التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2426 [ ص: 255 ] 5 - باب: إذا قال المكاتب: اشترني وأعتقني; فاشتراه لذلك 2565 - حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الواحد بن أيمن قال: حدثني أبي أيمن قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: كنت غلاما لعتبة بن أبي لهب، ومات وورثني بنوه، وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو، فأعتقني ابن أبي عمرو، واشترط بنو عتبة الولاء. فقالت: دخلت بريرة وهي مكاتبة فقالت اشتريني وأعتقيني. قالت: نعم. قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي. فقالت: لا حاجة لي بذلك. فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم - أو بلغه- فذكر لعائشة، فذكرت عائشة ما قالت لها، فقال: " اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاءوا". فاشترتها عائشة فأعتقتها، واشترط أهلها الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5 \ 196]


ثم ساق حديثها في قصتها، وفي أوله: قال أيمن: دخلت على عائشة فقلت: كنت غلاما لعتبة بن أبي لهب، ومات وورثني بنوه، وإنهم باعوني من عبد الله بن أبي عمرو المخزومي، فأعتقني ابن أبي عمرو، واشترط بنو عتبة الولاء. فقالت: دخلت بريرة .. ثم ساقت قصتها.

الشرح:

تعليق عائشة أخرجه الطحاوي عن يونس، ثنا ابن وهب، ثنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم، عنها: إنك عبد ما بقي عليك شيء. وحدثنا أبو بشر، ثنا أبو معاوية وشجاع بن الوليد، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة، فقالت: كم بقي عليك من كتابتك؟ قلت: عشر أواق، قالت: ادخل [ ص: 256 ] فإنك عبد ما بقي عليك شيء.

وللبيهقي: ما بقي عليك درهم. وله: أنها قالت: سالم، لا تزال مملوكا ما بقي من كتابتك درهم.

وأثر زيد رواه الشافعي عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عنه به. وللطحاوي: عن علي بن شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أنا سفيان به: كان زيد بن ثابت يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته، وكان جابر بن عبد الله يقول: شروطهم جائزة بينهم.

وأثر ابن عمر أسنده الطحاوي أيضا، عن يونس، عن ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد ومالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء. وللبيهقي من حديث عبيد، عن نافع: ما بقي عليه درهم. وللنسائي من حديث قتادة عن خلاس بن عمرو، عن علي بن أبي طالب. وقال أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه".

[ ص: 257 ] ولأبي داود من حديث ابن عباس: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل يؤدي ما أدى من كتابته دية الحر، وما بقي دية المملوك.

وللنسائي من حديث علي مرفوعا: "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى".

قال ابن حزم: هذا خبر صحيح ولا يضره من خطأه، وأن حماد بن زيد أرسله عن أيوب، وأن ابن علية رواه أيضا عن أيوب موقوفا; لأن الثقات الأثبات أسندوه: حماد بن سلمة، ووهيب، ويحيى بن أبي كثير، وقتادة بن دعامة، عن خلاس، عن علي، وما منهم أحد إن لم يكن فوق ابن زيد لم يكن دونه، فكيف وقد أسنده أيضا حماد بن زيد، عن أيوب ويحيى بن أبي كثير، كلاهما عن عكرمة عند النسائي، وأما ما ذكروا من إيقاف ابن علية له على علي؛ فهو قوة للخبر; لأنه أفتى بما روى.

قال ابن حزم: روي عن عمر وعثمان وجابر وأمهات المؤمنين: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولا يصح عن أحد منهم; لأنه عن عمر من طريق ابن أرطاة، وهو هالك، عن ابن أبي مليكة أن عمر مرسل، ومن طريق محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو مثله أو دونه، عن ابن المسيب أن عمر مرسل، ومن طريق سليمان التيمي أن عمر، ومن طريق ابن وهب، عن رجال من أهل العلم أن عمر وعثمان وجابرا، فذكره. والذي عن أمهات المؤمنين من طريق عمر بن قيس سندل وعن أم سلمة من طريق أبي معشر، وهو ضعيف، ولكنه صحيح، عن عائشة [ ص: 258 ] وابن عمر وزيد بن ثابت، ومأثور عن طائفة من التابعين، منهم: عروة وسليمان بن يسار، وصح عن ابن المسيب والزهري وقتادة، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده يرفعه: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".

قلت: أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

وصححه ابن حبان من طريق عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ومن كان مكاتبا على مائة درهم فأداها إلا عشرة دراهم، فهو عبد، أو على مائة أوقية فقضاها إلا أوقية فهو عبد".

قال ابن حزم: وكذا رواه ابن عمر مرفوعا، وهو خبر موضوع إنما يعرف من فتياه. وعن جابر في المكاتب يؤدي صدرا من كتابته ثم يعجز، قال: يرد عبدا، سيده أحق بشرطه الذي شرط.

قال ابن جريج: وأخبرني ابن (أمية) أن نافعا أخبره أن ابن عمر فعل ذلك بعد أن مر نصف كتابة مكاتبه.

وعن علي: إذا عجز المكاتب فأدخل نجما في نجمين، رد في الرق. في سنده ابن أرطاة.

[ ص: 259 ] وعن أبي أيوب الأنصاري، أنه كاتب أفلح، ثم بدا له فسأله إبطال الكتابة دون أن يعجز، فأجابه فرده عبدا ثم أعتقه بتلا، وقد ذكر ذلك مخرمة بن بكير، عن أبيه أنه لا بأس به، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ومالك وأبو سليمان، وقال هؤلاء: تعجيز المكاتب جائز بينه وبين سيده دون السلطان.

ثم اختلف القائلون بتعجيزه، فعن علي: إذا عجز استسعى حولين، فإن أدى وإلا رد في الرق، وبهذا يقول الحسن وعطاء بن أبي رباح، ولم يقل جابر ولا ابن عمر بالتلوم، بل أرقه ابن عمر ساعة وذكر أنه عجز، وبه يقول أبو سليمان وأصحابنا ، وعن علي أيضا في المكاتب يعجز أنه يعتق بالحساب.

قال ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة والحسن بن حي وأبو يوسف وأحمد بن حنبل: لا يرق حتى يتوالى عليه نجمان لا يؤديهما.

وقال الأوزاعي: إذا عجز استوفي به شهران.

[ ص: 260 ] وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا عجز استوفي به ثلاثة أيام فقط ثم يرق.

وقال مالك: يتلوم له السلطان بقدر ما يرى.

وإذا كانت الكتابة نجمين أو أكثر، فأراد العبد تعجيلها كلها أو تعجيل بعضها قبل أجله لم يلزم السيد قبول ذلك ولا عتق العبد، وهي إلى أجلها.

وقال مالك: يجبر السيد على قبض ذلك ويعجل العتق للمكاتب،

محتجين مما روي أن سيرين كاتب أنسا وعجل له كتابته فأبى فكتب إليه عمر بقبولها فقبلها.

وقال الشافعي: إن كانت الكتابة دنانير، أو دراهم، أجبر السيد على قبولها، وإن كانت عروضا لم يجبر.

[ ص: 261 ] فرع: قال ابن عبد البر: عند الشافعي لا يكون حرا بأداء جميع كتابته إلا أن يكون في عقد كتابته، فإذا أديت ذلك فأنت حر يشترط ذلك في نفس الكتابة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك: لا يضر المكاتب أن يقول له مولاه ذلك.

فرع: عن مالك، لا ينبغي أن يطأ مكاتبته، فإن جهل ووطئها فحملت فهي بالخيار؛ إن شاءت كانت أم ولد، وإن شاءت قرت على كتابتها، وهو قول جمهور العلماء، وكان ابن المسيب يجيز للرجل أن يشترط على مكاتبته وطأها، وتابعه أحمد وداود; لأنها بملكه يشترط فيها ما شاء قبل العتق قياسا على المدبرة.

وحجة سائر الفقهاء أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت لا محالة، فأشبه نكاح المتعة، وممن قال ذلك: الحسن وابن شهاب وقتادة والثوري ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي والليث ويحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد والحسن بن حي.

واختلف فيها عن إسحاق؛ فروي عنه مثل قول أحمد، وروي عنه مثل قول الجماعة.

[ ص: 262 ] وأجمعوا أنها إذا عجزت حل له وطؤها، واختلفوا فيما عليه إذا وطئها، فقال أبو الزناد ويحيى: إن طاوعته فلا شيء عليه، وإن استكرهها جلد وغرم لها صداق مثلها، فإن حملت كانت أم ولد وبطلت كتابتها.

وقال الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حي: لا حد عليه بالوطء كارهة أو مطاوعة. إلا أن الشافعي قال: إن كان جاهلا عذر، وإن كان عالما عزر.

وقال مالك: إن استكرهها عوقب.

وقال الحسن والزهري: من وطئ مكاتبة عليه الحد. وقال الأوزاعي: يجلد مائة بكرا كان أو ثيبا، وتجلد الأمة خمسين. وقال قتادة: يجلد مائة إلا سوطا.

وقال أحمد: إن وطئها ولم يشترط أدب، وكان لها عليه مهر مثلها، وأما الصداق فأوجبه لها من أسقط الحد عنها: سفيان بن [ ص: 263 ] سعيد والشافعي وأبو حنيفة، وأوجبه لها الحسن وقتادة وهو ممن يرى الحد على سيدها.

قال أبو حنيفة: الحد والصداق لا يجتمعان. وقال الحكم بن عتيبة: تبطل كتابتها إذا حملت وتصير أم ولد، ولا خيار لها.

تنبيهات:

أحدها: أجمع العلماء أن من شرط ما لا يجوز في السنة أنه لا ينفعه شرطه ذلك، وأنه مردود، في بيع كان الشرط أو عتق أو غير ذلك من الأحكام; لأنه عليه السلام لم يخص شيئا دون غيره، بل عم الأشياء كلها في حديث بريرة، وقد سلف اختلافهم في جواز الشرط في البيع في البيوع. وقوله: (كل شرط ليس في كتاب الله)؛ معناه: في حكم الله وقضائه؛ من كتابه، أو سنة نبيه، أو إجماع الأمة، فهو باطل.

ثانيها: في حديث بريرة دلالة على اكتساب المكاتب بالسؤال، وأن [ ص: 264 ] ذلك طيب لمولاه، وهذا يرد على من قال: ذلك أوساخ الناس; لأن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها، اعتبارا باللحم الذي كان عليها صدقة وللشارع هدية، واعتبارا أيضا بجواز معاملة الناس للسائل، وقد تأول قوم من العلماء في قوله تعالى: وفي الرقاب [البقرة: 177] أنه يجوز للمكاتبين أخذ الزكاة المفروضة، فكيف بالتطوع!

واتفق مالك والكوفيون والشافعي على جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه، وقد روي عن مالك كراهته أيضا وكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق.

ومما يدل على جواز سعي المكاتب وسؤاله أن بريرة ابتدأت بالسؤال، ولم يقل عليه السلام هل لها مال أو عمل أو كسب، ولو كان واجبا لسأل عنه ليقع حكمه عليه; لأنه بعث معلما صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل أن من تأول في قوله (تعالى) : إن علمتم فيهم خيرا [النور: 33] أن الخير المال ليس بالتأويل الجيد، وأنه القوة على الكسب مع الأمانة، وقد يكتسب بالسؤال.

ثالثها: قوله: (واشترطي لهم الولاء)؛ قد سلف في موضعه ما فيه، والمراد: أظهري لهم حكمه وعرفيهم. والاشتراط: هو الإظهار، ومنه: أشراط الساعة. أي: ظهور علاماتها.

[ ص: 265 ] وقال الداودي وغيره: لم يقل لها الشارع ذلك إلا بعد التقدم إليهم وإعلامهم أن الولاء كالنسب، لا يباع ولا يوهب، ومعناه: اشترطي لهم الولاء، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم أن اشتراطه لا يجوز غير نافع، يوضحه قوله معلنا على رءوس الناس: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" فإنما وبخهم بما تقرر عندهم من علم السنة في ذلك، ألا ترى قوله: "قضاء الله حق، وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق" فكان هذا على وجه الوعيد لمن رغب عن سنته في بيع الولاء، وليحذروا من موافقة مثله، ولم يكن ليتوعد في الأمر إلا بعد التقدم فيه.

وقيل: قاله على وجه العقوبة لهم بأن حرمهم الولاء؛ إذ تقدموا على ذلك قبل أن يسألوا وهو بين أظهرهم يوضحه -أي: ربما قال الشيء أو فعله وليس بالأفضل عنده؛ لما يريد من تنكيل الناس وعقوبتهم- أنه عليه السلام نهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، فلما واصل بهم يوما ثم يوما حتى رأوا الهلال وقال: "لو تأخر لزدتكم" كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، ومثله قوله يوم الطائف: "إنا قافلون غدا إن شاء الله"، فقال الناس: قبل أن نفتحها، قال: "فاغدوا على القتال" فغدوا فأصيبوا بجراحات، فقال: "إنا قافلون غدا إن شاء الله"، فسروا بذلك.

رابعها: فيه: أنه كان إذا أراد أن يعاقب في أمر يكون تأديبا لمن عاقبه عليه خطب قائما; ليكون أثبت في قلوبهم وأردع لمن أراد مثل ذلك.

[ ص: 266 ] خامسها: فيه أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، روي ذلك عن عمر وابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء، وهو قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق.

قال مالك: وكل من أدركنا من أهل العلم ببلدنا يقولون ذلك.

وفيها قول آخر: روي عن علي أنه إذا أدى نصف كتابته عتق، كما سلف.

وقال ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة فأدى العبد المائة التي هي قيمته عتق. وهو قول النخعي. وعنه أيضا: أنه إذا أدى ثلث الكتابة عتق. وهو قول شريح.

حجة الجماعة أن الشارع أجاز بيع المكاتب بقوله: "اشتريها وأعتقيها"، فبان بذلك أن عقد الكتابة لا يوجب لها عتقا حتى يؤدى ما انعقد عليه، وأن عتقه يتعلق بشرط الأداء، ولا تخلو الكتابة أن [ ص: 267 ] تجري مجرى العتق بالصفة، فيجب أن لا يعتق إلا بعد أداء جميع الكتابة، كما لو قال: أنت حر إن دخلت الدار؛ فلا يعتق إلا بعد دخولها وإن كان جرى مجرى البيع، فيجب أن لا يعتق أيضا إلا بعد الأداء، كما لو باع عبدا، فإنه لا يلزمه تسليم المبيع إلا بقبض جميع الثمن وإن جرى مجرى الرهن؛ فلذلك لا يستحق أخذ الرهن حتى يؤدي جميع ما عليه.

سادسها: ترجمته بما إذا قال: اشترني وأعتقني، فاشتراه لذلك مما اختلف فيه العلماء؛

فقال الأوزاعي: لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه.

وهو قول أحمد وإسحاق. وقال الكوفيون: لا يجوز بيعه حتى يعجز. وقال الداودي: اختلف قول مالك في فسخ الكتابة بالبيع للعتق. وقال بعض أصحابه: كانت بريرة عجزت، وقد سلف.

وهو دعوى من قائله وتحكم، والحديث يدل على خلافه.

قال ابن المنذر: واختلف عن الشافعي في هذه المسألة، فقال: ولا أعلم حجة لمن قال: ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت. قال الشافعي: وأظهر معانيه: أن لمالك المكاتب بيعه.

[ ص: 268 ] قال ابن المنذر والداودي: وفي تركه سؤال بريرة: هل عجزت أم لا؟ دليل على أن المكاتب يباع للعتق، عجز أو لم يعجز. قال ابن المنذر: وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل أن يبيع عبده قبل أن يكاتبه فعقده الكتابة غير مبطل ما كان له من بيعه، كما هو غير مبطل شيئا كان له من عتقه، ولو لم يكن له بيعه لم يكن له عتقه; لأن بيعه إياه إزالة ملكه عنه كما عتقه سواء، ودل خبر عائشة في قصة بريرة أنها بيعت بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره، ومن قول عوام أهل العلم: أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فلم يمنع الرجل من بيع عبده الذي لو شاء أعتقه، وخبر عائشة مستغنى به عن قول كل أحد.

سابعها: قال الطبري في قوله لعائشة: "اشتريها وأعتقيها" أوضح دليل على أن بريرة إذ عتقت لم تعتق عند عائشة بالتحرير الذي كان من مواليها لها عند عتقها عند الكتابة، ولكنها عتقت لعتق كان من عائشة لها بعد ابتياعها؛ فلذلك جاز ولاؤها لعائشة دون مواليها البائعين لها وفي ذلك أبين البيان الذي كان عقد لها مواليها انفسخ [ ص: 269 ] بابتياع عائشة لها، وهذا يرد قول من زعم أن عائشة أرادت أن تشتري منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة وتؤدي إليهم الثمن; ليكون لها الولاء، ولو كان هذا صحيحا لكان النكير على عائشة دون موالي بريرة; لأنها أرادت أن تشتري الولاء الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وليس الأمر كذلك، وإنما كان الإنكار على موالي بريرة; لأن الولاء لا يباع ولا يكون إلا للمعتق.

ثامنها: فيه أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها، وفي ذلك دليل أنه ليس لزوجها منعها من الكتابة، وإن كان ذلك يؤدي إلى فراقها إياه بغير إذنه إذا خيرت فاختارت نفسها، ولما كان للسيد عتق الأمة تحت العبد وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر، وإن كان في ذلك بطلان زوجيتها كان هذا المعنى يجيز له كتابتها على رغم زوجها.

تاسعها: فيه حجة لقول مالك: إن للمرأة أن تتجر بمالها بغير علم زوجها; لأن عائشة اشترت بريرة، وإنما استأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الولاء خاصة. وفيه: أن للمرأة أن تعتق بغير إذن زوجها.

قال ابن بطال: وقد أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وللناس أوضاع.

قلت: قد بلغوها أكثر من ذلك، فوق الأربعمائة، وقد أشرنا إلى بعضها فيما مضى، وسيأتي بعضها في كتاب النكاح.

التالي السابق


الخدمات العلمية