التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2405 2543 - حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أزال أحب بني تميم. وحدثني ابن سلام، أخبرنا جرير بن عبد الحميد، عن المغيرة عن الحارث، عن أبي زرعة عن أبي هريرة. وعن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول: " هم أشد أمتي على الدجال". قال: وجاءت صدقاتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا". وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل". [4366 - مسلم: 2525 - فتح: 5 \ 170]


ثم ساق فيه أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث مروان والمسور بن مخرمة: أنه عليه السلام قام حين جاءه وفد هوازن، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم .. الحديث بطوله.

ثانيها:

حديث ابن عون: كتبت إلى نافع فكتب إلي أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية. حدثني به عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش.

[ ص: 208 ] ثالثها:

حديث أبي سعيد: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق.. فذكر حديث العزل.

رابعها:

حديث أبي هريرة قال: لا أزال أحب بني تميم. وفي لفظ: ما زلت أحب بني تميم، منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، يقول: "هم أشد أمتي على الدجال". قال: وجاءت صدقاتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا". وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل".

الشرح:

اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقال مجاهد والضحاك: هذا المثل لله تعالى ومن عبد دونه. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، يذهب إلى أن العبد المملوك هو الكافر; لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته ومن رزقناه منا رزقا حسنا هو المؤمن فحسن الأول; لأنه وقع بين كلامين لا نعلم بين أهل التفسير خلافا فيه إلا من شذ منهم أنهما لله تعالى، وهما: فلا تضربوا لله الأمثال وبعده: وضرب الله مثلا رجلين [النحل: 76].

وقد تأول بعض الناس هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك قريبا.

[ ص: 209 ] وأتى البخاري بأحاديث أتى فيها بقبائل سماها من العرب، وفي التبويب: من ملك من العرب رقيقا، وروى في موضع آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة موالي ليس لهم مولى إلا الله عز وجل: قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار" فهؤلاء ليس لأحد عليهم ولاء؛ ولذلك قال لأسارى بدر: طلقاء، وسمي غيرهم عتقاء; لأنهم لم يجر عليهم ملك ولا عتق، ومن سوى هؤلاء يجري عليهم الرق ويكون الولاء لمعتقهم، ذكره الداودي.

وقال ابن بطال في هذه الآثار: إنه صلى الله عليه وسلم سبى العرب واسترقهم من هوازن وبني المصطلق وغيرهم.

وقال عليه السلام لعائشة في السبية التميمية: " [اعتقيها] فإنها من ولد إسماعيل".

فصح بهذا كله جواز استرقاق العرب وتملكهم كسائر فرق العجم، وقام الإجماع على أن من وطئ أمة بملك يمينه أن ولده منها أحرار عربية كانت أو عجمية.

واختلفوا إذا تزوج العربي أمة، هل يكون ولده منها رقيقا تبعا لها أم لا؟

فقال مالك والكوفيون والليث والشافعي: الولد مملوك لسيد الأمة، تبع لها. وحجتهم أحاديث الباب في سبي العرب واسترقاقهم.

[ ص: 210 ] وقال الثوري والأوزاعي وأبو ثور وإسحاق: يلزم سيد الأمة أن يقومه على أبيه، ويلزم (أباه) أداء القيمة إليه ولا يسترق، وهو قول سعيد بن المسيب واحتجوا بما روي عن عمر أنه قال لابن عباس: لا يسترق ولد عربي من أمة.

وقال الليث: أما ما روي عن عمر من فداء ولد العرب من الولائد إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر به الرجل من نكاح الإماء، فأما اليوم فمن تزوج أمة وهو يعلم أنها أمة فولده عبد [لسيدها] عربيا كان أو قرشيا أو غيره.

ومن حجة من جعلهم رقيقا أنه عليه السلام لما سوى بين العرب والعجم في الدماء، فقال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" وأجمع العلماء على القول به، وجب إذا اختلفوا فيما دون الدماء أن يكون حكم ذلك حكم الدماء.

[ ص: 211 ] وقوله لعائشة: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" يدل على جواز تملك العرب إلا أن عتقهم أفضل لمراعاة الرحم التي تجمعهم.

وكذلك فعل عمر في خلافته بمن ملك رقيقا من العرب الذين ارتدوا في خلافة الصديق وقال: إن الله قد أوسع عليكم في سبي أهل الكتاب من غير العرب، وإن من العار أن يملك الرجل بنت ابن عمه، فأجابوه إلى ما حض عليه وهذا كله على وجه الندب لا على أنه لا يجوز تملكهم.

وقال ابن التين: أصل مذهب مالك أن الولاء لمن أعتق سواء كان عربيا أو غيره. وقيل: إن كان من العرب فلا، والذي قاله أشهب: نعم. وهو ما في كتاب ابن حبيب.

تنبيهات:

أحدها: في حديث سبي هوازن وبني المصطلق، وقول أبي سعيد: (اشتهينا) دليل على أن الصحابة أطبقوا على وطء ما وقع في سهامهم من السبي، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع من العلماء، وهذا يدل على أن السباء يقطع العصمة بين الزوجين الكافرين.

واختلف السلف في حكم وطء الوثنيات والمجوسيات إذا سبين، فأجازه سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس

ومجاهد، وحجتهم أنه عليه السلام أباح وطء سبايا العرب إذا حاضت الحائض أو وضعت الحامل منهن، وهذا القول شذوذ عند العلماء لم يلتفت أحد إليه.

واتفق أئمة الفتوى بالأمصار وعامة العلماء على أنه لا يجوز وطء الوثنيات بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [البقرة: 221]

[ ص: 212 ] وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل الكتاب خاصة بقوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم .

وإنما أطلق أصحابه على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن; لأن سبي هوازن كان سنة ثمان، وسبي بني المصطلق سنة ست، وسورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد علموا قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [البقرة: 221]. وتقرر عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن.

وروى عبد الرزاق، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا يونس بن عبيد أنه سمع الحسن يقول: كنا نغزو مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصاب أحدهم جارية من الفيء فأراد أن يصيبها أمرها فاغتسلت، ثم علمها الإسلام وأمرها بالصلاة واستبرأها بحيضة، ثم أصابها.

قال: وسمعت الثوري يقول: أما السنة فلا يقع عليها حتى تصلي إذا استبرأها.

وعموم قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [البقرة: 221] يقتضي تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك اليمين، ألا ترى أنه عليه السلام سن أن تؤخذ الجزية من المجوس على أن لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء.

ثانيها: قولهم: (وأحببنا الفداء وأردنا أن نعزل) استدل به جماعة على منع بيع أمهات الأولاد وقالوا: معلوم أن الحبل منهن يمنع [ ص: 213 ] الفداء ويذهب بالثمن، والعلماء مجمعون على أنه لا يجوز بيعها وهي حامل، فإذا وضعت فهي على الأصل الذي اتفقوا عليه في منع البيع، ولا يجوز الانتقال عنه إلا باتفاق آخر، وأئمة الفتوى بالأمصار متفقون على أنه لا يجوز بيع أم الولد، وإنما خالف ذلك أهل الظاهر وبشر المريسي، وهو شذوذ لا يلتفت إليه.

وقد أسلفنا حديث ابن عباس في مارية: "أعتقها ولدها". وحديث عمرو بن الحارث: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمة.

وأورده ابن بطال من حديث عائشة: ما خلف النبي صلى الله عليه وسلم عبدا ولا أمة، وقد كان خلف مارية، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن أمة، وقد قال عليه السلام: "لا نورث، ما تركنا صدقة" ولم ينقل أن مارية كانت صدقة، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن مما تركه، وقد أسلفنا ذلك مبسوطا.

ثالثها: قوله: "ما عليكم أن لا تفعلوا"، احتج به من أباح العزل ومن كرهه. واختلف السلف في ذلك قديما، وإباحته أظهر في الحديث، وهو حاصل مذهبنا حرة كانت أو أمة مع الإذن ودونه.

وروى مالك عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس أنهم كانوا يعزلون، وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود [ ص: 214 ] وجابر، وذكر مالك أيضا عن ابن عمر أنه كره العزل، وروي كراهته عن عمر وعثمان، وقد روي عن علي القولان جميعا.

واحتج من كره العزل بأنه: "الوأد الخفي" كما روته عائشة (عن) جذامة (م. الأربعة) بنت وهب الأسدية.

واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن الحرة إذا أذنت فيه لزوجها، واختلفوا في الأمة المزوجة. فقال مالك وأبو حنيفة: الإذن في ذلك لمولاها. وقال أبو يوسف: الإذن في ذلك إليها. وقال الشافعي: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها.

واحتج من أباحه بما روي عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار. قال: تذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند عمر العزل فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع، ولقد خلقنا [ ص: 215 ] الإنسان من سلالة من طين [المؤمنون: 12] إلى آخر الآية.

وروى سفيان عن الأعمش، عن أبي الوداك، عن ابن عباس أنه سئل عن العزل، فذكر مثل كلام علي سواء.

قال الطحاوي: فهذا علي وابن عباس قد اجتمعا على ما ذكرنا ووافقهما عمر ومن كان بحضرتهم من الصحابة، فدل على أنه غير مكروه.

قال: وقوله: "ما عليكم أن لا تفعلوا" إلى آخر الحديث يدل على أنه غير مكروه; لأنه لما أخبروه أنهم يفعلون ذلك لم ينكره عليهم ولا نهاهم عنه.

وقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا" فإنما هو القدر، فإن الله تعالى إذا قدر تكون الولد لم يمنعه عزل، ووصل الله من الماء إلى الرحم شيئا وإن قل يكون منه الولد، وإن لم يقدر كونه لم يكن بالإفضاء، فأعلمهم أن الإفضاء لا يكون منه ولد إلا بالقدرة، وأن العزل لا يمنع الولد إذا سبق في علم الله أنه كائن.

وقال ابن مسعود: لو أن النطفة التي أخذ الله ميثاقها كانت في صخرة لنفخ فيها الروح، وروي أيضا مرفوعا.

[ ص: 216 ] رابعها: في قوله: "إلا وهي كائنة" إثبات قدم العلم، فإن العباد يجرون في قدر الله وعلمه، والقدر: هو سر الله وعلمه، لا يدرك بحجة ولا بجدال، وأنه لا يكون في ملكه إلا بما شاء، ولا يقوم شيء إلا بإذنه له الخلق والأمر.

خامسها: قول أبي هريرة: (ما زلت أحب بني تميم)؛ لأنهم: "أشد أمتي على الدجال"، وقد روي عنهم أنهم كانوا يختارون ما يخرجون من الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراهيتها، فقال هذا المعنى على معنى المبالغة في نصحهم لله ولرسوله في جودة الاختيار للصدقة، وبنو تميم يلقون رسول الله في مدركة بن إلياس بن مضر، وكان لهم شرف في الجاهلية والإسلام، منهم: قيس بن عاصم المنقري (خ، د، ت، س) قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، أتى يوما وأنا عنده، قيل له: إن ابن أخيك قتل ابنك! قال: عصى ربه، وقطع رحمه، وفت عضده، ثم قال: جهزوه وما حل حبوته.

سادسها: معنى (وهم غارون): على غرة، بتشديد الراء وضمها. قال ابن فارس: الغرارة كالغفلة. قال الكسائي: من الإنسان، الغر، يغر غرارة، ومن الغار وهو القائل: أغررت. وقال الفارسي: كذا في بعض النسخ، وأنا أظن أن ذلك: وهم غادون، بدال مهملة مخففة.

قال الداودي على رواية "وهم غارون": يعني أنهم خرجوا لقتال المسلمين وكانوا قد خرجوا بالنساء والذراري; لئلا يعرفوا، فكان [ ص: 217 ] أقل لحدهم وأضعف لقوتهم، فخالفهم المسلمون إلى الأموال، ثم قوتلوا فغلبوا.

سابعها: قوله: (وأصاب يومئذ جويرية)؛ يعني: بنت الحارث، أسلفنا أن غزوة بني المصطلق سنة ست وهي على ست مراحل أو سبع من المدينة مما يلي مكة، وجاءت جويرية تستعينه في كتابتها. قالت عائشة: فلما رأيتها كرهت مكانها وعلمت أني ألقى منها ما لقيت، وكانت إملاحة ذات حدقتين، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن أشتريك فأعتقك وأتزوجك". قالت: ذاك إليك. فاشتراها وأعتقها وتزوجها، فبلغ الناس ذلك، فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلقوا ما كان بأيديهم من السبي، فما رأيت امرأة أيمن على قومها منها، قاله الداودي.

وقال الشيخ أبو محمد: سباها وأعتقها وتزوجها، وكانت الأسرى أكثر من سبعمائة فوهبهم لها ليلة دخل بها.

التالي السابق


الخدمات العلمية