التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2061 2169 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعتقها ، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا . فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق" . [انظر : 2156 - مسلم: 1504 - فتح: 6 \ 376]


ثم ساق حديث عائشة في قصة بريرة .

وقوله - عليه السلام - : "ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق" .

[ ص: 422 ] ثم ذكر بعده عنها حديثا آخر بنحوه ، وهو حديث صحيح حفيل له طرق ، وقد أفرد بالتأليف ، وقام الإجماع على أن من اشترط في البيع شرطا لا يحل أنه لا يجوز شيء منها ; عملا بهذا الحديث واختلفوا في غيرها من الشروط على مذاهب مختلفة ، فذهبت طائفة إلى أن البيع جائز ، والشرط باطل على نص حديث بريرة ، وهو قول ابن أبي ليلى والحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وابن جرير ، وبه قال أبو ثور ، قالوا : ودل هذا الحديث أن الشروط كلها في البيع تبطل وتثبت البيوع .

وذهبت أخرى إلى جوازهما ، واحتجوا بحديث جابر في بيعه واستثنائه حمله إلى المدينة ، روى ذلك عن حماد وابن شبرمة وبعض التابعين وذهبت ثالثة إلى بطلانها ، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، وهو قول عمر وولده وابن مسعود والكوفيين والشافعي ، فحملوا هذه الأحاديث التي نزعوا بها على العموم ، ولكل واحد منهما موضع لا يتعداه ، ولها عند مالك أحكام مختلفة ، وقد يجوز عنده البيع والشرط في مواضع ، فإما إجازتهما فمثل أن يشترط المشتري على [ ص: 423 ] البائع شيئا ما في ملك البائع ما لم يدخل في صفقة البيع ، وذلك مثل أن يشتري منه زرعا ويشترط على البائع حصده ، أو دارا ويشترط سكناها مدة يسيرة ، أو يشترط ركوب الدابة يوما أو يومين ، وقد روي أنه لا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة ; ووجه إجازته لذلك أن البيع وقع على الشيئين معا ، وعلى الزرع والحصاد ، والحصاد إجارة ، وهي بيع منفعة ، وكذا وقع البيع على الدار غير سكنى المدة وعلى الدابة غير الركوب .

وأبو حنيفة والشافعي لا يجيزان هذا البيع كله ; لأنه عندهم بيع وإجارة ولا يجوز ; لأن الإجارة عندهم بيع منافع طارئة في ملك البائع لم تخلق بعد ، وهو من باب بيعتين في بيعة .

ومما أجاز مالك فيه البيع والشرط : شراء العبد بشرط عتقه ، اتباعا للسنة في بريرة ، وهو قول الليث ، وبه قال الشافعي في رواية الربيع ، ولم يقس عليه غيره من أجل نهيه - عليه السلام - عن بيع وشرط ، وأجاز ابن أبي ليلى هذا البيع وأبطل الشرط ، وبه قال أبو ثور ، وأبطل أبو حنيفة البيع والشرط ، وأخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط ; لأن أبا حنيفة يقول : إن المبتاع يقول : إذا أعتقه كان مضمونا عليه بالثمن ، وهذا خلاف أصوله ; لأنه كان ينبغي أن يكون مضمونا عليه بالقيمة ، كما قال وقلنا في البيع الفاسد .

ومضى أبو يوسف ومحمد على القياس فقالا : لا يكون مضمونا بالقيمة ، قال ابن المنذر : وما قالوه خطأ ; لأن البيع إن كان غير جائز [ ص: 424 ] فالعبد في ملك البائع لم يزل ملكه عنه ، وعتق المشتري له باطل ; لأنه أعتق ما لم يملك ، ومما أجاز مالك فيه البيع وأبطل الشرط ، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع ، وهذا البيع أجمعت الأمة على جوازه وإبطال الشرط فيه لمخالفته السنة في أن : "الولاء لمن أعتق" فإنه - عليه السلام - أجاز هذا البيع وأبطل الشرط ، وكذلك من باع سلعة وشرط أنه لم ينقد المشتري إلى ثلاثة أيام أو نحوها مما يرى أنه لا يريد تحويل الأسواق والمخاطرة ، فالبيع جائز والشرط باطل عند مالك ، وأجاز ابن الماجشون البيع والشرط ، وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى ، فإذا أجاز الوقت فلا خيار له ، وممن أجاز هذا البيع والشرط : الثوري ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، ولم يفرقوا بين ثلاثة أيام وأكثر منها ، وأجاز أبو حنيفة البيع والشرط إلى ثلاثة أيام ، وإن قال : إلى أربعة أيام ، بطل البيع ; لأن الخيار لا يجوز عنده اشتراطه أكثر من ثلاثة أيام ، وبه قال أبو ثور .

ومما يبطل فيه عند مالك البيع والشرط ، وذلك مثل أن يبيعه جارية على أن لا يبيعها ولا يهبها ، وعلى أن يتخذها أم ولد ، فالبيع عنده فاسد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي .

واعتلوا في فساد البيع بفساد الشرط فيه ، وذلك عدم تصرف المشتري في المبيع وكما لا يجوز عند الجميع أن يشترط المبتاع على البائع عدم التصرف فيما اشتراه وهذا عندهم معنى نهيه عن بيع وشرط .

وأجازت طائفة هذا البيع وأبطلت الشرط ، هذا قول النخعي والشعبي والحسن وابن أبي ليلى ، وبه قال أبو ثور ، وقال حماد الكوفي : البيع جائز والشرط لازم .

قال ابن المنذر : وقد أبطل الشارع ما اشترطه أهل بريرة من الولاء [ ص: 425 ] وأثبت البيع ، فمثال هذا أن كل من اشترط في البيع شرطا خلاف كتاب الله وسنة رسوله أن الشرط باطل والبيع ثابت ; استدلالا بحديث بريرة ، واشتراط البائع على المشتري أن لا يبيع ولا يهب شروطا ينبغي إبطالها وإثبات البيع ; لأن الله تعالى أحل وطء ما ملكت اليمين ، وأحل للناس أن يبيعوا أملاكهم ويهبوها فإذا اشترط البائع شيئا من هذه فقد اشترط خلاف كتاب الله ، وهو مثل اشتراط موالي بريرة ولاءها لهم ، فأجاز - عليه السلام - البيع وأبطل الشرط ، فكذلك ما كان مثله ، ومما يبطل فيه عند مالك والشافعي والكوفيين البيع والشرط بيع الأمة والناقة واستثناء ما في بطنها ، وهو عندهم من بيوع الغرر ; لأنه لا يعلم مقدار ما يصلح أن يحط من ثمنها قيمة الجنين ، وقد أجاز هذا البيع والشرط النخعي والحسن ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور ; واحتجوا بأن ابن عمر أعتق جارية واستثنى ما في بطنها .

قال ابن المنذر : وهذا البيع معلوم ولا يضرهما أن يجهلا ما لم يدخل في البيع ، ولا أعلمهم يختلفون أنه يجوز بيع جارية قد أعتق ما في بطنها ، ولا فرق بين ذلك ; لأن المبيع في المسألتين جميعا الجارية دون الولد .

وما أحسن الحكاية المشهورة في ذلك أنبأنا بها غير واحد عن الدمياطي الحافظ ، منهم المعمر ناصر الدين محمد بن علي الحراوي ، أنا أبو القاسم بن أبي السعود ، أنا أبو الرضا محمد بن [ ص: 426 ] بدر بن عبد الله السنجي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد العلاف ، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي ، ثنا جعفر بن محمد بن [ ص: 427 ] الحجاج ، ثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير ، ثنا محمد بن سليمان الذهلي ، ثنا عبد الوارث بن سعيد قال : قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة ، فسألت أبا حنيفة فقلت : ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا ؟ فقال : البيع باطل والشرط باطل . ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال : البيع جائز والشرط باطل . ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال : البيع جائز والشرط جائز .

[ ص: 428 ] فقلت : سبحان الله ، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا على مسألة واحدة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا ؟ حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، البيع باطل والشرط باطل .

ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا ؟ حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أشتري بريرة فأعتقها ، البيع جائز والشرط باطل .

ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال : لا أدري ما قالا ؟ حدثني مسعر بن كدام ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : بعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة واشترط لي حملانها إلى المدينة ، البيع جائز والشرط جائز .

[ ص: 429 ] قال الحافظ أبو الفتح بن أبي الفوارس : هذا حديث غريب من حديث ابن شبرمة ، عن مسعر وهذا الحديث تفرد به عبد الوارث بن سعيد .

قال المهلب : وحديث بريرة أصل في العقوبة بالأموال ; لأن مواليها أبوا الوقوف عند حكم الله وحكم السنة ، فلما عرفت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبائهم واستمرارهم على خلاف الحق باشتراطهم ما لا يجوز ، قال لها : "اشترطي لهم ذلك" فإن ذلك غير نافعهم ولا ناقض لبيعهم ، فعاقبهم في المال بعشر ما وضعوا من الثمن ، من أجل اشتراط الولاء واستبقائه لهم ولم يعطهم قيمة عقوبة .

[ ص: 430 ] قال أبو عبد الله : فلو وقع اليوم مثل هذا وباع رجل جارية على أن يتخذها المشتري أم ولد وعلى أن لا يبيعها ولا يهبها ، ثبت البيع ورجع البائع بقيمة ما وضع .

ولنذكر نبذة من فوائده وألفاظه :

ففيه : جواز كتابة الأمة ، وكرهها القاضي في "معونته" لما روي عن عثمان أنه قال : لا تكلفوا الأمة الكسب فتكتسب بفرجها وفيه : تنجيم الكتابة خلافا للمالكية ، والإعانة عليها ، ويدل على أن الخير في الآية الصلاح والعفة لا المال .

وفيه : جواز السؤال للضرورة . لقولها : أعينيني .

وفيه : أخذ المكاتب للزكاة : وهو المعني بقوله وفي الرقاب [التوبة : 60] خلافا لمالك .

وفيه : جواز بيع المكاتب ، وقد يقال : إنها عجزت نفسها ، وأجازه مالك ، ومنعه أبو حنيفة والشافعي .

وفي تعجيز المكاتب ثلاثة أقوال عند المالكية : ثالثها : ما في "المدونة" : نعم ، إلا أن يكون له مال ظاهر .

[ ص: 431 ] وقوله : ("واشترطي لهم الولاء") قد أسلفنا أنه أعل بتفرد مالك به عن هشام ، وأنه لم يتابع ، وقال يحيى بن أكثم : هذا لا يجوز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يتوهم أنه يأمر بغرور أحد . وليس كما قال ، فقد تابعه عليه أبو أسامة وجرير ، وقد سلف تأويله وأن (لهم) بمعنى عليهم ، أو أنه من باب : اعملوا ما شئتم [فصلت : 40] على التهكم ، أو أنه لم يعبأ بقولهم ، ولا رآه قادحا في البيع ، أو أن هشاما نقله على المعنى ، أو أنه قد يخرج الحكم بخاص يتعلق به ، ثم يرتفع السبب ويرتفع الحكم ، فإن الجاهلية كانت تعتقد ذلك ، فأراد - عليه السلام - أن يمنعهم منه وينهاهم عنه ، فأمرهم بفعله ، ثم منعه ليكون أبلغ في منعه ، قاله الشافعي . أو معنى "اشترطي لهم الولاء" أي : لا يلزمك ، ويدل له رواية البخاري في بعض طرقه "اشتريها وأعتقيها ، ودعيهم يشترطون ما شاءوا" ، وروي "أشرطي" رباعي أي : بيني ، [ ص: 432 ] أو خصت به عائشة ، أو لم يكن الشرط في العقد ، فهذه تأويلات ، وخطبته - عليه السلام - على رءوس الأشهاد أبلغ في النكير وأوكد في التنفير .

وقوله : "قضاء الله أحق" وفي لفظ : "شرط الله أحق" يعني قوله تعالى : فإخوانكم في الدين ومواليكم [الأحزاب : 5] وقوله : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه [الأحزاب : 37] فأثبت الولاء للمعتق .

وفيه : الابتداء بالحمد عند الموعظة .

وفيه : دليل على ابن عباس القائل بأن المكاتب حر بنفس الكتابة ، لانتقال الولاء إلى عائشة ، وعندنا وعند مالك : أنه عبد ما بقي عليه درهم ، وعند ابن مسعود : يعتق بأداء نصف كتابته .

وفيه : أن المسئول لا يجب عليه أن يعطي سائله إذا لم يخف عليه هلكة من موت أو أسر .

وفيه : أن العدة لا تلزم ; لأنه - عليه السلام - لم يلزمها ما شرطت لهم ، ورد ذلك عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية