التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2291 - قال أبو عبد الله: وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رجلا من بني [ ص: 132 ] إسرائيل: " سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم. فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فأتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها، يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة، فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا، فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركبا، أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا، يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة. فانصرف بالألف الدينار راشدا". [انظر: 1498 - فتح: 4 \ 469]


كذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: القروض بدل (القرض).

وقال أبو الزناد : عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه، أن عمر بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته، فأخذ حمزة من الرجل (كفلاء) حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدقهم، وعذره بالجهالة. [ ص: 133 ]

وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفلهم. فتابوا وكفلهم عشائرهم. وقال حماد: إذا تكفل بنفس فمات فلا شيء عليه. وقال الحكم : يضمن.

وقال الليث ... فساق حديث الخشبة التي فيها ألف دينار، وقد سلف.

أما أثر أبي الزناد فذكره مختصرا، وقد طوله ابن وهب في "موطئه" عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، وساقه الطحاوي أيضا من طريقه: حدثني محمد، عن أبيه حمزة أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا على بني سعد بن هذيم فأتى حمزة بمال ليصدقه فإذا رجل يقول لامرأة: صدقي مال مولاك. وإذا المرأة تقول: بل أنت أد صدقة مال ابنك. فسأل حمزة عن أمرهما فأخبر أن ذلك الرجل زوج تلك المرأة، وأنه وقع على جارية لها فولدت ولدا فأعتقته امرأته، فقالوا: هذا المال لابنه من جاريتها. فقال حمزة: لأرجمنك بحجارتك، فقال له أهل الماء: أصلحك الله إن أمره رفع إلى عمر بن الخطاب فجلده مائة ولم ير عليه رجما، فأخذ حمزة بالرجل كفلاء حتى قدم على عمر فسأله عما ذكر أهل الماء من جلد عمر إياه مائة جلدة وأنه لم ير عليه رجما، قال: فصدقهم عمر بذلك من قولهم، وإنما درأ عنه (عبد الرحمن)؛

لأنه عذره بالجهالة.

وعند الطحاوي أيضا من حديث جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق أن رجلا زنى بجارية امرأته فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان استكرهها فهي حرة [ ص: 134 ] وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فعليه مثلها" زاد في حديث قبيصة بن حريث، عن سلمة ولم يقم عليه حدا.

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هذا هو الحكم فيمن زنى بجارية امرأته، قالوا: وقد عمل بذلك ابن مسعود .

وخالفهم فيه آخرون، فقالوا: بل نرى عليه الرجم إن كان محصنا والجلد إن لم يكن. وروى حديث هشام عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم أن رجلا وقع بجارية امرأته، فأتت امرأته النعمان بن بشير فأخبرته؛ فقال: أما إن لك عندي في ذلك خبرا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كنت أذنت له جلدته مائة، وإن كنت لم تأذني له رجمته. قال: قوله: (جلدناه مائة) هي عندنا تعزير، كأنه درأ عنه الحد بوطء الشبهة، وعزره بركوبه ما لا يحل له، فإن قيل: أفيعزر الحاكم مائة؟ قلنا: نعم.

قد عزر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة.

حديث النعمان عندنا ناسخ لما رواه ابن المحبق، وذلك أن الحكم كان في أول الإسلام يوجب عقوبات في أموال وأبدان لقوله: إنا آخذوها وشطر ماله. وحديث أبي هريرة : في ضالة الإبل: غرامتها ومثلها معها. وفي حديث عمرو بن العاصي: في مراح الماشية ففيه غرامة مثله وجلدات نكالا حتى نسخ بتحريم الزنا.

وأما ما ذكر عن ابن مسعود فقد خولف فيه، روى عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قال: لا أوتى برجل وقع على جارية امرأته إلا رجمته.

وحمزة بن عمرو أيضا لم ينكر عليه عمر قوله: لأرجمنه، فوافق عليا، وما رواه النعمان قد أنكر على ابن مسعود إذ لم ير عليه حدا [ ص: 135 ] لما بلغه: لو أتاني صاحب ابن أم عبد لرضخت رأسه بالحجارة، فلم يدر ابن أم عبد ما حدث بعده. قد أفتى علقمة بخلاف قول صاحبه ابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.

وقال الداودي : لعل حمزة أخذ الكفيل، يجب عليه من نقص الجارية.

وقال ابن المنير : أخذ البخاري من الكفالة بالأبدان في الحدود الكفالة بالأبدان في الديون من طريق أولى، فمن هنا وقعت المطابقة.

وقوله في الترجمة: (وغيرها) يعني: غير الأبدان. أي: ظاهر بالحقوق المالية لحديث الخشبة، وهو أصل في الكفالة بالديون من قرض كانت أو بيع، والكفالة في القرض الذي هو السالف بالأموال كلها جائزة، والكفالة بالأبدان في الحدود غير صحيحة ويسجن المدعى عليه في الحد حتى ينظر في أمره، إلا أن جمهور الفقهاء قد أجازوا الكفالة بالنفس، وهو قول مالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومحمد، واختلف عن الشافعي فمرة أجازها ومرة ضعفها، وقالت طائفة: لا تجوز الكفالة بالنفس.

ولم يختلف الذين أجازوها في النفس أن المطلوب إن غاب أو مات لا يلزم الكفيل قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة الحكم في البدن، وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود [ ص: 136 ] والقصاص وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعي للقصاص: بينتي حاضرة، كفلته ثلاثة أيام.

واحتج لهما الطحاوي بما روى حمزة عن عمر، وابن مسعود، وجرير، والأشعث أنهم حكموا بالكفالة في النفس بمحضر من الصحابة حتى كتب إلى عمر في ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن ذاك إنما كان على سبيل الترهيب على المطلوب والاستيثاق، لا أن ذلك لازم لمن تكفل إذا زال المتكفل به؛ لأنه يؤدي ما ضمن في ذمته عمن تكفل عنه، وإنما تصح الكفالة في الأموال؛ لأنه يؤدي ما ضمن في ذمته عمن تكفل عنه.

وأصل الكفالة في المال قوله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [يوسف: 72]. أي: كفيل وضامن.

واختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه هل يلزمه ضمان المال؟ فقال الكوفيون: لا، وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك والليث والأوزاعي : نعم ويرجع به على المطلوب، فإن نفاه فلا. حجة المانع أنه تكفل بالنفس فقط فكيف يلزم ما لم يتكفل به.

وفي حديث الخشبة أن من صح منه التوكيل على الله فإنه ملي بنصره وعونه، قال الله تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق: 3].

فالناقر توكل عليه ووثق به في تبليغها وحفظها، والذي سلف وطلب الكفيل صح منه التوكل على الله أيضا؛ لأنه قنع به كفيلا فوصل الله إليه [ ص: 137 ] ماله، وسيأتي حكم أخذ الخشبة حطبا لأهله في اللقطة إن شاء الله تعالى.

وقوله: (فعذره بالجهالة)، أي: فلم يرجمه وضربه المائة تعزيرا.

وفيه: دليل على مانع وصول التعزير إلى الحد، ومذهب مالك مجاوزته بحسب اجتهاد الإمام.

وفي حديث الخشبة جواز الأجل في القرض.

ومعنى: ("زجج موضعها") أصلح موضع النقر وسواه.

قال الخطابي : ولعله من تزجج الحواجب وهو: لقطه شعره الزائد عن حد منبته، وإن أخذ من الزج فيكون النقر قد وقع في طرف من الخشبة فشد عليه زجا ليمسكه ويحفظ ما في بطنه.

وفيه: أن ما يقذفه البحر لواجده.

قال الداودي : وفيه تبدئة الكاتب بنفسه.

ولعله أخذه من قوله: "وصحيفة منه إلى صاحبه" وليس ببين.

وفيه: طلب الكفيل في القرض.

و ("جهدت") بفتح الهاء من المشقة ويقال: أجهدت.

التالي السابق


الخدمات العلمية