التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2027 2134 - حدثنا علي ، حدثنا سفيان ، كان عمرو بن دينار يحدثه ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس أنه قال : من عنده صرف ؟ فقال طلحة : أنا ، حتى يجيء خازننا من الغابة . قال سفيان : هو الذي حفظناه من الزهري ليس فيه زيادة . فقال : أخبرني مالك بن أوس ، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" . [2170 ، 2174 - مسلم: 1586 - فتح: 4 \ 347]


ذكر فيه حديث ابن عمر قال : رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة ، يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يئووه إلى رحالهم .

وحديث ابن عباس : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع طعاما حتى يستوفيه .

قلت لابن عباس : كيف ذاك ؟ قال : ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ .

[ ص: 311 ] وحديث ابن عمر : "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" .

وحديث مالك بن أوس بن الحدثان ، عن عمر : "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء" .

وذكر مثله في البر بالبر ، والتمر بالتمر ، والشعير بالشعير .

الشرح :

هذه الأحاديث كلها في مسلم أيضا وسلف بعضها ، منها حديث ابن عمر .

ورواه -أعني : حديث مالك- ابن حزم من طريق ابن وهب بإسقاط عمر ، ثم قال : مالك لا يعرف له سماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إسناده مجهول وكذاب ، وعنى بالمجهول : جبير بن أبي صالح ، لكن وثق ، ومالك هذا هو النصري بالنون والصاد المهملة ، أدرك الجاهلية ، وقيل : له صحبة ، ولا يصح ، وإن ذكرها أبو نعيم وأبو عمر وغيرهما ، [ ص: 312 ] بل البخاري في "تاريخه" . مات سنة اثنتين وتسعين . ونصر هذا أخو حسم ، وفي أسد خزيمة نصر بن قعين .

(والحكرة) : بضم الحاء المهملة : حبس الطعام عن البيع مع الاستغناء عنه عند الحاجة إليه إرادة غلائه . والجزاف -بالتثليث- بيعك الشيء واشتراؤك بلا كيل ولا وزن . قال ابن سيده : وهو يرجع إلى المساهلة ، وهو دخيل .

[ ص: 313 ] ولم يرو مالك لفظة (مجازفة) وفسرها بأنهم كانوا يريدون بيعه بالدين ، وأما بالنقد فلا بأس .

واعترضه ابن التين بأنه إذا باعه من غير بائعه لا فرق بين دين ونقد .

وفي قوله : (مجازفة) : جواز بيع الجزاف ، وأن الغرر اليسير معفو عنه في البيع .

وقوله : (ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) تأوله أن يشتري منه طعاما بمائة إلى أجل ويبيعه منه قبل قبضه بمائة وعشرين ، وهو غير جائز ; لأنه في التقدير بيع دراهم بدراهم والطعام مرجأ غائب .

وليس هذا تأويله عند أكثر العلماء ، وقيل : معناه : أن يبيعه من آخر ويحيله به . قال ابن فارس : أرجأت الشيء : أخرته ، وأرجيت أيضا ، ذكره الخطابي . قال ابن التين : والذي سمعناه بغير همز ، وبهمزة في بعض النسخ .

وقوله : ("هاء وهاء") قال الهروي : اختلف في تفسيره ، وظاهر معناه : أن يقول كل واحد منهما : هاء فيعطيه ما في يده .

وقيل : معناه : هات وهاك ، أي : خذ وأعط ، وهو ممدود لكنهم يقرءونه بالقصر . وقال الخطابي : الهمزة في هاء وهاء بدل من الكاف ، كأنه قال : هاك أي : خذ ، وقد يقال بالكسر .

واختلف العلماء في بيع الطعام جزافا قبل أن يقبض ، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود إلى أنه [ ص: 314 ] لا يجوز بيعه قبل قبضه ، وروي عن مالك أيضا ، وقال ابن عبد الحكم : إنه استحسان من قوله .

وقالت طائفة : يجوز بيع الطعام الجزاف قبل قبضه ، روي ذلك عن عثمان بن عفان ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري والحكم وحماد ، وهو المشهور عن مالك ، وبه قال الأوزاعي وإسحاق ، حجة القول الأول ظاهر حديث ابن عمر ، وعموم نهيه عن بيع الطعام قبل استيفائه ، فدخل فيه الجزاف والكيل ، وقد أشار ابن عباس إلى أنه إذا باعه قبل قبضه أنه دراهم بدراهم والطعام لغو ، فأشبه عنده العينة . قال الأبهري : العينة من باب سلف جر منفعة .

والحجة للثاني أن من باع جزافا فلم يبع إلا ما وقعت حاسة العين عليه ، ولذلك سقط الكيل عن البائع ، والاستيفاء إنما يكون بالكيل أو الوزن ، هذا مشهور عند العرب ، ويشهد لذلك قوله تعالى فأوف لنا الكيل [يوسف : 88] و وأوفوا الكيل إذا كلتم [الإسراء : 35] الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون [المطففين : 2] فإنما عنى بالاستيفاء في المكيل والموزون خاصة ، وما عدا هذه الصفة فلم يبق فيه إلا التسليم فيما يستوفى من جزاف الطعام كالعقار وشبهه .

فإن قلت : لو كان كما زعمتم لم يتأكد النهي عن ذلك بضرب الناس عليه ، فدل على أن حكم الجزاف حكم المكيل .

فالجواب : أنهم إنما أمروا بانتقال طعامهم وإن كان جزافا ; لأنهم [ ص: 315 ] كانوا بالمدينة يتبايعون بالعينة ، فكذلك يجب أن يؤمروا بانتقال الجزاف في كل موضع يشهد فيه العمل بالعيب ; ليكون حاجزا بين دراهم بأكثر منها ; لأنه إذا باعه بالمكان الذي ابتاعه بدراهم أكثر منها كان الطعام لغوا وكانت دراهم بأكثر منها ، وقد روي عن ابن عمر أن النهي إنما ورد في المكيل خاصة ، وروى ابن وهب من حديث ابن عمر : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه .

وفي حديث ابن عمر : (رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يئووه إلى رحالهم) إباحة الحكرة ; لأنه لو لم يجز لهم احتكاره لتقدم إليهم في بيعهم ولم يؤذن لهم في حبسه ، هذا قول أئمة الأمصار ، وبه يزول اعتراض الإسماعيلي بأن البخاري بوب لها ولم يذكرها .

ورخصت طائفة لمن يقع الطعام من أرضه أو جلبه من مكان في حبسه ، ومنعت من ذلك لمشتريه من الأسواق للحكرة ، وروي ذلك عن عمر والحسن البصري ، وبه قال الأوزاعي . قال مالك فيمن رفع طعاما من ضيعته فرفعه : فليس بحكرة . وقال الشافعي وأحمد : إنما يحرم احتكار الطعام الذي هو قوت دون سائر الأشياء . وقالت طائفة : احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه . روي عن عمر ومجاهد .

[ ص: 316 ] وفي مسلم : "لا يحتكر إلا خاطئ" من حديث معمر بن عبد الله بن نضلة ، وروي عن عمر وعثمان أنهما نهيا عنها .

ومعنى هذا النهي عند الفقهاء ، في وقت الشدة ، فيما ينزل بالناس من حاجة ، يدل على ذلك أن سعيد بن المسيب راوي الحديث عن معمر كان يحتكر الزيت ، فقيل له في ذلك فقال : كان معمر يحتكر .

[ ص: 317 ] وفي "مسند أحمد" : كان يحتكر النوى والخبط والبزر ، وجاء في الاحتكار أحاديث ضعيفة لا نطول بذكرها .

وقال أبو الزناد : قلت لابن المسيب : أنت تحتكر ، قال : ليس هذا بالذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنما قال : "أن يأتي الرجل للسلعة عند غلائها فيغالي بها" ، وأما أن يشتريه إذا أبضع ثم يرفعه فإذا احتاج الناس إليه أخرجه ، فذلك خير .

[ ص: 318 ] فبان أن معنى النهي عن الحكرة في وقت حاجة الناس . روى ابن القاسم ، عن مالك أنه قال : من اشترى الطعام في وقت لا يضر بالناس اشتراؤه فلا يضره أن يتربص به ما شاء . وهو قول الكوفيين والشافعي .

قال مالك : وجميع الأشياء في ذلك كالطعام ، وقال الأوزاعي : لا بأس أن يشتري في سنة الرخص طعاما لسنين لنفسه وعياله مخافة الغلاء . قال مالك : وأما إذا قل الطعام في السوق واحتاج الناس إليه ، فمن احتكر منه شيئا فهو مضر بالمسلمين ، فليخرجه إلى السوق ويبعه بما ابتاعه ولا يزدد فيه .

فعلى هذا القول تتفق الآثار ، ألا ترى أن الناس إذا استوت حالتهم في الحاجة فقد صاروا شركاء ، ووجب على المسلمين المواساة في أموالهم ، فكيف لا يمنع الضرر عنهم ، وقد جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأزواد بالصهباء عند الحاجة ، ونهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث للدافة .

[ ص: 319 ] وجمع أبو عبيدة بين أزواد السرية ، وقسمها بين من لم يكن له زاد وبين من كان له .

وأمر عمر أن يحمل في عام الرمادة على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء ، وقال : إن المرء لا يهلك عن نصف شبعه .

فرع : يصح بيع الصبرة مجازفة ، وفي كراهته قولان : أظهرهما : نعم ، وكذا صبرة الدراهم ، وعن مالك : لا يصح بيعه إذا كان بائع الصبرة جزافا يعلم قدرها .

وروى الحارث بن أبي أسامة بسند فيه الواقدي من حديث عمران بن أبي أنس : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان يقول : في هذا الوعاء كذا وكذا ، ولا أبيعه إلا مجازفة . فقال : "إذا سميت كيلا فكل" .

[ ص: 320 ] وروى عبد الرزاق قال : قال ابن المبارك عن الأوزاعي رفعه : "لا يحل لأحد باع طعاما جزافا قد علم كيله حتى يعلم صاحبه" .

وروى ابن أسلم في كتاب "الربا" عن واصل قال : سألت مجاهدا وعطاء والحسن وطاوسا عن الرجل يشتري طعاما جزافا لا يعلم كيله ورب الطعام قد عرف كيله ؟ فكرهوه كلهم .

وقال ابن قدامة : إباحة بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها لا نعلم فيه خلافا ، فإذا اشتراها جزافا لم يجز بيعها حتى ينقلها ، نص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وقد سلفت فيه رواية أخرى : بيعها قبل نقلها . واختاره القاضي ، وهو مذهب مالك ، قال : ونقلها قبضها ، كما جاء الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية