التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2440 2579 - حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها فقال: " عندكم شيء؟ ". قالت لا، إلا شيء بعثت به أم عطية من الشاة التي بعثت إليها من الصدقة. قال: "إنها قد بلغت محلها". [انظر: 1446 - مسلم: 1076 - فتح: 5 \ 203]


ذكر فيه ستة أحاديث:

أحدها:

حديث عائشة: أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، يبتغون بها -أو يبتغون بذلك- مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيها:

حديث ابن عباس: أهدت أم حفيد -خالة ابن عباس- إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطا، وسمنا، وأضبا.

ثالثها:

حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه: "أهدية أم صدقة؟ " فإن قيل: صدقة. قال لأصحابه: "كلوا". ولم يأكل، وإن قيل: هدية. ضرب بيده فأكل معهم.

رابعها:

حديث أنس: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقيل: تصدق به على بريرة. فقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية".

[ ص: 295 ] خامسها:

حديث عائشة في قصة بريرة وفيه: وأهدي لها لحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا؟ " فقلت: تصدق به على بريرة، قال: "هو لها صدقة، ولنا هدية".

سادسها: حديث أم عطية: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فقال: "أعندكم شيء؟ ". قالت: لا، إلا شيء بعثت به أم عطية من الشاة التي بعثت إليها من الصدقة. قال: "إنها قد بلغت محلها".

الشرح:

في حديث عائشة جواز تحري الهدية ابتغاء مرضات المهدى إليه، وفي حديث ابن عباس إهداء الأقط والسمن والأضب، والأقط سلف بيانه في صدقة الفطر، وهو: لبن مجمد غير منزوع الزبد، والأضب:

جمع ضب، مثل: فلس وأفلس.

وأم حفيد خالة ابن عباس، بضم الحاء المهملة.

وقول ابن عباس: (لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ احتجاج حسن، وهو قول الفقهاء كافة، ونص عليه مالك في "المدونة"، وعنه رواية بالمنع، وعن أبي حنيفة الكراهة.

وقد روى مالك في حديث الضب أنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس وخالد بن الوليد بأكله في بيت ميمونة، وقالا له: لم لا تأكل يا رسول الله؟ فقال: "إني يحضرني من الله حاضرة"؛ يعني: الذين يناجيهم، ورائحة الضب [ ص: 296 ] ثقيلة؛ ولذلك تقذره خشية أن يؤذي الملائكة بريحه، ففيه من الفقه: أنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه؛ لقلة عادته لأكله ولزومه.

وقوله: (أكل على مائدته)؛ قال الداودي: يعني القصعة والمنديل ونحوهما; لأن أنسا قال: ما أكل على خوان قط، وأصل المائدة من الميد، وهو العطاء. يقال: مادني يميدني.

وقال أبو عبيدة: هي فاعلة بمعنى مفعولة من العطاء. وقال الزجاج: هي عندي من: ماد يميد؛ إذا تحرك. وقال ابن فارس: هي من ماد يميد؛ إذا أطعم، وقال قوم: مادني يميدني؛ إذا أنعشني، ومنه المائدة.

قال: والخوان -فيما يقال- اسم أعجمي غير أني سمعت إبراهيم بن علي القطان يقول: سئل ثعلب وأنا أسمع: أيجوز أن يقال: إن الخوان سمي بذلك; لأنه يتخون ما عليه؟ أي: ينتقص. فقال: ما يبعد ذلك.

وفي حديث أبي هريرة: حرمة الصدقة عليه دون غيره، وفي آله خلاف، والأصح عندنا إلحاقهم به في الفرض دون التطوع، وهي [ ص: 297 ] عند المالكية حرام على آله -أعني: التطوع-، خلافا لابن القاسم.

وقال أصبغ: يكره. ذكره ابن التين.

وقد علل الشارع كونه لا يتناولها؛ لأنها أوساخ الناس، وأخذها أيضا؛ لقوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" والأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن مواضع الضعة والذلة، والصدقة لا تنبغي للأغنياء، وقد عدد الله على نبيه كونه وجده عائلا فأغناه، فكذا حرمت عليه الصدقة، ومن أعلام نبوته عدم قبولها، بخلاف الهدية. وقوله في لحم بريرة: "هو لها صدقة، ولنا هدية".

وقوله: "قد بلغت محلها"؛ فإن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع، والهدية، وغير ذلك; لصحة ملكه لها، فلما أهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة، حلت لها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحولت عن معنى الصدقة لملك المتصدق عليه بها؛ ولذلك قال: "وهي لنا هدية"؛ أي: من قبلها، و"قد بلغت محلها"؛ أي: صارت حلالا بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية; لأن الهدية جائز أن يثيب عليها بمثلها، وأضعافها، على المعهود منه صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك شأن الصدقة، وقد أسلفنا هذه المعاني فيما مضى أيضا، وأعدناها؛ لطول العهد بها.

وقول عبد الرحمن في زوج بريرة: (لا أدري حر أو عبد).

المشهور أنه عبد، وهو قول مالك والشافعي، وعليه أهل الحجاز، وهو ما ذكره النسائي عن ابن عباس، واسمه مغيث كما سلف، وذكره [ ص: 298 ] أبو داود، والنسائي عن عائشة، وخالف أهل العراق فقالوا: كان حرا.

وفيه: أن للحرة أن تنكح العبد; لتخييره بريرة في بقائها معه وهو عبد.

قال الداودي: والذي بعثت به أم عطية، إنما بعثت به إلى عائشة هدية، وظنت عائشة أنه إذا كان أصلها صدقة لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل أنه كان قبل لحم بريرة، أو إنما تأولت أن أم عطية ابتدأت بتوجيهه، وأن بريرة لم تبتدئ بإعطائه، أو يكون في أحد الحديثين وهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية