التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2139 [ ص: 16 ] 2 - باب: عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع

وقال الحكم : إذا أذن له قبل البيع فلا شفعة له. وقال الشعبي : من بيعت شفعته وهو شاهد لا يغيرها فلا شفعة له.

2258 - حدثنا المكي بن إبراهيم، أخبرنا ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع - مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك. فقال سعد: والله ما أبتاعهما. فقال المسور: والله لتبتاعنهما. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة - أو مقطعة -. قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الجار أحق بسقبه". ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار. فأعطاها إياه. [6977، 6178، 6980، 6981 - فتح: 4 \ 437]
ثم ساق حديث عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص ... الحديث. وذكر عرض أبي رافع بيته عليه. وقال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الجار أحق بسقبه" ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار فأعطاها إياه.

الشرح:

تعليق الحكم رواه وكيع، عن سفيان، عن أشعث عنه: إذا أذن الشفيع للمشتري في الشراء فلا شفعة له. [ ص: 17 ]

وأثر الشعبي رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، ثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي به. وفيه لا ينكر بدل: يغير.

وحديث أبي رافع من أفراده، ويأتي في الحيل أيضا.

إذا تقرر ذلك فعرض الشفعة على الشريك قبل البيع فأبى إليه كما فعل أبو رافع، ألا ترى أنه حط من ثمن البيتين كثيرا، رغبة في العمل بالسنة.

وفيه: ما كانوا عليه من الحرص على موافقة السنن والعمل بها، والسماحة بأموالهم في جنب ذلك، فإن عرض عليه الشفعة وأذن له الشريك في بيع نصيبه، ثم رجع فطالبه بالشفعة، فقالت طائفة: لا شفعة له، هذا قول الحكم، والثوري، وأبي عبيد وطائفة من أهل الحديث، واحتجوا بحديث جابر الذي أسلفناه هناك: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وهو دال على أن تركه تنقطع به شفعته، ومحال أن يقول - صلى الله عليه وسلم - إن شاء أخذ وإن شاء ترك ! ! فإذا ترك لا يكون لتركه معنى.

وقالت طائفة: إن عرض عليه الأخذ بالشفعة قبل البيع فأبى أن يأخذ، ثم باع فأراد أن يأخذ بشفعته، فذلك له، هذا قول مالك والكوفيين، ورواية عن أحمد، ويشبه مذهب الشافعي، كما ذكره ابن بطال، وهو مذهبه، وحكي أيضا عن عثمان البتي، وابن أبي ليلى .

واحتج أحمد وقال: لا تجب له الشفعة حتى يقع البيع، فإن شاء [ ص: 18 ] أخذ، وإن شاء ترك. واحتج بمثله ابن أبي ليلى .

واختلفوا في المسألة التي ذكرها الشعبي في الباب، فقال مالك: إذا باع المشتري نصيبه من أجنبي وشريكه حاضر يعلم بيعه، فله المطالبة بالشفعة متى شاء، ولا تنقطع شفعته إلا بمضي مدة يعلم أنه في مثلها تارك.

واختلف في المدة، فقيل: سنة، وقيل: فوقها، وقيل: فوق ثلاث، وقيل: فوق خمس، حكاها ابن الحاجب.

وقال أبو حنيفة : إذا وقع البيع فعلم الشفيع به، فإن أشهد مكانه أنه على شفعته وإلا بطلت شفعته، وبه قال الشافعي . قال: إلا أن يكون له عذر مانع من طلبها، من حبس أو غيره فهو على شفعته.

حجة أبي حنيفة بأن سكوته رضا بإسقاط حقه، قياسا على خيار البكر أنه على الفور. حجة مالك القياس على عتق الأمة تحت عبد عنده.

واستدل أهل العراق على شفعة الجوار بحديث الباب، غير أنهم جعلوا الشريك في المنزل أحق بها من الجار، فإن سلم الشفعة الشريك في الدار فالجار الملاصق أحق بها من غيره، فإن كان بينهما طريق نافذ فلا حق له فيها، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وتعلقوا بلفظ: "الجار أحق بسقبه"، وقالوا: لا يراد به الشريك؛ لأن الجار لا يقع إلا على غير الشريك، وزعموا أنه لا يوجد في اللغة أن الشريك يسمى جارا، فخالفوا نص الحديث وتركوا أوله؛ لتأويل تأولوه في آخره، أما مخالفتهم نصه فهو أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين في داره؛ ولذلك دعاه إلى الشراء بأقل مما أعطاه غيره ممن ليس بشريك. [ ص: 19 ]

وفيه: أن أبا رافع سمى شريكه جارا حين صرف معنى الحديث إلى الشريك، وهو راويه وأعلم بمعناه، ولو كان المراد غيره كما زعمأهل العراق ما سلم سعد لأبي رافع احتجاجه بالحديث، ولا استدلاله به، ولقال له سعد : ليس معناه كما تأولته، وإنما الجار المراد به غير الشريك، فلما لم يرد عليه تأويله، ولا أنكره المسور وهم الفصحاء وأهل اللسان المرجوع إليهم على أن معنى الحديث ما تأوله أبو رافع، وأن الجار فيه يراد به الشريك، وأما بيع أبي رافع من سعد بأقل مما أعطاه غيره فهو من باب الإحسان بالإجماع، وكل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار في لسان العرب؛ ولذلك قالوا لامرأة الرجل:

جارة: لما بينهما من الاختلاط بالزوجية.

وقد جاء في حديث دية الجنين: أن حمل بن مالك قال: كنت بين جارتين لي - يريد امرأتيه - ومنه قول الأعشى لامرأته:


أجارتنا بيني فإنك طالقة

.

فكذلك الشريك يسمى جارا؛ لما بينهما من الاختلاط بالشركة.

وتأويل الحديث عند أهل الحجاز على وجهين:

أحدهما: أن يراد به الشريك، ويكون حقه الأخذ بالشفعة دون غيره، وهو الأولى لما تقرر.

ثانيهما: يحتمل أن يراد به الجار غير الشريك، ويكون حقه غير الشفعة، فيكون جارا لرحبة يريد الارتفاق بها، ويريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحق بصقبه، فإن لم يكن هذا فيكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعض من حق الجوار، ومما للأجنبين من الكرامة والبر، وسائر الحقوق التي إذا اجتمع فيها الجار ومن ليس [ ص: 20 ] بجار وجب إيثار الجار على من ليس بجار، من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا من طريق الفرض اللازم، فقد أوصى الرب جل جلاله بالجار فقال: والجار ذي القربى والجار الجنب [النساء: 36] وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وهذا الاحتمال ذكره ابن المنذر عن الشافعي وإذا احتمل هذا كله الحديث المجمل، ثم فسره حديث آخر بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" كان المفسر أولى من المجمل.

تنبيهات:

أحدها: الصقب، بفتح الصاد والقاف، وهو بالصاد أكثر من السين كما قاله في "الجامع"، وهو: القرب، يقال: قد أصقب فلان فلانا إذا قربه منه، فهو يصقبه وقد تصاقبا إذا تقاربا، قال ابن دريد : سقبت الدار سقوبا، وأسقبت لغتان فصيحتان: قربت. وأبياتهم متساقبة. أي: متدانية.

وقال ابن الأنباري في "زاهره": الصقب: الملاصقة. كأنه أراد ما يليه ويقرب منه، وفي "الغريبين" أراد بالجار الملاصق من غير شركة.

وفيه حديث علي: إذا وجد قتيل بين قريتين حمل على أصقبهما إليه.

ثانيها: قال ابن التين : قول الحكم قال به سفيان، وخالفهما مالك وقال: لا يلزم إذنه بذلك واستقرأ بعضهم إلزامه قياسا على قوله: إن اشتريت عبد فلان فهو حر، أو تزوجت فلانة فهي طالق. قال: وهو [ ص: 21 ] في الشفعة أبين؛ لأنه لولا ذلك لم يشتر. قال: وقول الشعبي هو قول أبي حنيفة والشافعي وابن وهب، وقال مالك: هو على شفعته وإن جاوز السنة والسنة؛ لحديث قاله في "المدونة". وقد سلف الخلاف فيه في الباب وعن مالك: هو على حقه أبدا ما لم يوقف.

ثالثها: قوله: (أحد منكبي) كذا بخط الدمياطي وذكره ابن التين بلفظ: إحدى. ثم قال: هكذا: إحدى، مؤنثا. وأنكره بعضهم، وقال: المنكب: مذكر، والمنكب مجتمع ما بين العضد والكتف. ونبه ابن التين - أيضا - أن بيع أبي رافع بدون ما أعطي من باب الإشفاق دون اللزوم، وكذا تأويله في السقب لأجل الجوار.

قال الخطابي : وفيه: دليل على أن الشفعة ثابتة في الطرق كهي في البناء إذا كانت واسعة تحتمل القسمة، وقد أضاف البائع بيته إلى داره في قوله لسعد: (ابتع مني بيتي في دارك). وطريقهما لا محالة شائعة في العرصة وهي جزء من الدار، ولذلك استحق به الشفعة.

وعن أحمد روايتان فيما حكاه ابن الجوزي في الطرق والعرصة، هل يجب فيهما الشفعة بانفرادهما؟ رابعها: ذهب ابن حزم إلى الأخذ بالشفعة متى شاء ولو بعد ثمانين سنة أو أكثر أو تلفظ بالترك، وعن أبي حنيفة : ثلاثة أيام، وبه يقول البتي، وابن شبرمة، والأوزاعي، وقال عبيد الله بن الحسن : لا يمهل إلا ساعة واحدة، وعن الشعبي : يوم واحد، وعن عمر بن عبد العزيز : بضع عشرة سنة. [ ص: 22 ]

قال ابن عبد البر : قضى عمر بن عبد العزيز بالشفعة بعد أربع عشرة سنة - يعني - للغائب، قال: وأهل العلم مجمعون على أن الغائب إذا لم يعلم بالبيع ثم قدم فله الشفعة مع طول غيبته، واختلفوا إذا علم في سفره فقيل: يشهد، وإلا فلا شفعة له، وقيل: على شفعته.

ومن الأحاديث الضعيفة - بسبب ابن البيلماني - حديث ابن عمر مرفوعا: "لا شفعة لغائب ولا لصغير، ولا لشريك على شريكه إذا سبقه بالشراء"، و "الشفعة كحل العقال".

خامسها: الخلاف السالف في إسقاط الشفعة قبل ثبوتها جار فيمن أسقط شيئا قبل وجوبه كإسقاط المواريث قبل الموت وإجازة الوارث الوصية قبل الموت، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة أو كسوة في السنة القابلة، ففي كل واحدة من هذه المسائل خلاف.

سادسها: الشفعة ثابتة للبدوي والقروي والغائب والصغير إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق والذمي.

وقال قوم من السلف: لا شفعة لمن لم يسكن المصر ولا للذمي.

قاله الشعبي والحارث العكلي والبتي، وهو قول أحمد وقد تقدم.

زاد الشعبي : ولا لغائب. [ ص: 23 ]

وقال ابن أبي ليلى : لا شفعة لصغير. "ولا تورث الشفعة". وهو قول ابن سيرين .

وعن الشعبي : لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا تعار هي لصاحبها التي وقعت له، وقال إبراهيم - فيما نقله الأثرم - لا تورث.

قال ابن حزم : قال عبد الرزاق : وهو قول الثوري . وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق والحسن بن حي وأبي سليمان وقال مالك والشافعي : تورث.

سابعها: الشفعة هل هي على عدد الرءوس أو على عدد الأنصباء إذا كانوا شركاء؟ فيه خلاف للعلماء، توقف في ذلك أحمد - كما حكاه الأثرم عنه - وقال: ما أدري.

وعندنا قولان أيضا - رجح المتأخرون الثاني، وبه قال مالك والحسن بن حي وشريح وعطاء، ولما حكاهما الشافعي في "الأم" قال: بالأول أقول.

ثامنها: قال أبو حنيفة : الهبة بلا ثواب لا شفعة فيها؛ لأنها عنده هبة ليست بيعا، وكذا لا شفعة عنده في صراف ولا أجرة ولا جعل ولا خلع [ ص: 24 ] ولا في شيء صولح عليه من دم عمد، وعندنا: تثبت في الهبة ذات الثواب لأنها معاوضة.

وهل يأخذ قبل قبض الموهوب؛ لأنه صار بيعا أو لا؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض؟ فيه وجهان: أصحهما أولهما، وأشار الشافعي والماوردي إلى توقف الأخذ على دفع المتهب الثواب.

قال ابن عبد البر : وكان مالك يرى أولا أن في الهبة الشفعة، وإن كانت بغير ثواب، ثم رجع عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية