التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2017 2124 - قال : وحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يباع الطعام إذا اشتراه حتى يستوفيه . [2126 ، 2133 ، 2136 - مسلم: 1526 - فتح: 4 \ 339]


ذكر فيه أثر عبد الرحمن السالف أول البيع . وقال أنس : قال عبد الرحمن : دلوني على السوق ، وقال عمر : ألهاني الصفق بالأسواق ، وقد سلف هناك . وفعلهما دال على فضل الكفاف .

ثم ذكر حديث عائشة مرفوعا : "يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء [ ص: 277 ] من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم" -الحديث- . وفيهم أسواقهم ؟ "ثم يبعثون على نياتهم" . وأخرجه مسلم أيضا .

وحديث أبي هريرة السالف في الصلاة : "صلاة أحدكم في جماعة تزيد على صلاته في بيته وسوقه بضعا وعشرين درجة . . . " الحديث بطوله .

وفيه : ("ولا ينهزه") أي : لا يخرجه ولا يدفعه ، يقال : نهز الرجل بنفسه إذا نهض ، وهو بضم الياء وفتحها .

والخطوة : -بفتح الخاء وحكي الضم- . ويؤذ : يغتب . وقال : أبو هريرة : يحدث .

وحديث أنس : كان - عليه السلام - بالسوق ، فقال : رجل يا أبا القاسم . . . الحديث . وفي آخره : "لا تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي" .

وفي رواية : دعا رجل بالبقيع : يا أبا القاسم . . . الحديث .

وحديث عبيد الله بن أبي يزيد ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبي هريرة : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه ، حتى أتى سوق بني قينقاع ، فجلس بفناء بيت فاطمة فقال : "أثم لكع ، أثم لكع ؟ " وفي آخره : "اللهم أحببه وأحب من يحبه" .

يريد : الحسن بن علي .

[ ص: 278 ] وعند الإسماعيلي : جاء الحسن والحسين يشتدوا .

واللكع : الاستصغار ، ويقال : اللؤم .

وفيه : (فظننت أنها تلبسه سخابا) والسخاب : قلادة خرزها طيب .

قال سفيان : قال عبيد الله -يعني : ابن أبي يزيد- أخبرني أنه رأى نافع بن جبير أوتر بركعة .

وحديث موسى بن عقبة ، عن نافع ، ثنا ابن عمر أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه ، حتى ينقلوه حيث يباع الطعام .

قال : وحدثنا ابن عمر : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباع الطعام إذا اشتراه حتى يستوفيه .

وأخرجه مسلم أيضا .

[ ص: 279 ] الشرح :

إنما أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ، ودخول السوق والشراء فيه للعلماء والفضلاء ، وكأنه لم يصح عنده الحديث المروي : "شر البقاع الأسواق وخيرها المساجد" ، وهذا إنما خرج على الأغلب ; لأن [ ص: 280 ] المساجد يذكر فيها اسم الله ، والأسواق غلب عليها اللغط واللهو ، والاشتغال بجمع الأموال ، والكلب على الدنيا من الوجه المباح وغيره ، وأما إذا ذكر الله فيه فهو من أفضل الأعمال : لحديث : "من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ، وبني له بيت في الجنة" .

[ ص: 281 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ ص: 282 ] ولذلك إذا لغا في المسجد أو لغط فيه أو عصى ربه لم يضر المسجد ، ولا نقص من فضله ، وإنما أضر بنفسه ، وبالغ في إثمه . وقد روي عن علي أنه قال : من عصى الله في المسجد فكأنما عصاه في الجنة ، ومن عصاه في الحمام فكأنما عصاه في النار ، ومن عصاه في المقبرة فكأنما عصاه في عرصات القيامة ، ومن عصاه في البحر فكأنما عصاه على أكف الملائكة .

وفي حديث عائشة : أن من كثر سواد قوم في معصية أو في فتنة أن العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك ; لأن الخسف لما أخذ السوق عقوبة لهم شمل الجميع . واستنبط منه مالك أن من وجد مع قوم يشربون الخمر وهو لا يشرب أنه يعاقب ، ويريد أن المغلوبين على تكثير السواد ليسوا ممن يستحق العقوبة ، لقوله تعالى ولولا رجال مؤمنون الآية [الفتح : 25] .

وفيه : علم من أعلام النبوة ، وهو إخباره بما يكون .

وفيه : أنه لا بأس بمهازلة الصبي وغيره إذا كان واقعا تحت السنن والفضل ، لا سيما إن عضد ذلك أبوه ; لأنه - عليه السلام - أبوه ، والجد أب .

والبيداء : المفازة وجمعها بيد .

وقوله : (وفيهم أسواقهم) ، في "مستخرج أبي نعيم" : فيهم أشرافهم بالشين المعجمة بدله ، وعند الإسماعيلي : وفيهم سواهم ، بدل : من أسواقهم ، قال : ورواه البخاري : (وفيهم أسواقهم) ، وليس هذا الحرف في حديثنا ، وأظن أن أسواقهم تصحيف ، فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق .

قال ابن التين : ولعل هذا الجيش الذين يخسف بهم هم الذين [ ص: 283 ] (يهدمون) الكعبة فينتقم منهم ، ويكون الذين يبعثون على نياتهم وحضرت آجالهم بالخسف ، كانوا ينكرون بقلوبهم ولا يقدرون على غير ذلك ; وقد قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال : 25] ، وقال : فلما نسوا ما ذكروا به الآية [الأنعام : 44] .

قلت : قد يقال : (الحبش) الذين يقدمون ليسوا من هذه الأمة .

والشارع قال في "صحيح مسلم" : "إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش قد لجأ إلى البيت" فذكر الحديث .

فإن قلت : فما ذنب من أكره على الخروج أو من جمعته وإياهم الطريق ؟ قلت : عائشة لما سألت ، قال : "يبعثون على نياتهم" فماتوا بها لما حضر من آجالهم وبعثوا على نياتهم .

وحديث أنس -يعني : الثاني- لا مناسبة له للباب ، نعم ذكر في أصله .

وروي أيضا من حديث جابر وأبي حميد الساعدي "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي" .

[ ص: 284 ] وأبي هريرة : "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم ، والله يعطي وأنا أقسم" .

والبراء بن عازب : "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" .

وعائشة : "ما أحل اسمي وحرم كنيتي" ذكرها ابن شاهين ، وذكر عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد أن محمد بن علي ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن طلحة ومحمد بن سعد كانوا كلهم يكنون بأبي القاسم ، وكان لمالك بن أنس ابن يقال له محمد وكنيته أبو القاسم ، فقيل له في ذلك ، فقال : لا بأس به . قال : وهذا الحديث يوجب أن يكون ناسخا للأول ; لأن ولدان الصحابة كنوابأبي القاسم ، وقد روي عن بعض التابعين أنه كان يقول : إذا رأينا [ ص: 285 ] الرجل يكنى بأبي القاسم كنيناه بأبي القاصم بالصاد من جهة الكره لذلك .

قال وحديث النهي طرقه لا أعلم في أكثرها علة .

ومذهب الشافعي وأهل الظاهر أنه لا يحل التكني بأبي القاسم لأحد أصلا ، سواء كان اسمه أحمد أو محمدا أو لم يكن ; لظاهر الحديث .

وفيه : مذاهب أخر :

أحدها : أنه منسوخ ، وأن هذا الحكم كان في الزمن الأول للمعنى المذكور في الحديث ثم نسخ ، فيباح لكل أحد وهو مذهب مالك وجمهور العلماء .

ثانيها : لا نسخ ، والنهي للتنزيه ، قاله ابن جرير .

ثالثها : النهي عن التكني بأبي القاسم مختص بمن اسمه محمد أو أحمد ، ولا بأس بها لمن لم يكن اسمه ذلك .

رابعها : النهي عن التكني بأبي القاسم مطلقا ، وأن لا يسمى القاسم ; لئلا يكنى والده به .

وشذ من منع التسمية بمحمد أيضا لحديث "تسمون أولادكم محمدا وتلعنونهم" .

[ ص: 286 ] وقوله : ("ولا تكنوا") قال ابن التين ضبط في أكثر الكتب بفتح التاء وضم النون المشددة ، ولا أعلم لها وجها في تصاريف الكلام ، وضبطت أيضا بضم التاء والنون على وزن تزكوا ، وفي بعضها بفتح التاء والنون مشددة مفتوحة على حذف إحدى التائين .

و (البقيع) في الحديث : مقبرة أهل المدينة ، وهو في اللغة المكان المتسع . وقال قوم : لا يكون بقيعا إلا وفيه الشجر ، وهذا البقيع كان ذا شجر ، ثم ذهب منه الشجر وبقي الاسم .

وقوله : (لم أعنك) أي : لم أردك ، يقال : عنيت بالقول كذا ، أي : أردته .

وحديث أبي هريرة : (حتى أتى سوق بني قينقاع فجلس بفناء بيت فاطمة) .

قال الداودي سقط بعضه على الناقل ، وإما أدخل حديثا في حديث إذ ليس بيت فاطمة في سوق بني قينقاع ، وإنما بيتها بين أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 287 ] ومعانقته للحسن فيه إباحة ذلك لغيره ، واستحب سفيان معانقة الرجل للرجل ، وكرهها مالك وقال : هي بدعة ، وتناظرا فيها فاحتج سفيان بأنه - عليه السلام - فعل ذلك بجعفر ، فقال مالك : هو خاص له ، فقال : ما يخصه بغير ذلك ؟ فسكت مالك .

واللكع : أسلفنا أنه الاستصغار ، ويقال : اللؤم . وقال أبو عبيد : هو عند العرب العبد . وهو في قول الأصمعي : الصبي الذي لا يتجه لمنطق ولا غيره ، مأخوذ من الملاكيع ، يعني : التي تخرج مع السلا من البطن . قال الأزهري : والقول قول الأصمعي ، ألا ترى أنه - عليه السلام - قال للحسن وهو صغير : "أين لكع" أراد به لصغره لا يتجه لمنطق

[ ص: 288 ] ولا ما يصلحه ، ولم يرد أنه لئيم ولا عبد ، وفي "الموعب" : يوسف به الحسن والرق واللؤم . وفي "الجامع" : أصل اللكع من الكلع ولكن قلب . وفي "الصحاح" : اللكع : الذليل .

قال السهيلي : أراد : تشبيهه بالفلو والمهر ; لأنه طفل كما أنهما كذلك ، وإذا قصد بالكلام قصد التشبيه لم يكن إلا صدقا .

وقول (سفيان : قال عبيد الله : رأيت نافع بن جبير أوتر بركعة) ، أراد البخاري أن يبين سماع عبيد الله المعنعن في السند عن نافع .

وادعى ابن التين أن الإتيان بركعة غير معمول به ، وذكر ذلك عن معاوية ، وذكر فعله لابن عباس فقال : إنه فقيه .

وقوله في حديث ابن عمر : (حتى ينقلوه حيث يباع الطعام) وفي لفظ : حتى يستوفيه .

ولمسلم من حديث أبي هريرة : حتى يكتاله . وهو من أفراده ، وانفرد به أيضا من حديث جابر .

قال ابن عبد البر : وفي حديث القاسم بن محمد نهى أن يبيع أحد طعاما اشترى بكيل حتى يستوفيه ، قال : والقبض والاستيفاء سواء ، ولا يكون ما بيع من الطعام على الكيل والوزن مقبوضا إلا كيلا أو وزنا . وهذا لا خلاف فيه ، فإن وقع البيع في الطعام على الجزاف ، فقد اختلف في بيعه قبل قبضه وانتقاله .

[ ص: 289 ] وقال ابن التين في قوله : (كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام) : هذا للرفق بأهل السوق . ومعناه : أنهم لم يتلقوا الركبان لعلهم قدموا معهم ، أو أمروا بهم أو لقوهم من غير قصد التلقي ، ويدل عليه اشتراء النبي - صلى الله عليه وسلم - من جابر وعمر . وهذا الحديث أبين ما روي عن ابن عمر في هذا ، وقد روى مالك عنه : كانوا يشترون الطعام فيبعث إليهم من يأمرهم بانتقاله ، فتأول قوم ذلك أنهم أمروا بالانتقال ليوسعوا على أهل الأسواق ، وتأوله قوم على أن الجزاف من الطعام لا يباع حتى ينقل ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ، واختلف قول مالك في استحباب ذلك ، فعنه في "المدونة" : لا بأس ببيعه قبل قبضه . قال القاضي في "إشرافه" : إذا خلا البائع بينه وبينه ، وعنه في "العتبية" كراهة بيعه حتى ينقل ، وبه قال ابن حبيب وابن الجلاب . وهذا الحديث هنا مبين أنهم كانوا يشترون من الركبان . وقيل : إنما منع من بيع الجزاف قبل نقله ; لئلا يشتري منه الذي باعه فيكون دراهم بدراهم أكثر منها .

[ ص: 290 ] وقد فسره ابن عباس فقال : تلك دراهم بدراهم ، والطعام مرجأ .

وقوله في حديث أبي هريرة : (لا يكلمني ولا أكلمه) قد يكون ذلك لأمر قد شغل ضميره ، أو لفكر في أمر معاده ، ولم يكلمه أبو هريرة لما أحس منه ، وهذا كان شأنهم إذا لم يروا منه نشاطا كفوا عن كلامه إلى أن يحدث ما يسألونه عنه .

وفي حديث : ("اللهم أحببه وأحب من يحبه") . يقال أحب يحب وهي اللغة المشهورة . وحكى حب ثلاثي ، وحكى المبرد قراءة (يحببكم الله) [آل عمران : 31] كأنه من حببت وأدغم في موضع الجزم ، وهو مذهب تميم وقيس وأسد ، ورد عليه بأنه (يحبكم الله) بإظهار التضعيف وفتح الباء من يحب ، ولا يكادون يقولون حب ، في الماضي ، إنما يقال في المستقبل فقط ، هذا هو المشهور ، على أنهم قالوا الذي يحب أيضا ; إنها لغة ، وقال غيره : إنها شذوذ ، وفي المثل السائر : من حب طب .

التالي السابق


الخدمات العلمية