التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2102 [ ص: 528 ] 98 - باب: إذا اشترى شيئا [لغيره] بغير إذنه فرضي

2215 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خرج ثلاثة يمشون ، فأصابهم المطر ، فدخلوا في غار في جبل ، فانحطت عليهم صخرة . -قال : - فقال بعضهم لبعض : ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه . فقال أحدهم : اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران ، فكنت أخرج فأرعى ، ثم أجيء فأحلب ، فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان ، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي ، فاحتبست ليلة ، فجئت فإذا هما نائمان -قال : - فكرهت أن أوقظهما ، والصبية يتضاغون عند رجلي ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما ، حتى طلع الفجر ، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء . -قال : - ففرج عنهم . وقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء ، فقالت : لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار . فسعيت فيها حتى جمعتها ، فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه . فقمت وتركتها ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة ، -قال : - ففرج عنهم الثلثين . وقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته ، وأبى ذاك أن يأخذ ، فعمدت إلى ذلك الفرق ، فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها ، ثم جاء فقال : يا عبد الله ، أعطني حقي . فقلت : انطلق إلى تلك البقر وراعيها ، فإنها لك . فقال : أتستهزئ بي ؟ . قال : فقلت : ما أستهزئ بك ولكنها لك . اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا . فكشف عنهم" . [2272 ، 2333 ، 3465 ، 5974 - مسلم: 2743 - فتح: 4 \ 408]


[ ص: 529 ] ذكر فيه حديث ابن عمر في الثلاثة الذين سد عليهم الغار مطولا .

وقد أخرجه مسلم أيضا .

وفيه : الإخبار عن متقدمي الأمم وذكر أعمالهم ; لترغب أمته في مثلها ، ولم يكن يتكلم بشيء إلا للفائدة ، وإذا كان مزحه حقا فما ظنك بإخباره ؟ !

وفيه : سؤال الرب جل جلاله بإنجاز وعده قال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [الطلاق : 2] وقال : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [الطلاق : 4] وقوله : "آواهم" وفي رواية : "فأووا" هو : بقصر الهمزة ، ويجوز مدها كما سلف إيضاحه في العلم مع بيان الأشهر فيه ، أي : انضموا إلى الغار وجعلوه مأوى .

وفيه : التوسل بصالح الأعمال .

وفيه : إثبات كرامات الأولياء والصالحين .

وقوله : ("فأجيء بالحلاب") ، يعني : الإناء الذي يحلب فيه . وقيل : اللبن . وقوله في رواية أخرى : لا أغبق : هو الغبوق ، وهو : اسم للشراب المعد للعشي .

وقوله أيضا : ("دأبي ودأبهما") ، أي : شأني وشأنهما .

قال الفراء : أصله من دأبت ، إلا أن العرب حولت معناه إلى الشأن ، يقال : دأب وداب ، وقيل : الدأب الفعل ، وهو : نحو الأول . وقوله [ ص: 530 ] أيضا : (فنأى بي طلب الشجر يوما) من يجعل الهمزة قبل الألف ، ومنهم من يجعلها بعده ، وهما لغتان وقراءتان ، وهو البعد أي : بعد بي طلب الشجر التي ترعاها الإبل .

وقوله أيضا : (لم أرح) ، هو من الرواح ، وهو ما بعد الزوال .

وقوله هنا : (يتضاغون) ، أي : يصيحون من الجوع ويبكون ويشكون ، والضغاء : -ممدود مضموم الأول- صوت الذلة والفاقة .

و (فرجة) : بضم الفاء وفتحها ، وفي الفم مثلثة ، وقال ابن فارس وغيره : الفرجة في الحائط كالشق ، والفرجة : انفراج الكروب .

وقوله : (فافرج) ، قال ابن التين : هو بضم الراء في أكثر الأمهات ، وذكر الجوهري أنه بكسرها .

وقوله : (حتى تعطيها مائة دينار) .

وذكر البخاري بعد هذا أنه دفع إليها عشرين ومائة .

وفيه : فضل الوالدين والصبر على المكروه .

ومعنى : لا تفض الخاتم ، أي : لا تكسره ، وقيل : الفض : التفرق ، والبكر أشبه بالخاتم من الثيب ; لأن الخاتم عذرتها .

ومعنى : "إلا بحقه" بوجه شرعي ، وهو : النكاح .

وفيه : قبول التوبة ، وأن من أصلح فيما بقي غفر له ، وأن من هم بسيئة فتركها ; ابتغاء وجهه كتب له أجرها ، ولمن خاف مقام ربه جنتان .

[ ص: 531 ] فصل :

و (الفرق) : بفتح الراء ، وسكونها وهو ثلاثة آصع ، وقال هنا : "بفرق من ذرة" ، وقال في المزارعة : بفرق أرز .

وفيه : جواز الإجارة بالطعام المعلوم .

وقوله : "فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها" : هو موضع الترجمة ، وبه استدل الحنفية ، وغيرهم ممن يجيز بيع مال الإنسان والتصرف فيه بغير إذنه إذا أجازه المالك بعد .

وموضع الدلالة قوله : "فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا" ، وفي رواية : "فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال" مع أنه شرع من قبلنا ، وهل هو في شرعنا ؟ لنا فيه خلاف مشتهر ، ومشهور مذهب مالك أن له الخيار ، واستدل به أحمد ، كما قاله الخطابي على أن المستودع إذا اتجر في مال الوديعة ، وربح أن الربح إنما يكون لرب المال ، ولا دلالة فيه ; لأن صاحب الفرق إنما تبرع بفعله وتقرب به إلى الله ، وقد [ ص: 532 ] قال : إنه اشترى بقرا ، وهو تصرف منه في أمر لم يوكله به فلا يستحق عليه ربحا . والأشبه بمعناه أنه قد تصدق بهذا المال على الأجير بعد أن اتجر فيه وأنماه .

والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء في المستودع إذا اتجر بمال الوديعة ، والمضارب إذا خالف رب المال فربما أنه ليس لصاحب المال من الربح شيء .

قال ابن التين : وقوله في المضارب غير بين ; لأنه مال ماذون فيه ، فربحه عند مالك لربه ، بخلاف الوديعة ، وعند أبي حنيفة المضارب ضامن لرأس المال ، والربح له ويتصدق به ، والوديعة عليه .

وقال الشافعي : إن كان اشترى السلعة بعين المال فالبيع باطل ، وإن كان بغير عينه فالسلعة ملك المشتري ، وهو ضامن للمال . ومذهب مالك : أن الربح للمودع كيفما اشترى إن اشترى لنفسه ولا دليل عليه من الحديث ; لأنه اشتراه لرب الفرق .

وقال ابن بطال : أجمع الفقهاء أنه لا يلزم شراء الرجل لغيره بغير إذنه إلا حتى يعلمه ويرضى به ، فيلزمه بعد الرضا به إذا أحاط علما به ، واختلف ابن القاسم وأشهب فيما إذا أودع رجل رجلا طعاما فباعه المودع بثمن فرضي المودع ، فقال ابن القاسم : له الخيار ، إن شاء أخذ مثل طعامه من المودع ، وإن شاء أخذ الثمن بالذي باعه به ، وقال أشهب : إن رضي بذلك فلا يجوز ; لأنه طعام بطعام فيه خيار .

وهذا الحديث دل على صحة قول ابن القاسم ; لأن فيه أن الذي كان ترك الأجير فرق ذرة ، وأنه زرعه له الذي بقي عنده حتى صار منه ما ذكر ، [ ص: 533 ] فلو كان خيار صاحب الطعام يحرم عليه ما جاز له أخذ البقر وراعيها ; لأن أصلها كان من ذلك الفرق المزروع له بغير علمه ، وقد رضي - عليه السلام - ذلك ، وأقره وأخبر أن الذي انطبق عليه الغار توسل بذلك إلى ربه ، ونجاه به .

فدل هذا الحديث أنه لم يكن أخذ الأجير لذلك لازما إلا بعد رضاه بذلك لقوله : "أتستهزئ بي ؟ " وإنكاره ما بذل له عوضا من الفرق ; ولذلك عظمت المثوبة في هذه القصة ، وظهرت هذه الآية من أجل تطوع الزارع للفرق بما بذل له ، وأنه فعل أكثر مما كان يلزمه في تأدية ما عليه ، فشكر الله له ذلك .

وقد اختلف العلماء في الطعام المغصوب يزرعه الغاصب ، فذكر ابن المنذر أن قول مالك والكوفيين أن الزرع للغاصب ، وعليه مثل الطعام الذي غصب ; لأن كل من تعدى على كل ما له مثل فليس عليه غير مثل الشيء المتعدى عليه ، غير أن الكوفيين قالوا : إن زيادة الطعام حرام على الغاصب لا يحل له وعليه أن يتصدق به .

وقال أبو ثور : كل ما أخرجت الأرض من الحنطة فهي لصاحب الحنطة وسيأتي اختلافهم فيمن تعدى على نقد فتجر به بغير إذن صاحبه في حديث ابن عمر هذا في الإجارة حيث ذكره .

ولنذكر هنا نبذة منه ، فقالت طائفة : يطيب له الربح إذا رد رأس المال إلى صاحبه سواء كان غاصبا للمال أو كان وديعة عنده ، متعديا فيه ، هذا قول عطاء ومالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي يوسف ، واستحب مالك والثوري والأوزاعي تنزهه عنه ، ويتصدق به .

[ ص: 534 ] وقالت طائفة : يرد المال ويتصدق بالربح ولا يطيب له منه شيء .

هذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر ، وقالت طائفة : الربح لرب المال ، وهو ضامن لما تعدى فيه ، هذا قول ابن عمر وأبي قلابة ، وبه قال أحمد وإسحاق ، ثم ادعى ابن بطال : أن أصح هذه الأقوال أن الربح للغاصب والمتعدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية