التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2491 2634 - حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن عمرو، عن طاوس قال: حدثني أعلمهم بذاك -يعني: ابن عباس رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أرض تهتز زرعا فقال: "لمن هذه". فقالوا: اكتراها فلان. فقال: " أما إنه لو منحها إياه كان خيرا له من أن يأخذ عليها أجرا معلوما". [انظر: 2330 - مسلم: 1550 - فتح: 5 \ 243]


ذكر فيه أحاديث:

أحدها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة، والشاة الصفي تغدو بإناء وتروح بإناء". وفي رواية: "نعم الصدقة".

[ ص: 445 ] وأخرجه مسلم بلفظ: "إلا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو (بعس) وتروح (بعس) إن أجرها لعظيم".

وفي لفظ: "منحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها".

ثانيها: حديث أنس: لما قدم المهاجرون المدينة.. الحديث.

وفيه: وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم. وقد سلف.

ثالثها: حديث عبد الله بن عمرو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة". قال حسان -يعني ابن عطية-: فعددنا ما دون منيحة العنز؛ من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة.

رابعها: حديث جابر.

خامسها: حديث أبي سعيد.

سادسها: حديث ابن عباس.

وقد سلفت في مواطنها.

[ ص: 446 ] و (المنيحة): هي الناقة والشاة ذات الدر، يعار لبنها ثم يرد إلى أهلها كما أسلفناها فيما مضى، والمنيحة عند العرب كالإفقار والرقبى والعمرى والعارية، كما سلف، وهي تمليك المنافع لا الرقاب، ألا ترى قوله في حديث أنس: فلما فتح الله على رسوله غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم وثمارهم.

وقوله في حديث جابر: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه"، إنما يريد: يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر; يبينه قوله في حديث ابن عباس: "أما إنه لو منحها إياه لكان خيرا له من أن يأخذ عليها أجرا".

وقوله في حديث أبي سعيد بعد أن سأل رسول الله صاحب الإبل: أنه كان يؤدي صدقتها قال: "فهل تمنح مئها شيئا؟ ". فدل على أن المنيحة غير الصدقة; لأنها قد تضمنها الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التي حض الشارع أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام، هي تمليك المنافع لا الرقاب.

و (اللقحة): الناقة التي لها لبن يحلب، جمعها لقاح، وهي بكسر اللام; لأنه بالفتح: المرة الواحدة من الحلب، وقيل: فيهما بالفتح والكسر.

والصفي: الغزيرة اللبن.

[ ص: 447 ] وقوله: (تغدو بإناء وتروح بإناء)؛ يعني أنها تغدو بأجر حلبها في الغدو والرواح. كذا في ابن بطال. وقال ابن التين: أي: بحلب إناء بالغداة، وإناء بالعشي.

ومن روى: "نعم الصدقة" روى أحدهما بالمعنى; لأن المنيحة العطية، والصدقة أيضا العطية.

والصبوح: الشرب في وقت الغداة.

والغبوق: شرب العشي.

والسنة أن تؤدى المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد - عليه السلام- إلى أم سليم عذاقها، وكما رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم حين استغنوا بخيبر.

والمنيحة وغيرها، مما تقدم من باب الصلة، لا من باب الصدقة; لأنها لو كانت صدقة لما حلت للشارع، ولكانت عليه حراما ولو كان في أخذها غضاضة لما قبلها.

وأما قوله: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز)؛ أي: المعز ولم يذكرها، ومعلوم أنه - عليه السلام- كان عالما بها أجمع; لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها; وذلك -والله أعلم- خشية أن يكون التعيين لها، والترغيب فيها، زهدا في غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه - عليه السلام - من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا يحصى كثرة.

[ ص: 448 ] وليس قول حسان بن عطية السالف: (فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة); بمانع أن يجدها غيره، فقصرت أفهامهم عن إدراكها.

قال ابن بطال: وقد بلغني عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها في الأحاديث فوجد حسابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة، فمنها أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة فقال له: "إن كنت قصرت في الخطبة لقد أعرضت المسألة" فذكر له عتاقات، ثم قال له: "والمنحة الركوب الغزيرة الدر، والفيء على ذي الرحم القاطع، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن" فهذه ثلاث خصال، أعلاهن المنحة، وليس الفيء على ذي الرحم منها; لأنها أفضل من منيحة العنز، وإنما شرط أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز.

ومنها السلام على من لقيت، وفي الحديث: "من قال: السلام عليك، كتبت له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله، كتب له عشرون، ومن زاد: وبركاته، كتبت له ثلاثون حسنة".

وتشميت العاطس; وفي الحديث: "ثلاث تثبت لك الود في صدر أخيك: إحداهن: تشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق".

[ ص: 449 ] وفي الحديث: أن رجلا أخذ غصن شوك من الطريق فشكر الله له فغفر له.

وإعانة الصانع، والصنعة لأخرق، وإعطاء صلة الحبل، وإعطاء شسع النعل، وأن يؤنس الوحشان.

وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف فقال: "لا تحقرن منه شيئا ولو شسع النعل، ولو أن تعطي الحبل، ولو أن تؤنس الوحشان".

وقال أبو سليمان الخطابي: وقيل: في تأويل أنس الوحشان وجهان:

أحدهما: أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل.

والوجه الآخر: أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة، المستوحش بها، يحمله فيبلغه مكان الأنس. والأول أشبه.

وكشف الكربة عن مسلم، قال - عليه السلام-: "من كشف عن أخيه كربة؛ كشف الله عنه كربة من كربات يوم القيامة".

وكون المرء في حاجة أخيه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".

وستر المسلم؛ قال - عليه السلام-: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".

[ ص: 450 ] والتفسح لأخيك في المجلس، قال تعالى: فافسحوا يفسح الله لكم [المجادلة: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث تثبت لك الود في صدر أخيك: إحداهن أن توسع له في المجلس، وإدخال السرور على المسلم، ونصر المظلوم، والأخذ على يد الظالم". وقال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما".

والدلالة على الخير: قال صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله".

والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس: قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء: 114]. وقول طيب ترد به المسكين؛ قال تعالى: قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى [البقرة: 263]، وقال تعالى: وقولوا لهم قولا معروفا [النساء: 8]، وقال - عليه السلام -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".

[ ص: 451 ] وأن تفرغ من دلوك في إناء المستقي؛ أمر به - عليه السلام- الذي سأله عن المعروف.

وغرس المسلم وزرعه; قال - عليه السلام- "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له صدقة".

والهدية إلى الجار; قال - عليه السلام-: "لا تحقرن" الحديث.

والشفاعة للمسلمين؛ فإن الله تعالى قال: من يشفع شفاعة حسنة الآية [النساء: 85] وقال صلى الله عليه وسلم : "اشفعوا تؤجروا".

ورحمة عزيز ذل، وغني قوم افتقر، وعالم بين جهال؛ روي ذلك في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعيادة المرضى; وفي الحديث: "عائد المريض على مخارف الجنة"، و"عائد المريض يخوض في الرحمة، فإذا جلس عنده استقرت به الرحمة".

والرد على من يغتاب أخاك المسلم؛ وفي الحديث: "من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكا يوم القيامة يحمي لحمه من النار [ ص: 452 ] ومصافحة المسلم؛ ففي الحديث: "لا يصافح مسلم مسلما فتزول يده من يده; حتى يغفر لهما".

وفي آخر: "تصافحوا يذهب الغل".

والتحاب في الله، والتجالس في الله، والتزاور في الله، والتباذل في الله؛ قال تعالى: "وجبت محبتي لأصحاب هذه الأعمال الصالحة".

وعون الرجل للرجل في دابته؛ يحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه، صدقة، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر النصح لكل مسلم.

قلت: ومن الخصال: الحب في الله، والإعلام بالمحبة، وفي الإعلام بالبغض قولان.

تنبيهات:

أحدها: قوله في حديث أنس: (فقاسمهم الأنصار)؛ قال الداودي: يعني: حالفوهم كالحلف الذي كان في الجاهلية بالأيمان، ومنه قوله تعالى: وقاسمهما [الأعراف 21]

و (العذاق) -بالكسر-: جمع عذق، وهي النخلة، ككلب وكلاب.

[ ص: 453 ] ثانيها: قول ابن شهاب: (لما فرغ من خيبر انصرف إلى المدينة رد المهاجرون للأنصار منائحهم) كذا هنا، وفي رواية أخرى: لما أفاء الله عليه أموال بني النضير وأراد قسم ما سوى الرباع قال للأنصار: إن شئتم يقسم على ما كنتم عليه وقسمت لكم معهم، وإن شئتم رجعت إليكم أموالكم وقسمت إليهم دونكم. فاختاروا أخذ أموالهم.

فيحتمل أن يكون بعض الأنصار تركوا أخذ أموالهم وأخذ بعضهم.

قال ابن شهاب: وكانت وقعة النضير سنة ثلاث في المحرم. وخالفه غيره، فقال: سنة أربع، وغزوة خيبر كانت سنة ست.

وقوله: (أعطاها من حائطه)، وفي رواية أخرى بعدها: من خالصه، والمعنى واحد; لأن حائطه صار له خاصا.

ثالثها: معنى: (يترك): ينقصك؛ لقوله تعالى: ولن يتركم أعمالكم [محمد: 35]؛ أي: لن ينقصكم.

وقوله: (اعمل من وراء البحار)؛ أي: إذا فعلت هذا فالزم أرضك وإن كانت من وراء البحار؛ فإنك لا تحرم أجر الهجرة؛ وذلك أنه جمع بين أقطار الخير الواجبة، والمنحة التي هي بر وصلة.

وقوله: (فيحلبها يوم وردها)؛ أي: يسقي لبنها، وهو معروف.

وحديث أبي سعيد في الأصول: (حدثنا محمد بن يوسف). وفي بعض النسخ: وقال محمد بن يوسف، والآخر صواب؛ لأنه عرض ومذاكرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية