التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2166 [ ص: 110 ] 1 - باب في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟

وقال الحسن وقتادة: إذا كان يوم أحال عليه مليا جاز. وقال ابن عباس: يتخارج الشريكان وأهل الميراث، فيأخذ هذا عينا وهذا دينا، فإن توي لأحدهما لم يرجع على صاحبه.

2287 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي، هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع". [2288 - 2400 - مسلم: 1564 - فتح: 4 \ 464]


ثم ساق حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع ".

الشرح:

تعليق الحسن وقتادة أخرجه ابن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا احتال على ملي ثم أفلس بعد جاز. قال: وحدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن أنه كان لا يرى الحوالة ببراءة إلا أن يبرئه، فإذا أبرأه فقد برئ، وقال النخعي : كل حوالة ترجع إلا أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ما على فلان وفلان بكذا وكذا، فأما إذا باعه فلا يرجع.

وقال الحكم : لا يرجع في الحوالة إلى صاحبه حتى يفلس أو يموت ولا يدع وفاء.

وعن أبي إياس، عن عثمان في الحوالة: يرجع على مسلم توي.

وقال خطاب العصفري : أحالني رجل على يهودي فتوانى، فسألت الشعبي فقال: ارجع إلى الأول. [ ص: 111 ]

وعن شريح في الرجل يحيل الرجل فيتوي قال: يرجع إلى الأول.

وأثر ابن عباس : قال ابن التين : يريد بالتراضي بغير قرعة مع استواء الدين وإقرار من عليه وحضوره.

وقوله: (وأهل الميراث) قال أبو عبيد : إذا كان بين ورثة أو شركاء وهو في يد بعضهم دون بعض فلا بأس أن يبتاعوه، وإن لم يعرف كل واحد منهم نصيبه بعينه، ولو أراد أجنبي أن يشتري نصيب بعضهم لم يجز حتى يقبضه البائع.

قال: وتوي ضبطناه بفتح الواو وسكون الياء، والصواب كسر الواو وفتح الياء على وزن غوي، والتواء ممدود وقد يقصر. وقال صاحب "المغيث"، عن أبي بكر في قوله: ذاك الذي لا توي عليه . أي: لا ضياع ولا خسارة، من قولهم توي المال إذا هلك يتوي، وتوي حق فلان على غريمه إذا ذهب تويا وتواء، والقصر أجود فهو تو وتاو. قال الجياني قيل: إنه من التو بمعنى: المنفرد، ولم يذكر ابن ولاد والقزاز وابن سيده وغيرهم فيه غير القصر.

وقال أبو علي الفارسي : طيء تقول: توى. قال ابن المنير : أدخل قسمة الديون والعين تحت الترجمة إذا كان هذا عين وهذا دين، فتوى الدين لم تنقض القسمة؛ لأنه رضي بالدين عوضا فتوي في ضمانه،

وقاس الحوالة عليه. [ ص: 112 ]

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضا، وفي رواية لأحمد : " فإذا أحيل أحدكم على ملي فليحتل ". وذكر أبو مسعود أن البخاري رواه عن محمد بن يوسف في الحوالة، وكذا ذكره خلف والطرقي، ومن طريقه خرجه الترمذي عن الثوري، والذي في البخاري هنا عبد الله بن يوسف لا محمد .

ولابن ماجه من حديث ابن عمر : " وإذا أحلت على ملي فاتبعه ".

ولأبي داود من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه مرفوعا: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " وسيأتي في الكتاب في باب: لصاحب الحق مقال. معلقا من كتاب الاستقراض بلفظ: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 113 ]

قال سفيان : عرضه: ويقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس.

وقال ابن المبارك : يحل عرضه: يغلظ عليه، وعقوبته: يحبس له.

وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: يحل دينه وعقوبته.

وأخرجه الطبراني من حديث وبر بن أبي دليلة (خ م د س ق)، عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه فذكره من طريقين بلفظ البخاري قال سفيان : يحل عرضه أن تشكوه. قال الطبراني : والصواب وبر بن أبي دليلة بضم الدال، ورواه النعمان بن عبد السلام عن سفيان فقال بنصب الدال.

قلت: والوبرة دويبة - بالسكون - أصغر من السنور لا ذنب لها، والجمع وبر ووبار وبه سمي الرجل، قاله الجوهري .

وقوله: ("لي") هو بفتح اللام وتشديد الياء أي: - مطله - يقال: لوى بذنبه ليا وليانا، وأصل لي: لوي إلا أنه لما اجتمع حرفا علة وسبق الأول بالسكون قلبت ياء وأدغم في الياء الثانية، مثل: عيشة مرضية.

والواجد بالجيم. وعرضه: لومه وعقوبته كما سلف من تفسير سفيان وغيره.

والواجد: الغني الذي يجد ما يقضي به دينه وحل حبسه إذا أخفى المال، فإن كان ظاهرا قضى به لغريمه.

وفيه: دليل على أن المعسر لا يحبس لعدم وجدانه . [ ص: 114 ]

والعرض: موضع المدح والذم من الإنسان، سواء أكان في نفسه أو سلف أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب.

وقال ابن قتيبة : عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير. وفي "الفصيح": هو ريح الرجل الطيبة أو الخبيثة. ويقال: هو نقي العرض. أي: بريء من أن يشتم أو يعاب.

وعن ابن السيد : في الحديث أوضح حجة لمن قال: إن عرض الرجل ذاته؛ لأنه لم يبح له أن يقول في آبائه وأسلافه، إنما أباح له أن يقول فيه نفسه. وقال ابن خالويه: العرض: الجلد يقال: هو نقي العرض؛ أي: لا يغلب بشيء وقال التدميري : هو جسد الإنسان، وقد سلف أيضا في الحج.

إذا تقرر ذلك؛ فالكلام في مواضع:

أحدها:

المطل أصله فيما ذكره ابن فارس من قولهم: مطلت الحديدة أمطلها مطلا إذا مددتها لتطول. وقال ابن سيده : المطل: التسويف بالعدة والدين، مطله حقه يمطله مطلا فأمطل.

قال القزاز : والفاعل ماطل ومماطل، والمفعول ممطول، ومماطل، وتقول: ماطلني ومطلني حقي. [ ص: 115 ]

وقوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [النساء: 148] في مطل الدين كما قاله ابن التين، وقيل: فيمن يستضيف فلا يضاف. وقيل: يريد المكره على الكفر فهو مظلوم. وعن مجاهد أن رجلا نزل بقوم فأساءوا قراه فشكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو.

وعبارة القرطبي : المطل: عدم قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه وطلب المستحق حقه، وللإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك، حكي معناه عن سفيان.

ثانيها:

الظلم: وضع الشيء في غير موضعه له، وشرعا محرم مذموم، ووجهه هنا أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به الذم والعقاب، والذي أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحق؛ بدليل: "لي الواجد" ولا يلتفت لقول من قال: إنه صاحب الحق؛ لبعده وعدم ما يدل عليه.

وعن أصبغ وسحنون : ترد شهادة الملي إذا مطل؛ لكونه سمي ظالما، وعند الشافعي بشرط التكرار، وقيل: المعنى أن مطل الغني بدينه، فيكون المطل على هذا من الغريم الذي عليه الدين فمع الفقر أحرى وأولى، حكاه ابن التين . قال: والجمهور على القول الأول. [ ص: 116 ]

ثالثها:

قوله: ("فليتبع") هو بإسكان التاء في أتبع، وهو الصواب المشهور في الروايات والمعروف في كتب اللغة والغريب، وعن بعضهم أنه بالتشديد في الثانية. ومن الأول قوله تعالى: ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [الإسراء: 69] قال الخطابي : أكثر المحدثين يقولونه بالتشديد والصواب التخفيف.

رابعها:

مذهب الشافعي وغيره أنه إذا أحيل على ملي استحب له قبول الحوالة وحملوا الحديث على الندب؛ لأنه من باب التيسير على المعسر، وقيل: واجب. وقيل: مباح. وإلى الوجوب ذهب داود وغيره، وعن أحمد روايتان: الوجوب، والندب ولما سأل ابن وهب مالكا عنه قال: هذا أمر ترغيب وليس بإلزام، وينبغي له أن يطيع سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بشرط أن يكون بدين وإلا فلا حوالة؛ لاستحالة حقيقتها إذ ذاك وإنما تكون حمالة.

خامسها:

من شرطها أيضا تساوي الدينين قدرا وجنسا وصفة، كالحلول والتأجيل والصحة والكسر، ومن العلماء من أجازها في النقدين فقط ومنعوها في الطعام؛ لأنه بيع طعام قبل أن يستوفى، وأجازه مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالا، وأما إذا [ ص: 117 ] كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز، إلا أن يكون الدينان حالين.

وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك: يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالا.

ولم يفرق الشافعي؛ لأنه كالبيع في ضمان المستقرض، وأما أبو حنيفة فأجازها بالطعام وشبهه بالدراهم، وجعلها خارجة عن الأصول؛ لخروج الحوالة بالدراهم. ولها عند مالك ثلاثة شروط: أن يكون دين المحال حالا، وإلا كان دينا بدين، وأن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه فيما سلف؛ لأنه إذا اختلف كان بيعا لا حوالة يخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، فيدخل الدين بالدين، وأن لا يكون الدينان طعامين من سلف أو أحدهما ولم يحل الدين المحال به على مذهب ابن القاسم .

سادسها:

جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة في أنه إذا أفلس المحال عليه لا يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء . وقال أبو حنيفة : يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسا، أو حكم بإفلاسه، أو جحد الحوالة ولم يكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي والشعبي والنخعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة.

وقال الحكم : لا يرجع ما دام حيا حتى يموت، ولا يترك شيئا، فإن الرجل يوسر مرة ويعسر أخرى، ويشترط عندنا رضا المحيل والمحتال لا المحال عليه في الأصح وفاقا لمالك . وعند أبي حنيفة وداود مقابله. [ ص: 118 ]

وقال الشافعي وأحمد وأبو عبيد والليث وأبو ثور : لا يرجع عليه وإن توي، وسواء غره بالفلس أو طول عليه أو أنكره. وقال مالك: لا يرجع على الذي أحاله إلا أن يغره بفلس.

سابعها:

استنبط بعضهم من قوله: " مطل الغني ظلم " أن الحوالة إنما تكون بعد حلول أجل الدين؛ لأن المطل لا يكون إلا بعد الحلول.

تنبيهات:

أحدها: قال ابن المنذر : هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد، ومن لا يقدر على القضاء غير داخل في هذا المعنى؛ لأن الله جل ذكره قد أنظره بقوله: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [البقرة: 280]. وفيه ما دل على تحصين الأموال، وذلك أمره باتباع الملي دون المعدم؛ لأنه خص بقوله: " وإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع " فدل أن من أتبع على غير ملي فلا يتبع.

ثانيها: تحصلنا على أربعة أقوال: قول الحسن، وقتادة، وقول مالك فيمن غره، والشافعي لم يغره، وقول أبي حنيفة السالف.

وذكر عن الحسن وشريح وزفر أن الحوالة كالضمان، وأنه يرجع على أيهما شاء فهذا ضامن. [ ص: 119 ]

ثالثها: الحديث دال على أبي حنيفة في قوله: إن المحيل لا يبرأ؛ لأنه شرط الملاءة، فدل على أن لا رجوع وإلا لما كان لاشتراطها معنى.

قال ابن التين : وفيه: دليل على الشافعي في قوله: يبرأ المحيل وإن غر بفلس المحال عليه؛ لاشتراط الملاءة وهو غير ملي. قلت: لا فهو مقصر.

التالي السابق


الخدمات العلمية