التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2120 [ ص: 601 ] 111 - باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها ؟

ولم ير الحسن بأسا أن يقبلها أو يباشرها . وقال ابن عمر : إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو عتقت فليستبرأ رحمها بحيضة ، ولا تستبرأ العذراء . وقال عطاء : لا بأس أن يصيب من جاريته الحامل ما دون الفرج . وقال الله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [المؤمنون : 6] .

2235 - حدثنا عبد الغفار بن داود ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب -وقد قتل زوجها وكانت عروسا- فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ، فخرج بها حتى بلغنا سد الروحاء حلت ، فبنى بها ، ثم صنع حيسا في نطع صغير ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آذن من حولك" . فكانت تلك وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية ، ثم خرجنا إلى المدينة ، قال : فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحوي لها وراءه بعباءة ، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته ، فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب . [انظر : 371 - مسلم: 1365 - فتح : 4 \ 424]


ثم ساق حديث أنس قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب -وقد قتل زوجها وكانت عروسا- فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ، فخرج بها حتى بلغنا سد الروحاء حلت ، فبنى بها . . . الحديث .

الشرح :

التعليق الأول رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية قال : سئل يونس عن الرجل يشتري الأمة يستبرئها يصيب منها القبلة والمباشرة ، فقال ابن [ ص: 602 ] سيرين : يكره ذلك . ويذكر عن الحسن أنه كان لا يرى بالقبلة بأسا ، وعن عكرمة في الرجل يشتري الجارية الصغيرة ، وهي أصغر من ذلك قال : لا بأس أن يمسها قبل أن يستبرئها . وقال إياس بن معاوية في رجل اشترى جارية صغيرة لا يجامع مثلها قال : لا بأس أن يطأها ، ولا يستبرئها . وكره قتادة تقبيلها حتى يستبرئها . وقال أيوب اللخمي : وقعت في سهم ابن عمر جارية يوم جلولاء ، فما ملك نفسه أن جعل يقبلها .

قال ابن بطال : ثبت هذا عنه .

وأثر ابن عمر رواه أيضا ابن أبي شيبة عن عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إن اشترى أمة عذراء فلا يستبرئها . قال ابن التين : وهذا خلاف ما يقوله مالك .

قلت : والشافعي ، وقيل : تستبرأ استحبابا .

وعتقت ، بفتح العين : هو الصحيح ، وروي بضمها ، وليس بشيء .

وعن ابن سيرين في الرجل يشتري الأمة العذراء قال : لا يقربن ما دون رحمها حتى يستبرئها .

وعن الحسن وإن كانت بكرا ، وكذا قاله عكرمة . وقال عطاء في رجل اشترى جارية من أبويها عذراء : يستبرئها بحيضتين .

[ ص: 603 ] ومذهب جماعة منهم ابن القاسم وسالم والليث وأبو يوسف : لا استبراء إلا على البالغة ، وكان أبو يوسف لا يرى استبراء العذراء وإن كانت بالغة ، وذكره ابن الجوزي عنه . وأثر عطاء لا يحضرني ، قال ابن التين إن أراد الحامل من سيدها فهو فاسد ، وإن أراد غيره وهي مسبية أو زانية فسيأتي إذا لم يكن العمل من زوجها .

وفي "مصنف ابن أبي شيبة" : سئل ابن عباس عن رجل اشترى جارية وهي حامل أيطؤها ؟

قال : لا ، ونهى عنه أبو موسى الأشعري وناجية بن كعب ، وسعيد بن المسيب ، وفيه أحاديث تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى ، وحديث أنس يأتي أيضا .

إذا تقرر ذلك : فالحديث دال على أن الاستبراء أمانة ، يؤتمن المبتاع عليها بأن لا يطأها حتى تحيض حيضة إن لم تكن حاملا ، فإنه - عليه السلام - جعل رداءه على صفية ، وأمرها أن تحتجب بالجعرانة حين صارت في سهمه ، ومعلوم أن من سنته أن الحائل لا توطأ حتى تحيض حيضة ، خشية الحمل ، وأن الحامل لا توطأ حتى تضع ; لئلا يسقي ماؤه زرع غيره ، فلما كان أمانة ارتفعت فيه الحكومة .

وفيه حجة لمن يوجب المواضعة على البائع ، وهو قول جماعة فقهاء [ ص: 604 ] الأمصار ، غير ربيعة ومالك ، فإنهما أوجبا المواضعة في الجواري المرتفعات المتخذات للوطء خاصة . قال مالك في "المدونة" : أكره ترك المواضعة وائتمان المبتاع على الاستبراء ، فإن فعلا أجزأهما ، وهي من البائع حتى تدخل في أول دمها ، وإنما قال مالك بها خشية أن يتذرع المشتري إلى المواضعة قبل الاستبراء ; حياطة على الفروج ; وحفظا للأنساب ; ولقوله - عليه السلام - : "لا توطأ حائل حتى تحيض" .

واحتج من لم ير المواضعة بأن عطاء بن أبي رباح قال : ما سمعنا بها قط . وقال محمد بن عبد الحكم : أول من قال بها ربيعة .

وقال الطحاوي : الدليل على أنها غير واجبة أن العقد إنما يوجب تسليم البدلين ، وقد وافقنا مالك على أن غير المرتفعات من الجواري لا يجب فيهن استبراء ، فوجب أن يكون كذلك حكم المرتفعات .

وأجمع الفقهاء على أن حيضة واحدة براءة في الرحم ، إلا أن مالكا والليث قالا : إن اشتراها في أول حيضها اعتد بها ، وإن كان في آخرها لم يعتد بها . وقال ابن المسيب : حيضتان .

وقال ابن سيرين ثلاث .

واختلف إذا أمن فيها العمل ، فقال مالك : تستبرأ .

[ ص: 605 ] وقال مطرف وابن الماجشون : لا .

واختلفوا في قبلة الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء ، فأجاز ذلك الحسن البصري وعكرمة ، وبه قال أبو ثور ، وقد أسلفنا فعل ابن عمر فيه ، وكرهه ابن سيرين ، وهو قول مالك والليث وأبي حنيفة والشافعي ، ووجهه قطعا للذريعة وحفظا للأنساب .

وحجة من أجاز الآية التي ذكرها البخاري وهي خرجت مخرج العموم أريد بها الخصوص ، فقد يملك ذات محرم منه ، أو يطلقها بائنا ، أو تكون محرمة ، أو حائضا .

وقوله - عليه السلام - : "ألا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض" فدل هذا أن ما دون الوطء من المباشرة والقبلة في حيز المباح . وسفره - عليه السلام - بصفية قبل أن يستبرئها حجة في ذلك ; لكونه لو لم يحل له من مباشرتها ما دون الجماع لم يسافر بها معه ; لأنه لا بد أن يرفعها أو ينزلها ، وكان - عليه السلام - لا يمس بيده امرأة لا تحل له ، ومن هذا اختلافهم في مباشرة المظاهرة ، وقبلته لامرأته التي ظاهر منها ، فذهب [ ص: 606 ] الزهري والنخعي ومالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يقبل امرأته ، ولا يتلذذ منها بشيء ، وقال الحسن البصري : لا بأس أن ينال منها ما دون الجماع ، وهو قول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وكذلك فسر عطاء وقتادة والزهري .

وقوله : من قبل أن يتماسا [المجادلة : 3] لعله عني بالمس : الجماع في هذه الآية .

واختلفوا في استبراء العذراء فقال ابن عمر : لا تستبرأ -كما سبق- وبه قال أبو ثور ، وقال سائر الفقهاء تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن يحيض ويوطأ مثلها . وقال ابن الماجشون : إن كانت صغيرة

أو ممن انقطع حيضها فلا تستبرأ .

تنبيهات :

أحدها : قال الداودي : قول الحسن السالف إن كان في المسبية فصواب ; لأنه لم يبق فيها ملك لأحد ، قال ابن التين : وهذا غير بين بل يمنع ذلك جملة : قال : كنا نمتع أي : يلتذ بأمته إذا زنت وحملت ، وقول ابن عمر السالف . هو قول مالك وأصحابه إذا كانت ممن يوطأ ويحمل .

ثانيها : غزوة خيبر سنة ست ، وقيل : سبع ، وقدمه ابن التين على [ ص: 607 ] الأول ، فقال : كانت سنة سبع ، وقال مالك : سنة ست . ومعنى اصطفاها : أي : أخذها صفيا ، والصفي : سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المغنم ، كان يأخذه من الأصل قبل القسمة ، جارية أو سلاحا . وقيل : إنما سميت صفية لذلك ; لأنها كانت صفية من غنيمة خيبر ، وزوجها المقتول هو كنانة بن أبي الحقيق ، فرأت في المنام قمرا أقبل من يثرب ، ووقع في حجرها ، فقصت ذلك عليه ، فلطم وجهها وقال : أنت تزعمين أن ملك يثرب يتزوجك .

وفي لفظ : تحبين أن يكون هذا الملك الذي يأتي من المدينة زوجك .

وفي لفظ : رأيت كأني وهذا الملك الذي يزعم أن الله أرسله وملك يسترنا بجناحه .

والعروس : نعت يستوي فيه المذكر والمؤنث ما داما في تعريسهما أياما ، وأحسن ما في ذلك أن يقال : الرجل معرس . وعن الخليل : رجل عروس ، وامرأة عروس ، وشاعر أنيس ، ذكره ابن فارس .

وقوله : (فخرجنا بها حتى بلغنا سد الروحاء حلت) فيه دلالة لفقهاء الأمصار أن الاستبراء بحيضة ، وليس في هذه المدة ما تحيض فيه أكثر من حيضة .

والروحاء : منزل بقرب المدينة والحيس : أخلاط من تمر وسمن

[ ص: 608 ] وأقط ، وفي لفظ : التمر والسويق ، وقيل : من تمر وسمن . ذكره الداودي .

وفيه : أن الوليمة بعد البناء .

والنطع : بكسر النون وفتح الطاء على الأفصح ، وقال ابن التين : يقال : نطع -بسكون الطاء وفتحها- جلود تدبغ ويجمع بعضها على بعض وتفرش .

ومعنى : "آذن من حولك" أي : أعلمه ; لإشهار النكاح .

وقوله : (يحوي) . ضبطه بالتخفيف ثلاثيا في رواية أبي الحسن ، وبالتشديد في رواية أبي ذر وهو أن يوطئ لها بالعباءة حول سنام البعير وهو عند أهل اللغة بالتشديد -كما عند أبي ذر ، ذكره كله ابن التين . والعباءة ممدودة والعباء أيضا : ضرب من الأكسية ، وفي "سيرة ابن إسحاق" لما أتى بها بلال أمر - عليه السلام - فحيزت خلفه وغطى عليها ثوبه ، فعرف الناس أنه قد اصطفاها لنفسه .

ثالثها : قوله : (فيضع ركبته ، فتضع صفية رجلها على ركبته) هو من المعاشرة بالمعروف . وفي كتاب الواقدي : كانت تعظم أن تضع رجلها على ركبته ، وكانت تضع ركبتها على ركبته ، قال : وفحصت الأرض أفاحيص ، وجيء بالأنطاع ، فوضعت فيها ، ثم جيء بالأقط والسمن فشبع الناس . وحيي والدها ، قال الدارقطني : المحدثون يقولون بكسر الحاء المهملة ، وأهل اللغة بضمها .

و (صفية) : من سبط هارون - عليه السلام - ، كانت عند سلام بن مشكم ، وكان خمارا في الجاهلية ، وسلام بتخفيف اللام ، وفيه يقول أبو سفيان بن حرب :

[ ص: 609 ]

سقاني فرواني كميتا مدامة على ظمأ مني سلام بن مشكم



وقيل بالتشديد وخفف ضرورة ، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق .

قال الجاحظ في كتاب "الموالي" : ولد صفية مائة نبي ومائة ملك ، ثم صيرها الله تعالى أمة لرسوله . وذكره القاضي أبو عمر محمد بن أحمد النوقاتي في كتاب "المحنة" أنه - عليه السلام - لما أراد البناء بصفية استأذنته عائشة أن تكون في المنتقبات ، فقال : "يا عائشة إنك إن رأيتها اقشعر جلدك من حسنها" فلما رأتها حصل لها ذلك .

وقال ابن سعد : الحصن التي كانت فيه اسمه القموص ، سباها منه هي وابنة عم لها ، فعرض عليها رسوله أن يعتقها إن اختارت الله ورسوله ، فقالت : أختارهما ، وأسلمت ، فأعتقها وتزوجها ، وجعل عتقها مهرها ، ورأى بوجهها أثر خضرة قريبا من عينها ، فقال : "ما هذا" ؟ فذكرت المنام السالف ، فلما صار إلى منزل يقال له : ثبار على ستة أميال من خيبر ، قال : يريد أن يعرس بها ، فأبت عليه ، فوجد في نفسه من ذلك ، فقالت : خفت عليك قرب يهود . فلما كان [ ص: 610 ] بالصهباء على بريد من خيبر عرس بها .

رابعها : كما رأت صفية في منامها سيد الأنام رآه غير واحدة من أزواجه ، روى الحاكم في كتاب "الإكليل" : أن جويرية رأت في المنام كما رأت صفية قبل تزوجها به ، ولابن سعد : قالت أم حبيبة : رأيت في النوم كأن آتيا يقول : يا أم المؤمنين . ففزعت وأولته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني . وعن ابن عباس : رأت سودة في المنام كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يمشي حتى وطئ على عنقها ، فقال زوجها : لئن صدقت رؤياك لتتزوجين . ثم رأت ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة ، فأخبرت زوجها السكران ، فقال : لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيرا حتى أموت وتتزوجين بعدي ، فاشتكى من يومه ذلك ، ولم يلبث إلا قليلا حتى مات

خامسها : حديث اصطفائه صفية يعارضه في الظاهر حديث أنس أنها صارت لدحية ، فأخذها منه وأعطاه سبعة أرؤس ، ويروى أنه أعطاه بنتي عمها عوضا منها ، ويروى أنه قال له : "خذ رأسا آخر مكانها" ولا معارضة -كما نبه عليه السهيلي- فإنما أخذها من دحية قبل القسمة ، وما عوضه فيها ليس على جهة البيع ، ولكن على جهة النفل أو الهبة ، غير أن بعض رواة الحديث في "الصحيح" يقولون فيه : إنه اشترى صفية من دحية وبعضهم يزيد فيه بعد القسم ، فالله تعالى أعلم أي ذلك كان . وهذا [ ص: 611 ] الآخر هو الذي أراد به البخاري في الباب الذي سلف : بيع العبد والحيوان به ، وأورده فيه كان تركه لها عنده ، وأخذه جارية من السبي غير معينة بيعا لها بجارية نسيئة ، حتى يأخذها ويستحسنها ، فحينئذ تتعين له ، وليس يدا بيد .

سادسها : الإمام إذا نفل ما لم يعلم مقداره له استرجاعه والتعويض عنه ، وليس له أن يأخذه بغير عوض ، ذكره المنذري في "حواشيه" ، قال : وإعطاء دحية كان برضاه ، فيكون معاوضة جارية بجارية ، فإن قلت : الواهب منهي عن شراء هبته ؟ قلنا : لم يهبه من مال نفسه ، إنما أعطاه من مال الله على جهة النظر ، كما يعطي الإمام النفل لأحد أهل الجيش نظرا ، وقيل : إنما يكون قصد إعطاء جارية من حشو السبي ، فلما أطلع أن هذه من خياره ، وأن ليس يمكن إعطاء مثلها لمثله ، لأنه قد يؤدي ذلك إلى المفسدة ، فلذلك ارتجعها ; لأنه خلاف ما أراد أن يعطيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية