التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2107 2220 - حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت أمورا كنت أتحنث -أو أتحنت بها- في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة ، هل لي فيها أجر ؟ قال حكيم رضي الله عنه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أسلمت على ما سلف لك من خير" . [انظر : 1436 - مسلم: 123 - فتح: 4 \ 411]


ثم ساق حديث أبي هريرة في إعطاء الكافر آجر سارة زوجة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .

وحديث عائشة : اختصم سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة في غلام . . . الحديث بطوله . وقد سلف .

وحديث سعد عن أبيه : قال عبد الرحمن بن عوف لصهيب : اتق الله ولا تدع إلى غير أبيك . فقال صهيب : ما يسرني أن لي كذا وكذا ، وأني قلت ذلك ، ولكني سرقت وأنا صبي .

[ ص: 542 ] وحديث حكيم بن حزام : يا رسول الله ، أرأيت أمورا كنت أتحنث -أو أتحنت بها- في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة ، هل لي فيها أجر ؟ قال حكيم : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أسلمت على ما أسلفت من خير" .

الشرح :

التعليق الأول أسنده ابن حبان والحاكم من حديث سماك بن حرب ، عن زيد بن صوحان ، فذكره ، قال الحاكم : حديث صحيح عال في ذكر إسلام سلمان .

وفيه : حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم ، فلما سمعوا كلامي حملوني حتى أتوا بلادهم فباعوني ، فقال - عليه السلام - : "كاتب يا سلمان" وأسنده البزار أيضا من حديث محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، فذكره مطولا . وعند البخاري حدثنا الحسن ، ثنا معتمر ، ثنا أبو عثمان ، عن سلمان أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب ، وسيأتي طرف منه في الفضائل .

وقوله : (وسبي عمار وصهيب وبلال) ، يعني : أنه كان في الجاهلية يسبي بعضهم بعضا ويملكون بذلك ، وروينا عن ابن سعد بإسناده عن حمزة بن صهيب ، عن أبيه قال : إني رجل من العرب من النمر بن قاسط ، ولكن سبيت ، سبتني الروم غلاما صغيرا بعد أن عقلت أهلي [ ص: 543 ] وقومي ، وعرفت نسبي .

ومعنى الآية التي ساقها : أن الله فضل الملاك على مماليكهم ، فجعل المملوك لا يقوى على ملك مع مولاه ، واعلم أن المالك لا يشرك مملوكه فيما عنده .

وهما من بني آدم ، فكيف تجعلون بعض الرزق الذي رزقكم الله وبعضه لأصنامكم ، فتشركون بين الله وبين الأصنام ، وأنتم لا ترضون ذلك مع عبيدكم لأنفسكم ؟ ! نبه عليه ابن التين .

وقال ابن بطال : إنما تضمنت التقريع للمشركين والتوبيخ لهم على تسويتهم عبادة الأصنام بعبادة الرب تعالى ، فنبههم تعالى على أن مماليكهم غير مساوين لهم في أموالهم ، فالله تعالى أولى بإفراد العبادة ، وأن لا يشرك معه أحد من عبيده ، إذ لا مالك على الحقيقة سواه ، ولا يستحق الإلهية غيره .

وقال الضحاك : هو مثل لله ، ولعيسى بن مريم ، أي : أنتم لا تفعلون هذا لغيركم ، فكيف ترضون لي باتخاذ بشر ولدا ؟ ! وقوله : أفبنعمة الله يجحدون [النحل : 71] أي : فبأن أنعم الله عليهم جحدوا النعمة ، وجعلوا ما رزقهم لغيره . وقيل : المعنى : فبأن أنعم الله عليهم بالبراهين جحدوا نعمه .

وغرض البخاري في هذا الباب : إثبات ملك الحربي والمشرك ، وجواز تصرفه في ملكه بالبيع والهبة والعتق وجميع ضروب التصرف ، [ ص: 544 ] إذ أقر الشارع سلمان عند مالكه من الكفار ، فلم يزل ملكه عنه ، وأمره أن يكاتب ، وقد كان حرا ، وأنهم ظلموه وباعوه ، ولم ينقض ذلك ملك مالكه ، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال ، باعوهم مالكوهم الكفار من مسلمين ، واستحقوا أثمانهم ، وصاروا ملكا لهم ، ألا ترى أن إبراهيم قبل هبة الملك الكافر ، وأن عبد بن زمعة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (هذا ابن أمة أبي ، ولد على فراشه) ، فأثبت لأبيه أمة وملكا عليها في الجاهلية ، فلم ينكر ذلك .

وسماعه الخصام في ذلك دليل على تنفيذ عهد المشرك والحكم به أن يحتكم فيه للمسلمين ، ولذلك جوز - عليه السلام - عتق حكيم بن حزام وصدقته في الجاهلية ، ونبه على عتق القرابة بحكم الشارع في قضائه لأحدهما في قصة سعد ، بناء على أن من ملك ذا رحم محرم فهو حر .

فإن قلت : كيف جاز لليهودي ملك سلمان وهو مسلم ، ولا يجوز للكافر ملك مسلم ؟ قلت : أجاب عنه الطبري بأن حكم هذه الشريعة : أن من غلب من أهل الحرب على نفس غيره أو ماله ، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل في الإسلام ، فهو لغالبه ملكا ، وكان سلمان حين غلب على نفسه لم يكن مؤمنا ، وإنما كان إيمانه إيمان تصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث مع إقامته على شريعة عيسى ، فأقره - عليه السلام - مملوكا لمن كان في يده ، إذ كان حكمه - عليه السلام - : أن من أسلم من رقيق المشركين في دار الحرب ولم يخرج مراغما لسيده فهو لسيده ، أو كان سيده من أهل صلح المسلمين فهو مملوك لمالكيه .

[ ص: 545 ] وفيه من الفقه : إباحة المعاريض لقوله : ("إنها أختي") ، وأنها مندوحة عن الكذب .

وفيه : أن أخوة الإسلام أخوة يجب أن ينتمى بها .

وفيه : الرخصة في الانقياد للظالم والغاصب ، وقبول صلة السلطان الظالم ، وقبول هدية المشرك ، وقد ترجم عليه هناك بذلك ، وإجابة الدعاء بإخلاص النية ، وكفاية الرب جل جلاله لمن أخلصها بما يكون نوعا من الآيات ، وزيادة في الإيمان ، ومعونة على التصديق والتسليم والتوكل .

وقوله : ("فغط") أي : صوت في نومه ، يقال منه : غط غطيطا ، ذكره ابن بطال عن "الأفعال" . وقال ابن التين : غط ، أي : خنق ، وصرع : أصابه مس الشيطان . قال : وضبط في بعض الأمهات بفتح الغين ، وصوابه : ضمها ، وكذلك هو في بعض الكتب .

وقوله : ("ركض برجله") أي : ضرب بها .

ومعنى : "كبت الكافر" صرعه لوجهه ، وكبت الله العدو -أيضا- رده خائبا ، وقيل : أذله وأخزاه ، وقيل : أصله كبد أي : بلغ الهم كبده ، فأبدل من الدال تاء ، وقيل : معناه : ضربه وأذله ، والمعاني متقاربة .

يقال : إن الله كشف لإبراهيم حتى رأى ذلك معاينة ، وأنه لم ينل منها شيئا لما كان عليه من الغيرة .

وفيه : ابتلاء الصالحين : لرفع درجاتهم .

ومعنى : ("أخدم") أعطى خادما .

[ ص: 546 ] تنبيهات :

أحدها : أسلم بلال وسيده كافر وهو بدار الحرب ، فثبت ولاؤه عند مالك وابن القاسم للصديق ، وقال أشهب : هو حر بنفس إسلامه ، فلا ولاء لأبي بكر فيه . وعمار هو : ابن ياسر أبو اليقظان مولى بني مخزوم ، قتل بصفين وهو ابن ثلاث وتسعين ، وصهيب : هو ابن سنان أبو يحيى مولى ابن جدعان القرشي .

ثانيها : (آجر) بهمزة ممدودة ، وقلبت هاء فصارت : هاجر ، وأصل المادة : الترك ، وكانت من حفن من كورة أنصنا . و (القرية) جمعها قرى ، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها ، من قريت الماء في الحوض أي : جمعته .

قال الداودي : يقع على المدن الصغار والكبار .

وقوله : "من هذه ؟ قال : أختي" يريد في الإسلام ، وهي من المعاريض ، وفر من زوجتي بذلك ; لأن الزوج قد يدفع بالقتل بخلاف الأخ .

وقال الداودي : فعله خوفا من تغلبه عليها . وسيأتي زيادة على ذلك .

وفيه : أن من قال لزوجته : أختي ، ولم ينو شيئا لا يكون طلاقا ، وكذا لو قال : مثل أختي لا يكون ظهارا ، وفيه : هدية المشرك للمسلم .

وفيه : مستند لمن يقول : إن طلاق المكره لا يقع ، وليس ببين .

وقولها : ("وأحصنت") أي : عففت ، وقال الداودي : أعففت ، ولا يعرف هذا الفعل رباعيا ، وإنما هو ثلاثي .

قولها : ("إن يمت يقال : هي قتلته") فيه خوف سارة أن ينسب إليها قتله .

[ ص: 547 ] وفيه : أخذ الحذر مع الإيمان بالقدر .

وقوله : ("ما أرسلتم إلي إلا شيطانا") أي : لأجل الحيلولة التي وقعت بينهما حال دونها إخوانها من الشياطين ، وجاء في بعض الروايات لما قبضت يده عنها قال لها : "ادعي لي" فقال ذلك لئلا تحدث بما ظهر من كرامتها ، فيعظم في نفوس الناس وتتبع ، فلبس على السامع فذكر الشيطان .

وقول ابن عوف لصهيب : (اتق الله ولا تدع إلى غير أبيك) ، أراد عبد الرحمن أن يدعوه لأبيه إن عرفه ، ولم ينسب إلى الروم : لقوله : ادعوهم لآبائهم [الأحزاب : 5] فذكر صهيب أنه لا يعرف أباه ، وانتسب إلى مواليه .

وحديث حكيم سلف في الزكاة .

وقوله هنا : (كنت أتحنت -أو أتحنث- بها في الجاهلية) كذا في الأولى بالمثناة . قال عياض : وهو غلط من جهة المعنى ، وأما الرواية فصحيحة ، والوهم فيه من شيوخ البخاري بدليل (أو أتحنث) بعده على الشك ، والذي رواه الكافة بالمثلثة ، وكذا قال ابن التين : ضبط في الأول بالمثناة ، وصوابه بالمثلثة كما في الثاني ، أي : أتعبد ، ولم يذكره أحد من أهل اللغة بالمثناة كما في حديث الوحي : كان يأتي حراء فيتحنث فيه . أي : يتعبد ، وقال أبو العباس : أي : يفعل فعلا يخرج به من الحنث ، كتأثم وتحرج ، زاد القزاز : وتحوب أي : ألقى [ ص: 548 ] الحوب ، وهو : الإثم والذنب ، ويحتمل على تقدير الصحة أن يكون أصلها من الحانوت أو الحانة .

قال ابن الأثير : كانت العرب تسمي بيوت الخمارين : الحوانيت ، والحانة مثله ، فعلى هذا التقدير : أتحنث : أتجنب مواضع الخمارين والحانة .

وفيه : أنهم كانوا في الجاهلية على بقية من دين إبراهيم ، وأنهم كانوا يصنعون شيئا يريدون به وجه الله .

وأن ما أصابوا به من ذلك ثم أسلموا كتب لهم ; لأنه لا يضيع عمل عامل كمن أحبط من ارتد بعد الإسلام .

رابعها : ذكر ابن قتيبة في "معارفه" ، أن القرية : الأردن ، والملك : (صاروق) ، وكانت هاجر لملك من ملوك القبط . وعند الطبري : كانت امرأة ملك من ملوك مصر ، فلما قتله أهل عين شمس احتملوها معهم ، وزعم أن الملك الذي أراد سارة اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك .

وذكر السهيلي في "روضه" أن سارة هي : بنت توبيل بن ناحور . وقيل : بنت هاران بن ناحور ، وقيل : بنت هاران بن تارخ ، وهي : بنت أخيه على هذا ، وأخت لوط ، قاله القتبي في "المعارف" ، [ ص: 549 ] والنقاش في "تفسيره" ، قال : وذلك أن نكاح بنت الأخ كان حلالا ; إذ ذاك ثم إن النقاش ناقض ذلك ، وقال في تفسير قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا [الشورى : 13] أنه يدل على تحريم بنت الأخ على لسان نوح .

قال السهيلي : وهذا هو الحق ، وإنما توهموا أنها بنت أخيه ; لأن هاران أخوه ، وهو هاران الأصغر وكانت بنت هاران الأكبر وهو عمه .

وذكر أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتابه "التيجان" : أن إبراهيم - عليه السلام - خرج من مدين إلى مصر ، وكان معه من المؤمنين ثلاثمائة وعشرون رجلا ومصر ملكها عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبأ ، وكان خال إبراهيم لشدة إعجابه به فوشى به حناط كان إبراهيم يمتار منه ، فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ، ثم نحى إبراهيم وقام إلى سارة ، فلما صار إبراهيم خارج القصر جعله الله له كالقارورة الصافية ، فرأى الملك وسارة وسمع كلامهما ، فهم عمرو بسارة ومد يده إليها فيبست ، فمد الأخرى فكذلك ، فلما رأى ذلك كف عنها . قال : يا سارة هكذا نصيب الرجال معك ؟ قالت : أنا ممنوعة من الخلق إلا من بعلي إبراهيم فأمر بدخوله ، فقال : لا تحدث يا إبراهيم نفسك بشيء ، فقال : أيها الملك إن الله -عز وجل- جعل قصرك لي كالقارورة فما خفي علي شيء مما فعلت فقال الملك : لكما شأن عظيم يا إبراهيم . قال ابن هشام : وكان الحناط أخبر الملك بأنه رآها تطحن ، فقال الملك : يا إبراهيم ما ينبغي لهذه أن تخدم نفسها فأمر له بهاجر .

خامسها : وقد أسلفت الإشارة إليه .

[ ص: 550 ] قال ابن الجوزي : على هذا الحديث إشكال ما زال يختلج في صدري ، وهو أن يقال ما معنى توريته - عليه السلام - على الزوجة بالأخت ، ومعلوم أن ذكرها بالزوجية أسلم لها ; لأنه إذا قال : هذه أختي ، قال زوجنيها ، وإذا قال : هذه امرأتي سكت هذا إن كان الملك يعمل بالشرع ، فأما إذا كان كما وصف من جوره فما يبالي أكانت زوجة أو أختا إلى أن وقع لي أن القوم كانوا على دين المجوس ، وفي دينهم أن الأخت إذا كانت زوجة كان أخوها الذي هو زوجها أحق بها من غيره ، فكأن إبراهيم أراد أن يستعصم من الجبار بذكر الشرع الذي يستعمله ، فإذا هو جبار لا يراعي جانب دينه .

قال : واعترض على هذا بأن الذي جاء بمذهب المجوس زرادشت ، وهو متأخر عن هذا الزمن .

والجواب : أن لمذهب القوم أصلا قديما ادعاه زرادشت ، وزاد عليه خرافات أخر ، وقد كان نكاح الأخوات جائزا من زمن آدم ، ويقال : إن حرمته كانت على لسان موسى ، قال : ويدل على أن دين المجوس له أصل ما رواه أبو داود أنه - عليه السلام - أخذ الجزية من مجوس هجر ، ومعلوم أن الجزية لا تؤخذ إلا ممن له كتاب أو شبهة كتاب ، ثم سألت عن هذا بعض علماء أهل الكتاب فقال : كان من مذهب القوم : أن من له زوجة لا يجوز أن تتزوج إلى أن يهلك زوجها ، فلما [ ص: 551 ] علم إبراهيم هذا قال : هي أختي كأنه قال : إن كان الملك عادلا فخطبها مني أمكنني دفعه ، وإن كان ظالما تخلصت من القتل ، وقيل : إن النفوس تأبى أن يتزوج الإنسان بامرأة وزوجها موجود ، فعدل عن قوله : زوجتي ; لأنه يؤدي إلى قتله ، أو طرده عنها ، أو تكلفه لفراقها .

وقيل : إن ذلك الجبار كان من سيرته أنه لا يغلب الأخ على أخته ولا يظلمه فيها ، وكان يغلب الزوج على زوجته ، وعلى هذا يدل مساق الحديث حكاه القرطبي ، قال : وإلا فما الفرق بينهما في حق جبار ظالم ؟ وهذا من باب : المعاريض الجائزة ، كما سلف والحيل من التخلص من الظلمة ، بل نقول : إنه إذا لم يتخلص رجل من الظلمة إلا بالكذب الصراح جاز له أن يكذب ، وقد يجب في بعض الصور بالاتفاق ; لكونه ينجي نبيا أو وليا ممن يريد قتله ، أو نجاة المسلمين من عدوهم .

سادسها : قوله : (قال الأعرج : قال أبو سلمة : قال أبو هريرة : فقالت : ) إلى آخره ، هو موقوف ظاهر ، أو كذا ذكره أصحاب الأطراف ، وكأن أبا الزناد روى القطعة الأولى مسندة ، وهذه موقوفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية