيل : إنه - عليه السلام - جعل له ذلك علامة يثبت له بها الخيار ثلاثا . واحتج به على جواز اشتراطه للبائع والمشتري والأجنبي ; لإطلاق الحديث .

وفيه : ما كان القوم عليه من أداء الأمانة لمن عاملهم والنصح لمن استنصحهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية