التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2087 2199 - قال الليث : حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال : لو أن رجلا ابتاع ثمرا قبل أن يبدو صلاحه ، ثم أصابته عاهة ، كان ما أصابه على ربه . أخبرني سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحها ، ولا تبيعوا الثمر بالتمر" . [انظر : 1486 - مسلم: 1534 - فتح: 4 \ 398]


ذكر فيه حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهي . قال : وما تزهي ؟ قال : حتى تحمر . فقال : "أرأيت إذا منع الله الثمرة ، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ " .

وقال الليث : حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال : لو أن رجلا ابتاع ثمرا قبل أن يبدو صلاحه ، ثم أصابته عاهة ، كان ما أصابه على ربه . أخبرني سالم عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحها ، ولا تبيعوا الثمر بالتمر" .

الشرح :

حديث أنس أخرجه مسلم أيضا .

[ ص: 492 ] وقوله : (أرأيت) إلى آخره هو من قول أنس ، وقد جاء صريحا بعده في باب : بيع المخاضرة ; فقلت لأنس : ما زهوها ؟ قال : تحمر وتصفر ، ثم قال : أرأيت إن منع الله الثمرة ، بم تستحل مال أخيك وقد بين ذلك الخطيب في كتاب "المدرج" ، والدارقطني في تتبعه روايات مالك ، وقال عبد الحق : ليس بموصول عنه في كل طريق ، ثم روى بعده عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن لم يثمرها الله ، فبم يستحل أحدكم مال أخيه ؟ " .

ومن أفراد مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح . وفي رواية له "لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق"

وحديث ابن عمر سلف ، وتعليق الليث أسنده مسلم عن أبي الطاهر ، وحرملة عن ابن وهب ، عن يونس ، وذكر الخطيب في كتاب "المدرج" أن أبا الوليد رواه ، عن شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر بزيادة : وكان إذا سئل عن صلاحها قال : حتى تذهب عاهتها . قال الخطيب : وهذه الزيادة من قول ابن عمر ، بين ذلك مسلم بن إبراهيم وغندر في روايتهما هذا الحديث عن شعبة .

[ ص: 493 ] والحديث دليل على أبي حنيفة كما سلف ، وأن حكم الثمار إذا بيعت بعد بدو صلاحها إذا لم يشترط فيها القطع التبقية ، وأن على البائع تركها إلى أوان الجداد ، وأن العرف فيه بمنزلة الشرط .

وفيه : دلالة على استحباب وضع الجائحة ، وأكثر العلماء على أنه استحباب ، وقال مالك : هو إيجاب .

قال ابن بطال : بيع الثمار قبل بدو صلاحها فاسد ; لنهيه - عليه السلام - عنه ومصيبة الجائحة فيه من البائع ; لفساد البيع ، وأنه لم ينتقل ملك البائع عن الثمرة بالعقد ، ولا قبضه المشتري ; لأن القبض لا يكون فيما لم يتم ، وإنما يلبث في ملك البائع ويده فلا شيء على المشتري ، والأصل في وضع الجائحة حديث جابر الذي أسلفناه ، واستدل جماعة من الفقهاء بقوله : (أرأيت إن منع الله الثمرة) على وضعها في التمر يشترى بعد بدو صلاحه شراء فاسدا ، ويقبضه في رءوس النخل ثم تصيبه جائحة .

وذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الجائحة التي توضع عن المشتري الثلث فصاعدا ، ولا يكون ما دون ذلك جائحة . وقال أحمد ، وأبو عبيد ، وجماعة من أهل الحديث : الجائحة ، موضوعة قليلها وكثيرها . وذهب الليث والكوفيون والشافعي إلى أن الجائحة في مال المشتري ، ولا يرجع على البائع بشيء واحتجوا بأن قوله : "أرأيت" إلى آخره إنما ورد في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقا من غير شرط القطع فتلفت بجائحة ، أن مصيبتها من البائع ; لأن البيع كان باطلا ، وإلى هذا المعنى ذهب البخاري في هذا الباب ، والدليل عليه أنه وارد في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قوله : "فبم يستحل أحدكم مال أخيه ؟ "

[ ص: 494 ] وبعد بدو الصلاح يكون البيع صحيحا ، ولا يجوز أن يقال فيه ذلك ; لأنه يستحله بالعقد .

وأجيب بأنه إن استحله بعقد البيع فإن تمام العقد لا يحصل عند المخالف إلا باجتناء الثمرة ، وقبل ذلك المصيبة من البائع ، وليس قبض كل ما يشترى كله على وجه واحد ، ألا ترى أن الرجل يستأجر ظئرا شهرا واحدا ; لإرضاع ولده ، فهو في معنى اللبن الذي لا يستطيع قبضه في موضع واحد ، فلو انقطع اللبن في نصف الشهر لرجع بما يصيبه ، فكذلك الثمرة إذ العادة أن تؤخذ أولا فأولا عند إدراكه وتناهيه ، ولو اشتراه مقطوعا لكانت مصيبته من المشتري ; لأنه يقدر على أخذه كله حالا ، فإن قلت : فقولوا بالجائحة مطلقا ، كما قال به من سلف .

فالجواب : أنها في لسان العرب ، إنما هي فيما كثر دون ما قل ; لأنه لا يقال لمن ذهب درهم من ماله وهو يملك ألوفا : إنه أجيح .

ومن جهة المعقول أن المشتري قد دخل على ذهاب اليسير من الثمرة ; لأنه لا بد أن يسقط منها شيء ، وتلحقه الآفة ، ويأكل الطير وغيره منها فلم يجب على البائع أن يضع عن المشتري ذلك المقدار الذي دخل عليه حتى يكون في حد الكثير ، وأول حد الكثير في الشيء ثلثه فصاعدا بدليل قوله - عليه السلام - لسعد : "الثلث والثلث كثير" فجعل ثلث ماله كثيرا في ماله ، ولهذا قال مالك : إنه يوضع الثلث فصاعدا ; ليكون قد أخذ بالخبر والنظر . وقال يحيى بن سعيد :

[ ص: 495 ] لا جائحة فيما أصيب دون رأس المال ، وذلك سنة المسلمين .

خاتمة : تحصلنا على أن النهي للتحريم عند الجمهور ، وبالتنزيه قال أبو حنيفة ، وإنه إن شرط القطع جاز ; لانتفاء الضرر ، وخالف ابن أبي ليلى والثوري ، ولو شرط تمسكا بعموم الأحاديث ، وهو : خلاف الإجماع كما نقله النووي .

قال القرطبي : ويجوز اشتراط البقاء عند الكافة ، وكذلك له الإبقاء ، وإن لم يصرح باشتراطه عند مالك ، إذ لا يصلح اجتناء الثمرة دفعة واحدة ; لأن تناهي طيبها ليس حاصلا ، وإنما يحصل في أوقات ، وشذ ابن حبيب فقال : هي على الجد حتى يشترط البقاء ، وإذا اشترط القطع ثم لم يقطع فالبيع صحيح ، ويلزم البائع بالقطع ، فإن تراضيا على إبقائه جاز ، وإنما اشترط بدو الصلاح لأمور منها : أن ثمن الثمرة في تلك الحال قليل ، فإذا تركها حتى تصلح زاد ثمنها ، وفي تعجيله القليل نوع تضييع للمال . ومنها : أن يوقع أخاه المسلم في نوع غرر ، ومنها : المخاطرة والتغرير بماله ، ومنها : مخافة التشاجر عند فساد الثمرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية