التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2033 2140 - حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد ، ولا تناجشوا ، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها . [2148 ، 2150 ، 2151 ، 2160 ، 2162 ، 2723 ، 2727 ، 5144 ، 5152 ، 6601 - مسلم : 1413 ، 1515 ، 1520 - مسلم : فتح: 4 \ 353]


وذكر فيه حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يبيع بعضكم على بيع أخيه" .

وحديث أبي هريرة : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد ، ولا تناجشوا ، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها .

هذان الحديثان أخرجهما مسلم أيضا . وحديث ابن عمر يأتي أيضا في باب : النهي عن تلقي الركبان .

وفيه : النهي عن بيع بعض على بيع بعض ، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله ، أو يأذن له الخاطب .

[ ص: 344 ] قال صاحب "المطالع" : يأتي كثير من الأحاديث على لفظ الخبر ، وقد يأتي بلفظ النهي ، وكلاهما صحيح .

وقال ابن الأثير : كثير من روايات الحديث "لا يبيع" بإثبات الياء ، والفعل غير مجزوم ، وذلك لحن وإن صحت الرواية فتكون لا نافية ، وقد أعطاها معنى النهي ، لأنه إذا نفي أن يوجد هذا البيع ، فكأنه قد استمر عدمه ، والمراد من النهي عن الفعل : إنما هو طلب إعدامه أو استبقاء عدمه ، فكان النفي الوارد من الواجب عندهم يفيد ما يراد من النهي ، ولما قرر ابن حزم حرمة ذلك -أعني : البيع على البيع ، والسوم على السوم ، وأن الذمي كالمسلم فيه ، وأنه إن فعل فالبيع مفسوخ- قال : هذا خبر معناه الأمر ، لأنه لو كان معناه الخبر لكان خلفا لوجود خلافه ، والخلاف مقطوع ببعده عن الشارع .

وقال النووي : في جميع النسخ : "ولا يسوم" بالواو يعني في مسلم ، وكذا "لا يخطب" مرفوع وكلاهما لفظه لفظ الخبر ، والمراد به النهي ، وهو أبلغ في النهي ، لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه ، والنهي قد يقع خلافه ، فكان المعنى عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتمم .

فإن قلت : ترجم على السوم ، ولم يذكره .

قلت : كأن البيع هنا السوم ، وبه صرح مالك في "الموطأ" .

وقال أبو عبيد : قال أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما : البيع هنا الشراء والنهي وقع عليه لا على البائع ; لأن العرب تقول : بعت الشيء بمعنى [ ص: 345 ] اشتريته . قال أبو عبيد : وليس للحديث عندي وجه غيره ، كما أن الخاطب هو الطالب .

فإن قلت : ترجم حتى يأذن له أو يترك ، ولم يذكره .

قلت : ذكره في الباب المذكور في الخطبة على الخطبة ، فكأنه أشار إليه من باب لا فارق .

وحقيقة البيع على البيع : أن يأمر المشتري بالفسخ ، ليبيعه مثله في مجلس خيار المجلس والشرط ، والمعنى في تحريمه ، أنه يوغر الصدور ، ويورث الشحناء ، ولهذا لو أذن له في ذلك ارتفع التحريم على الأصح .

وفي معناه : الشراء على الشراء قبل لزومه بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه ، وسيأتي في البخاري في الشروط ، بلفظ : "لا يزيدن على بيع أخيه" ، وأخرجه مسلم بلفظ "لا يزيد الرجل على بيع أخيه" ، وأما السوم على سوم غيره ، فهو أن يأتي الرجل قد أنعم لغيره في بيع سلعته بثمن ، فيزيده ليبيع منه ، أو يأتي إلى المشتري فيعرض عليه مثلها أو أجود منها بأنقص من ذلك .

وفي كلام الشيخ أبي حامد أن هذا سوم ، والأول استيام ، والمعنى في حرمته ما فيه من الإيذاء والقطيعة والعداوة ، وسواء كان ذلك الغير مسلما أو كافرا .

[ ص: 346 ] وفي الكافر وجه لابن حربويه ، وهو قول الأوزاعي . قال ابن التين : وأجمع العلماء أن حكم الذمي كالمسلم في ذلك إلا الأوزاعي فإنه أجازه .

قلت : والظاهر جريانه في البيع على بيعه أيضا .

ولفظ (الأخ) في الحديث خرج مخرج الغالب . وقام الإجماع على كراهة سوم الذمي على مثله ، نقله ابن بطال ، والشافعي في "رسالته" توقف في صحة هذا النهي ، فقال البيهقي عقبه : هو ثابت من أوجه ، وإنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن ، وأما ما يطاف به فيمن يزيد فطلبه طالب فلغيره الزيادة ; لأنه - عليه السلام - باع قدحا وحلسا فيمن يزيد ، رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث أنس ، وحسنه الترمذي .

[ ص: 347 ] فرع : إنما يحرم أيضا إذا حصل التراضي صريحا ، فإن لم يصرح ولكن جرى ما يدل على التراضي كأشاور عليك ، وكذا إذا سكت ، فالأصح لا تحريم ، وقال بعض المالكية : لا يحرم حتى يرضوا بالزوج ويسمى المهر ، واستدل بقول فاطمة بنت قيس : خطبني أبو جهم ، ومعاوية ، فلم ينكر الشارع ذلك ، بل خطبها لأسامة .

وقد يقال : لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول ، وأما الشارع فأشار بأسامة ; لا أنه خطب ولم يعلم بأنها رضيت بواحد منهما ولو أخبرته لم يشر عليها . وقال القرطبي : اختلف أصحابنا في التراكن فقيل : هو مجرد الرضا بالزوج والميل إليه ، وقيل : تسمية الصداق . قال : وهذا عند أصحابنا محمول على ما إذا كانا شكلين . وزعم الطبري أن النهي هنا منسوخ بخطبته - عليه السلام - فاطمة لأسامة . ثم اعلم أنه قام الإجماع على تحريم ما أسلفناه كما تقرر ، فلو خالف وعقد فهو عاص ، وينعقد البيع عندنا وعند أبي حنيفة وآخرين .

وقال داود : لا ينعقد ، وبه صرح ابن حزم منهم كما سلف ، وعن مالك روايتان كالمذهبين . وقال جماعة من أصحابه : يفسخ قبل الدخول لا بعده ، وجمهورهم على إباحة البيع والشراء فيمن يزيد ، وبه قال الشافعي كما سلف ، وكرهه بعض السلف .

فصل :

وأما بيع الحاضر للبادي فهو أن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه ، فيقول البلدي له : اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأغلى .

[ ص: 348 ] وفي مسلم من حديث جابر : "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ، والمعنى فيه التضييق على الناس ، وأهل الحاضرة أفضل : لإقامتهم الجماعات وعلمهم .

واختلف في أهل القرى هل هم مرادون بهذا الحديث ؟ فقال مالك : إن كانوا يعرفون الأثمان فلا بأس به ، وإن كانوا يشبهون البادية فلا يباع ولا يشار عليهم .

واختلف هل يبيع مدني لمصري أو عكسه ، فمنعه مالك واستخفه في "العتبية" . واختلف إذا أنفذ البادي متاعه هل يبيعه الحضري ؟ منعه ابن القاسم ، وابن حبيب ، وأجازه الأبهري . واختلف هل يشتري له ؟ فأجازه في كتاب محمد و"العتبية" مالك ، ومنعه ابن حبيب .

فرع : لو وقع البيع ، فقال ابن القاسم : يفسخ حضر البدوي أو بعث بالسلعة ، ورواه ابن حبيب لمالك ، وقاله أصبغ ، في بيع المصري للمدني . وقال ابن عبد الحكم : لا يفسخ . ورواه سحنون عن ابن القاسم ، وهو قول الشافعي محتجا بحديث : "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ولم يقع الفساد في ثمن ولا مثمن ولا في عقد البيع ، فلا فسخ .

فرع : فإن فعل وباع فهل يؤدب ؟ قال ابن القاسم : نعم إن اعتاده .

وقال ابن وهب : يزجر عالما كان أو جاهلا ، ولا يؤدب .

فصل :

والنجش : هو أن يزيد في الثمن لا لرغبة بل ليخدع غيره .

[ ص: 349 ] و (تناجشوا) : تفاعلوا من النجش ، وأصله الختل ، يقال : نجش الرجل إذا اختال وخدع ، وأنكر ذلك على قائله ، وإنما هو الإثارة والإطراء . والأصح عندنا أنه لا خيار خلافا لمالك وابن حبيب ، ووفاقا لأبي حنيفة . وعن مالك : له الخيار إذا علم ، وهو عيب من العيوب كما في المصراة .

وقال ابن حبيب : لا خيار إذا لم يكن للبائع مواطأة . وقال أهل الظاهر : البيع باطل مردود على بائعه إذا ثبت ذلك عليه . وكأن البخاري بوب على قولهم كما سيأتي . وادعى ابن بطال أن قول مالك أعدلها وأولاها بالصواب .

فرع : قال ابن القاسم في السائم والخاطب : لا يفسخ ويؤدب . وقال غيره : يفسخ .

فصل :

الخطبة على خطبة من صرح بإجابته حرام إلا بإذنه كما سلف ، فإن لم يجب ولم يرد لا يحرم . وعند المالكية : إذا تراكنا أو سميا صداقا أو اتفقا ولم يبق إلا العقد أقوال عندهم ، وسيأتي إيضاحه في موضعه .

فصل :

قوله : "لتكفأ ما في إنائها" هذا مثل قوله : "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها" إرادة ضررها فتصير بمنزلة من كفأ إناءها ، أي : قلبه على وجهه .

وقيل : هو أن يخطب الرجل المرأة وله امرأة فتشترط عليه طلاق [ ص: 350 ] الأولى لتنفرد به . وتكفأ بفتح التاء والفاء كذا في رواية أبي الحسن . قال ابن التين : وهو ما سمعناه ، ووقع في بعض رواياته كسر الفاء ، وثالثة بضم التاء . وذكر الهروي الحديث وقال : لتكتفئ : تفتعل من كفأت (القدر) إذا كببته لتفرغ ما فيها ، وهذا مثل إمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها . وقال الكسائي : كفأت الإناء : كببته ، وكفأته وأكفأته : أملته ، ومنه الحديث : كان إذا مشى تكفأ تكفؤا .

أي : تمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها . قال : والأصل فيه الهمزة تركت .

التالي السابق


الخدمات العلمية