التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2282 2413 - حدثنا موسى، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، قيل: من فعل هذا بك أفلان، أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بين حجرين. [2746، 5295، 6876، 6877، 6879، 6884، 6885 - مسلم: 1672 - فتح: 5 \ 71]


يقال: شخص - بفتح الخاء - من بلد إلى بلد، أي: ذهب، والمصدر: شخوصا، وأشخصه غيره، وشخص التاجر: خرج من [ ص: 467 ] المنزل، وشخص بكسر الخاء: رجع.

ذكر فيه أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث النزال بن سبرة : قال: سمعت عبد الله يقول: سمعت رجلا قرأ آية، سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافها، فأخذت بيده، فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كلاكما محسن ". قال شعبة : أظنه قال: "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ".

ثانيها:

حديث أبي هريرة : استب رجلان: رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين... الحديث. وفيه: فلطم وجه اليهودي وفيه: فدعا المسلم فسأله عن ذلك.

ثالثها:

حديث أبي سعيد الخدري : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقال: "من؟ ". فقال: رجل من الأنصار. قال: "ادعوه"... الحديث.

رابعها:

حديث قتادة، عن أنس، أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل: من فعل بك؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بين حجرين . [ ص: 468 ]

الشرح:

اختلف العلماء في إشخاص المدعى عليه، فقال ابن القاسم - في معنى قول مالك - إن كان المدعى عليه غائبا إلى مثل ما يسافر الناس فيه ويقدمون، كتب إلى والي الموضع في أخذ المدعى عليه بالاستحلاف أو القدوم للخصومة، وإن كان غيبة بعيدة فيسمع من بينة المدعي ويقضى له. وقياس قول الشافعي - كما قال ابن بطال - أنه يجلب بدعوى المدعي. وقال الليث : لا يجلب المدعى عليه حتى تشهد بينة على الحق. قال الطحاوي : وليس عند أصحابنا المتقدمين فيه شيء، والقياس أنه لا يجلب ببينة ولا غيرها. قال غيره: إنما يريد أن يكتب إلى حاكم الجهة.

وفي الحديث الأخير: الإشخاص إذا قويت شبهة الدعوى والتوفيق والملازمة في الجواب عن الدعوى؛ لأن الجارية ادعت بإشارة، فأشخص اليهودي ووقف وألزم الجواب وشدد عليه فيه، واستدل على كذبه حتى أقر واعترف وإن كان الخصم في موضع يخاف فواته منه، فلا بأس بإشخاصه وملازمته وإن كان في موضع لا يخاف فواته فليس له إشخاصه إلا برفع من السلطان إلا أن يكون في شيء من أمور الدين، فإن من الإنكار على أهل الباطل أن يشخصوا ويرفعوا كما فعل ابن مسعود بالرجل، وكما فعل عمر بهشام بن حكيم حين تأول عليه أنه مخطئ.

وأما الملازمة فأوجبها من لم ير السجن على مدعي العدم حتى يثبت عدمه، وهم الكوفيون، وأما مالك وأصحابه فيرون أنه يسجن حتى [ ص: 469 ] يثبت العدم. وفرق الكوفيون بين الذي يكون أصله من معاوضة فيجب سجن من ادعى العدم، فإنه قد حصل بيده العوض ويدعي العدم، وأما إن كانت معاملة بغير معاوضة كالهبة وشبهها فلا يسجن؛ لأن أصل الناس عندهم على الفقر حتى يثبت الغنى. وإذا وجدت المعاوضة، فقد صح عنده ما ينفي الفقر.

والأصح عندنا أنه إن لزمه الدين في معاملة مال كشراء أو قرض فعليه البينة، وإلا كالصداق فيصدق يمينه؛ لأن الأصل العدم، ولم يفرق مالك بين شيء من ذلك وهم عنده على الغنى حتى يثبت العدم؛ فلذلك يلزمه السجن.

تنبيهات:

أحدها: في حديث أبي هريرة أنه لا قصاص بين المسلم والذمي؛ لأنه - عليه السلام - لم يقد اليهودي من المسلم في اللطمة، وقد ترجم في الديات باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب.

وفي "جامع سفيان" عن عمرو بن دينار : أن اللاطم هو الصديق يعني: الأول؛ لأن الثاني من الأنصار.

وفي تفسير ابن إسحاق أن اليهودي اسمه فنحاص، وفيه نزل قوله تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء [آل عمران: 181] وفيه: تأدبه مع موسى عليهما الصلاة والسلام.

وإقراره لموسى بما خصه الله تعالى من الفضيلة به، (فإن قلت): حديث الباب: " لا تخيروني على موسى ولا تخيروا بين الأنبياء "، وكذا [ ص: 470 ] حديث: "لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى "، يعارض حديث: "أنا أول من تنشق عنه الأرض"، وحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" قلت: لا، فعنه خمسة أجوبة:

أحدها: أنه نهى قبل أن يعلم أنه أفضلهم، فلما علم قال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".

ثانيها: أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة كما في الحديث من لطم المسلم اليهودي.

ثالثها: قاله تواضعا ونفي الكبر والعجب كما قال الصديق : وليتكم ولست بخيركم.

رابعها: أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم فإنه كفر.

خامسها: أنه نهى عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء، وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم، وقد قال الله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [البقرة: 253].

وقال ابن التين : معنى: "لا تخيروا بين الأنبياء" معناه: من غير علم وإلا فقد قال تعالى: تلك الرسل الآية. [ ص: 471 ]

وأغرب ابن قتيبة فأجاب: بأنه أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض.

(فإن قلت): كيف خص يونس؟ قلت: لأنه دون غيره من الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى، فإذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس فكيف بمن فوقه، وقد قال تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت [القلم: 48] أراد به يونس أنه لم يكن له صبر غيره من الأنبياء، وفي هذه الآية ما يدل على أنه أفضل منه حيث قال: ولا تكن كصاحب الحوت [القلم: 48]. ذكره ابن بطال، قال: ويجوز أن يريد: لا تفضلوني عليه في العمل، فلعله أفضل عملا مني ولا في البلوى والامتحان، فإنه أعظم محنة مني، وليس ما أعطى الله نبينا محمدا من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله تعالى إياه واختصاصه له، وكذا أمته أسهل الأمم محنة، بعثه الله إليها بالحنيفية السمحة، ووضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على بني إسرائيل في فرائضهم، وهي مع هذا خير أمة أخرجت للناس تفضلا منه، ثم قال: هذا تأويل ابن قتيبة، واختاره المهلب .

وقوله: ("أو حوسب بصعقة الطور") فيه: دليل على أن المحن في الدنيا والهموم والآلام يرجى أن يخفف الله بها يوم القيامة كثيرا عن أهلها، وأما كفارة الذنوب بها فمنصوص عليه بقوله: " حتى الشوكة يشاكها ". [ ص: 472 ]

وفيه: رد قول سعيد بن جبير الذي ذكره البخاري في تفسير القرآن أن الكرسي العلم؛ لأن العلم ليس له جانب ولا قائمة يقع اليد عليها؛ لأن اليد لا تقع إلا على ما له جسم والعلم ليس بجسم. وسيأتي زيادة إيضاح له في الديات إن شاء الله تعالى.

ثانيها: قال الداودي في حديث عبد الله : " إن القرآن أنزل على سبعة أحرف "، وفي حديث آخر: "نزل على سبعة" وليس بالبين بل هما سواء لقوله: "كلاكما محسن".

وقوله: "لا تختلفوا" أي: في القرآن، والاختلاف فيه كفر إذا نفى إنزاله إذا كان يقرأ على خلاف ذلك، ولا تمييز بين القراءتين؛ لأنهما كلاهما كلامه قديم غير مخلوق، وإنما التفضيل في الثواب.

قال: وقوله: (استب رجلان) ليس بمحفوظ والمحفوظ حديث أبي سعيد إلا قوله: "أكان ممن صعق... " إلى آخره. ومعنى (يصعقون): يخرون صراعا بصوت يسمعونه يوجب فيهم ذلك. و (الصعق): الغشيان أو الموت، وقيل: الإغماء من الفزع.

وقوله: ("فإذا موسى باطش جانب العرش") أي: قابض عليه بيده.

وقوله: ("أو كان ممن استثنى") يريد قوله: إلا من شاء الله، أي: لا يصعق.

وقال الداودي : معنى ("أو كان ممن استثنى الله")، أي: كان لي [ ص: 473 ] ثانيا في الإفاقة، وحمل بعض الناس أن الصعقة في الموقف، ومن استثنى هم الشهداء وهو بعيد أن يصعق الرسل في الموقف، والله تعالى أمنهم فيه حيث قال: وهم من فزع يومئذ آمنون [النمل: 89] ويستحيل أن يصعق الأنبياء ولا يصعق الشهداء.

وقال عبد الملك في قوله: "أو كان ممن استثنى الله" إشكال ولا يدرى ممن قال الله أم لا؛ لأن هذا هو الصعق الأول وهو الذي استثنى الله فيه، وأما صعق البعث فلا استثناء فيه والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه صعق البعث.

وقوله: صعق البعث غير بين؛ لأن النفخة الثانية لا تسمى صعقة وإنما تسمى صعقة الأولى. [ ص: 474 ]

وقوله: ("فلا أدري كان فيمن صعق أو حوسب بصعقته الأولى")، أنكره الداودي كما سلف، واستدل بهذا الحديث. قال: فأخبر فيه أن الصعقة قبل انشقاق الأرض عنه وهي النفخة الأولى في الصور، فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله وهو جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل، وزاد كعب : حملة العرش.

ورواه أنس مرفوعا: "ثم يموت الثلاثة الأول، ثم ملك الموت بعدهم وملك الموت يقبضهم، ثم يميته الله " فكيف يصعق موسى بتلك الصعقة وقد مات قبل ذلك؟ قال: واعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض وأنه لم يعلم حين أفاق هل أفاق قبل موسى أو كان له ثانيا؟ قال: وإن كان المحفوظ أم جوزي بصعقة طور سيناء يريد فلم يصعق، وعوفي لأجلها.

وروى أنس مرفوعا: "آخرهم موتا جبريل " وقال سعيد بن جبير : إلا من شاء الله، الشهداء مقلدين بالسيوف حول العرش، والصعق والصعقة: الهلاك والموت، يقال منه: صعق الإنسان - بفتح الصاد وضمها - وأنكر بعضهم الضم.

وقال ابن عباس فيما حكاه ابن جرير : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا [الأعراف: 143]: ترابا، وخر موسى صعقا [الأعراف: 143] [ ص: 475 ] مغشيا عليه. وفي رواية: "فلم يزل صعقا ما شاء الله". وهو في حديث أبي سعيد بالموت أشبه كما قال ابن الجوزي، ويؤيده قول قتادة وابن جريج فيما حكاه ابن جرير : صعقا: ميتا. وقال الأزهري : في قوله: فلما أفاق دليل على الغشي؛ لأنه يقال للذي غشي عليه والذي يذهب عقله: قد أفاق، وفي الميت: بعث ونشر، قال تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم [البقرة: 56]. وكذا قاله ابن سيده وغيره. قال القزاز : ولا يقال: صعق، ولا: وهو مصعوق.

وقوله: ("فأكون أول من يفيق") ، وفي لفظ: " أول من تنشق عنه الأرض " هو مشكل، كما قال القرطبي بالمعلوم من الأحاديث الدالة على أن موسى قد توفي وأنه - عليه السلام - رآه في قبره.

ووجه الإشكال أن نفخة الصعق إنما يموت بها من كان حيا في هذه الدار، وأما من مات فيستحيل أن يموت ثانيا، وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث، وموسى قد مات، فلا يصح أن يموت مرة أخرى، ولا يصح أن يكون مستثنى من نفخة الصعق؛ لأن الأنبياء أحياء لم يموتوا ولا يموتون، ولا يصح استثناؤهم من الموتى، وقد قال بعضهم: يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء وهو باطل.

ويحتمل كما قال القاضي : أن يكون المراد بهذه الصعقة صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرض، ويحتمل كما قال النووي : [ ص: 476 ]

أنه - عليه السلام - قال هذا قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره، وإن كان نبينا أول من تنشق عنه الأرض فيكون موسى من تلك الزمرة وهي - والله أعلم - زمرة الأنبياء.

(فإن قلت): إذا جعلت له تلك عوضا من الصعقة فيكون حيا حالة الصعق وحينئذ لم يصعق.

فالجواب: أن الموت ليس بعدم، إنما هو انتقال من دار إلى دار، بيانه أن الشهداء بعد قتلهم ودفنهم أحياء عند ربهم، وإذا كان هذا للشهداء، كان الأنبياء بذلك أحق وأولى مع أنه قد صح عنه - عليه السلام - أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه اجتمع بهم ليلة الإسراء ببيت المقدس والسماء خصوصا موسى، فتحصل من جملة هذا القطع، بأنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته، فإذا تقرر أنهم أحياء فيما بين السموات والأرض، وإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، وأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشي، فإذا نفخ ثانيا، فمن مات حيي ومن غشي عليه أفاق، ويحصل من هذا أن نبينا تحقق أنه أول من يفيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى، فإنه حصل له فيه تردد، هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها؟ وعلى أي الحالتين فهي فضيلة عظيمة لموسى ليست لغيره. [ ص: 477 ]

قلت: وقد يقال: إن نبينا لما يرفع بصره حين الإفاقة يكون إلى جهة من جهات العرش، ثم يرفع ثانيا إلى جهة أخرى منه فيجد موسى وبه يلتئم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" وإن قدر الله الوصول إلى كتاب الحشر نزيد ذلك إيضاحا مع أن هذا كاف.

فائدة:

روينا من طريق علي بن معبد في كتاب "الطاعة" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إن الله - عز وجل - خلق الصور وأعطاه إسرافيل" قلت: يا رسول الله، وما الصور؟ قال: "عظيم والذي نفسي بيده إن عظم داره كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات، أول نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام، يقول له في الأولى: انفخ نفخة الفزع ويأمره فيمدها يطولها". وذكر الحديث بطوله.

وأخرجه الطبري لكن فيه رجل وهو مجهول ثم قال: وهذا القول [ ص: 478 ] الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، أعني: المستثنى في الفزع الشهداء وفي الصعق جبريل وملك الموت وحملة العرش أولى بالصيحة.

ثالثها: روى ابن حبان في "صحيحه" عن عبد الله: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشية، فجلست إلى رهط، فقلت لرجل: اقرأ علي، فإذا هو يقرأ أحرفا لا أقرأ بها... الحديث.

وفي "مبهمات الخطيب الحافظ ": أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة من الثلاثين (إلى) حم يعني: الأحقاف، قال: وكانت السورة إذا (تكن) ثلاثين آية سميت ثلاثين فخرجت إلى المسجد، فإذا رجل يقرأ على غير ما أقرأ، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل، فقال الرجل الذي عنده: ليقرأ كل منكما ما سمع... الحديث. قال الخطيب : القائل: ليقرأ كل رجل منكما، هو علي.

وفي حديث أبي بن كعب في "صحيح ابن حبان ": قرأ رجل آية وقرأتها على غير قراءته، فقلت: من أقرأك هذه؟ قال: رسول الله. فانطلقت، فقلت: يا رسول الله، أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم"، فقال الرجل: أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم، إن جبريل وميكائيل أتياني فجلس جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقلت:

زدني، فقال: اقرأه على حرفين. فقال ميكائيل: استزده. حتى بلغ سبعة أحرف وقال: كل كاف شاف
". [ ص: 479 ]

وفي لفظ: " أنزل القرآن على سبعة أحرف ".

وللترمذي : "يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ".

وعن أبي هريرة مرفوعا: "أنزل القرآن على سبعة أحرف: حليما عليما غفورا رحيما ".

ثم قال: قال أبو حاتم : آخر الحديث عند قوله: "حليما عليما" والباقي قول محمد بن عمرو، أدرجه في الخبر، والخبر إلى سبعة أحرف فقط.

ولأحمد من حديث زر عن حذيفة مرفوعا: "لقيت جبريل عند أحجار (المراء) فقلت: يا جبريل، إني أرسلت إلى أمة أمية، فقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ".

وفي لفظ من حديث ربعي عنه: "فمن قرأ من أمتك على حرف واحد، فليقرأ كما علم ولا يرجع عنه ". [ ص: 480 ]

وفي لفظ: " إن من أمتك الضعيف، فمن قرأ على حرف، فلا يتحول عنه إلى غيره رغبة عنه ".

وله من حديث أم أيوب امرأة أبي أيوب الأنصاري مرفوعا: " نزل القرآن على سبعة أحرف، أيها قرأت أجزأك ". ومن حديث الحسن بن سمرة مرفوعا: "أنزل القرآن على ثلاثة أحرف ".

ومن حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة مرفوعا: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ". ورواه أبو عبيد في "القراءات" تأليفه أيضا، وعند البخاري في: فضائل القرآن حديث عمر وابن عباس ستعرفهما.

رابعها: حديث أنس أخرجه مسلم والأربعة. [ ص: 481 ]

وفي لفظ: "فلم يزل به حتى أقر"، قال الترمذي : والعمل عليه عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: لا قود إلا بالسيف.

خامسها: قام الإجماع على أن القتل صنفان: عمد وخطأ، واختلفوا هل بينهما وسط أم لا؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار، قالوا: وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل وإلى الأحوال التي كانت من أجلها الضرب، فقال أبو حنيفة : كل ما عدا الحديد من القصب أو النار أو ما يشبه ذلك فهو شبه العمد. وقال صاحباه: شبه العمد ما لا يقتل مثله وقال الشافعي : هو ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل أو ما كان ضربا لم يقصد به القتل، فتولد عنه القتل.

والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا، والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا، وعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أعني: بين أن يقصد القتل أو لا يقصده، وعمدة من أثبته أن النيات لا يطلع عليها إلا الله وإنما الحكم لما ظهر، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبا كان حكمه حكم العامد.

سادسها: قال الطحاوي : يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أن اليهودي يجب قتله لله بذلك، فإن كان دم اليهودي قد وجب لله كما يجب دم قاطع الطريق لله، فكان له أن يقتله كيف يرى بسيف أو بغيره، والمثلة [ ص: 482 ] حينئذ مباحة كما فعل الشارع بالعرنيين، ثم نسخت بعد ذلك المثلة ونهي عنها، أو يحتمل أن يكون رأى ما فعل باليهودي واجبا لأولياء الجارية، فقتله لهم فاحتمل أن يكون قتله كما فعل؛ لأن ذلك هو الذي وجب عليه؛ لأنه وجب عليه سفك الدم بأي طريق شاءه الولي، فاختاروا الرضخ، ففعل ذلك به. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل ذلك اليهودي بخلاف ما قتل به الجارية، ففي مسلم من حديث أنس أنه أمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات. والرجم قد يصيب الرأس وغيره.

سابعها: اختلف العلماء في إشارة المريض، فذهب الشافعي ومالك والليث إلى أنه إذا ثبتت إشارته على ما يعرف من يحضره جازت وصيته. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إذا سئل المريض عن شيء فأومأ برأسه أو بيده، فليس بشيء حتى يتكلم. قال أبو حنيفة : وإنما تجوز إشارة الأخرس أو من لحقته سكتة لا يتكلم، وأما من اعتقل لسانه ولم يدم به ذلك فلا تجوز إشارته.

قلت: الحديث حجة عليه لا جرم. قال الطحاوي : جعل الشارع إشارتها بمنزلة دعواها بلسانها من غير اعتبار دوام ذلك عليها مدة من الزمان، فدل على أن من اعتقل لسانه بمنزلة الأخرس في جواز إقراره [ ص: 483 ] بالإيماء والإشارة.

وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قاعدا وأشار إليهم فقعدوا، واحتج الشافعي بأن أمامة بنت أبي العاصي أصمتت، فقيل لها: لفلان كذا فأشارت أي: نعم. فنفذت وصيتها.

قال المهلب : أصل الإشارة في كتاب الله فأشارت إليه يعني: سلوه، وقوله: ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [آل عمران: 41]

وقال الإسماعيلي : من أطاق الإبانة عن نفسه لم تكن إشارته فيما له أو عليه واقعة موقع الكلام، لكن يقع موقع الدلالة على ما يراد لا فيما يؤدي إلى الحكم على إنسان بإشارة غيره، ولو كان كذلك لقبلت شهادة الشاهدين بالإشارة والإيماء، وهذه القضية أشارت إشارة وهي تعقل إشارة لم نفض البحث عن صحتها، فلما بحث عنها اعترف. كأنه رد بهذا تبويب البخاري في باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جاز، من كتاب الوصايا وستعلمه فيه وفي الديات إن شاء الله تعالى.

ثامنها: معنى رض: دق. وقوله: (فأومأت) كذا في الأصول مصلحا. وذكره ابن التين : فأومت وقال: صوابه فأومأت.

وفيه: القود بالمثقل خلافا لأبي حنيفة وهو نص في موضع الخلاف. [ ص: 484 ]

وفيه: قتل الرجل بالمرأة، ولا ترداد بينهما عند مالك . وقال قوم: يرد أولياء المرأة نصف دية الرجل.

وفيه: ( قتل المسلم بالكافر ). واختلف عند المالكية إذا جرحه هل له الدية أو يقتص كالقتل أو يجتهد السلطان أقوال، وكذلك إذا قطع كافر طرف مسلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية