التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2506 [ ص: 503 ] 2649 - حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام. [انظر: 2314 - مسلم: 1689 - فتح: 5 \ 255]


ثم ساق حديث عروة بن الزبير، أن امرأة سرقت في غزوة الفتح، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر [بها] فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحديث زيد بن خالد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام.

الشرح:

معنى قوله تعالى: إلا الذين تابوا [البقرة:160] أنه يزول فسقهم ولا يسقط الحد عنهم، وتقبل شهادتهم قبل الحد وبعده; لارتفاع فسقه، قاله الجمهور، وقيل: لا تقبل مطلقا.

وقيل: لا تقبل بعد الحد وتقبل قبله. وقيل عكسه.

وتوبته بإكذابه نفسه، أو بالندم والاستغفار، وترك العود إلى مثله، ومحل بسطها التفسير، وقد بسطناها في "شرح منهاج الأصول".

وقال ابن التين: في الآية ثلاثة أقوال:

الأول: هو استثناء من قبول الشهادة، وهو مذهب المديني.

والثاني: الاستثناء من الفسق، وهو مذهب أبي حنيفة.

والثالث: الاستثناء من الأحكام الثلاثة.

[ ص: 504 ] فإذا تاب قبلت شهادته، وزال عنه الحد واسم التفسيق.

ذكر هذا عن الشعبي، قال: وهو خلاف ما ذكره عنه البخاري أولا.

والتعليق الأول رواه الشافعي، عن سفيان، سمعت الزهري يقول: زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، فأشهد لأخبرني أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكرة: تب وأقبل شهادتك.

قال سفيان: سمى الزهري الذي أخبره فحفظت ثم نسيته، فلما قمنا سألت: من حضر؟ فقال لي: عمر بن قيس هو ابن المسيب، قال الشافعي: فقلت له: هل شككت فيما قال؟ قال: لا، هو ابن المسيب من غير شك.

قال الشافعي: فكثيرا ما سمعته يحدث به فيسمي سعيدا، وكثيرا ما سمعته يقول عن سعيد -إن شاء الله- قال البيهقي: وقد رواه غيره من أهل الحفظ عن سعيد ليس فيه شك بزيادة: أن عمر استتاب الثلاثة فتاب اثنان فأجاز شهادتهما، وأبى أبو بكرة فرد شهادته.

وروى أحمد بن شيبان، عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك.

وروى سليمان بن كثير، عن الزهري، عن سعيد: أن عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافع: من تاب منكم قبلت شهادته.

[ ص: 505 ] قال الطحاوي: ابن المسيب لم يأخذه عن عمر إلا بلاغا; لأنه لم يصح له عنه سماع وإن كان رآه وسمع نعيه النعمان، والدليل على أن الحديث لم يكن عند سعيد بالقوي أنه كان يذهب إلى خلافه، روى عنه قتادة، وعن الحسن أنهما قالا: القاذف إذا تاب توبته فيما بينه وبين ربه جل وعز، ولا تقبل له شهادة، ويستحيل أن يسمع من عمر شيئا بحضرة الصحابة ولا ينكرونه عليه، ولا يخالفونه ثم يتركه إلى خلافه.

وروى أبو الفرج الأصبهاني في "تاريخه الكبير" بإسناد جيد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا: ثنا أبو زيد عمر بن شبة، ثنا عفان، ثنا عبد الكريم بن رشيد، عن أبي عثمان النهدي قال: لما شهد على المغيرة بن شعبة عند عمر استتاب أبا بكرة وقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي قال: أجل، الحديث.

ولأبي داود الطيالسي: حدثنا قيس بن سالم الأفطس، عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل ليشهده قال: أشهد غيري؛ فإن المسلمين قد فسقوني، فإن قلت: إذا لم يتب فكيف ذكر في الصحيح، وأجاب الإسماعيلي في "مدخله" بأن الخبر مخالف للشهادة؛ ولهذا لم يتوقف أحد من أهل المصرين في الرواية عنه، ولا طعن أحد على روايته من هذه الجهة مع إجماعهم إلا شهادة المحدود في قذف غير ثابت، فصار قبول خبره جاريا مجرى الإجماع; كما كان رد الشهادة قبل التولية جاريا مجرى الإجماع.

[ ص: 506 ] وما حكاه البخاري عن عبد الله وغيره من إجازته، قال ابن حزم في "محلاه": ومن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: القاذف إذا تاب فشهادته عند الله في كتاب الله، وصح أيضا عن عمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعطاء وطاوس ومجاهد وابن أبي نجيح والشعبي والزهري وحبيب بن أبي ثابت وعمرو بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري وسعيد بن المسيب وعكرمة وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وابن قسيط ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وشريح، وهو قول عثمان البتي وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد وإسحاق وبعض أصحابنا.

وفي "سنن سعيد بن منصور": أنا هشيم، ثنا حصين قال: رأيت رجلا جلد حدا في قذف بالزنا فلما فرغ من ضربه أحدث توبة، فلقيت أبا الزناد فأخبرته بذلك، فقال: الأمر عندنا إذا رجع عن قوله واستغفر ربه قبلت شهادته. وأراد البخاري بما نقله عن بعض الناس أبا حنيفة، وقد حكاه ابن حزم، عن ابن عباس بإسناده من طريق ابن جريج، عن عطاء الخراساني عنه أنه قال: شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب.

قال ابن حزم: وصح ذلك أيضا عن الشعبي ومسروق في أحد قوليهما، والنخعي وابن المسيب في أحد قوليه، والحسن البصري ومجاهد في أحد قوليه، وعكرمة في أحد قوليه، وشريح وسفيان بن [ ص: 507 ] سعيد، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ثم قال بعد: وأما أبو حنيفة فما نعلم له سلفا في قوله إلا شريحا وحده، فقد خالف جمهور العلماء في ذلك، وهو غريب منه مع جلالته.

وقد أخرج البيهقي من حديث المثنى بن الصباح، وآدم بن فائد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعا: "لا تجوز شهادة خائن ولا محدود في الإسلام".

وأخرجه أبو سعيد النقاش في كتاب "الشهود" تأليفه من حديث جراح، ومحمد بن عبيد الله العرزمي وسليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، وأخرجه أحمد بن موسى بن مردويه في "مجالسه" من حديث المثنى عن عمرو، عن أبيه عبد الله بن عمرو، وأخرجه الترمذي من حديث (يزيد بن أبي زياد الدمشقي)، عن الزهري، عن عروة عن عائشة. فذكرته مرفوعا مثله.

[ ص: 508 ] ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد، ويزيد يضعف في الحديث.

وفي "علل الرازي": قال أبو زرعة: هذا حديث منكر ولم يقرأه علينا.

وأخرج الدارقطني من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، فذكر مثله مرفوعا، وهو ضعيف بسبب يحيى بن سعيد الفارسي وغيره.

وعتب البخاري على أبي حنيفة التزوج بشهادة محدودين، قد يجاب عنه بأن حالة التحمل لا يشترط فيها العدالة، كما ذكر عن بعض الصحابة أنه تحمل في حال كفره ثم روى بعد إسلامه.

وعتبه عليه أيضا بأنه أجاز شهادة المحدود والعبد والأمة، برؤية هلال رمضان؛ فقد يقال: إنه أجراه مجرى الخبر، وهو يخالف الشهادة في المعنى; لأن المخبر له يدخل في حكم ما شهد به.

وقول البخاري: (وكيف تعرف توبته وقد نفي الزاني سنة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة؟).

[ ص: 509 ] هذان قد أسندهما كما سيأتي.

(التقدير).

قال ابن بطال: باب: شهادة القاذف والسارق والزاني وباب: وكيف تعرف توبته؟ وكثيرا ما يفعله البخاري يردف ترجمة على ترجمة وإن بعد ما بينهما.

وأراد بقوله: (وكيف تعرف توبته؟) إلى آخر الكلام، الاحتجاج لقول مالك أنه ليس من شرط توبة القاذف تكذيب النفس، وتخطئتها، والرد على من خالفه في أنه من شروط التوبة.

ووجه ذلك أنه - عليه السلام- بعث معلما للناس وأمرهم بالتوبة من ذنوبهم، ولم يأمرهم بأن يعلموا بأنهم كانوا على معاصي الله، بل أمرهم بسترها.

واستدل البخاري أن القاذف يكون تائبا بصلاح الحال دون إكذابه لنفسه، أو اعترافه أنه عصى الله، أو خالف أمره بلسانه حين لم يشترط ذلك على الزاني في مدة تغريبه، ولا كعب بن مالك وصاحبيه في الخمسين ليلة، فإن ادعى اختصاص توبة القاذف بذلك، فالبيان لازم عليه.

وقال ابن المنير: المشكل في هذا توبة القاذف المحق إذا لم يكمل النصاب. أما الكاذب في القذف فتوبته بينة، فأما الصادق في قذفه كيف يتوب فيما بينه وبين الله تعالى؟

[ ص: 510 ] وأشبه ما في ذلك عندي أن المعاين للفاحشة لا يجوز أن يكشف صاحبها إلا إذا تحقق كمال النصاب معه، فإذا كشفه حيث لا نصاب فقد عصى الله، وإن كان صادقا فيتوب من المعصية في الإعلان لا من الصدق.

وأما حديث السارقة فأخرجه مسلم والأربعة.

وقوله فيه: (حدثنا إسماعيل: حدثني ابن وهب عن يونس.

وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة) هذا التعليق -أعني تعليق الليث- أخرجه أبو داود عن محمد بن يحيى بن فارس، عن أبي صالح عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس، وأخرجه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب القطع والسرقة من حديث عبد الله بن الجهم: حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن الزهري، عن عروة، عن أم سلمة، قال ابن أبي حاتم في "علله": رواه معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أتي بامرأة استعارت حليا فقطع يدها.

وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، قال أبي: لم يرو هذين الحديثين غير معمر.

فأما حديث أيوب؛ فإن الناس يحدثون عن نافع عن صفية: أتي عمر بسارق.

ليس فيه ذكر العارية.

[ ص: 511 ] وأما حديث الزهري؛ فإنه أراد عندي حديث عروة، عن عائشة أن رجلا أقطع نزل على أبي بكر، فجعل يطيل الصلاة بالليل، قال: وكان حماد بن زيد يختلف إلى أبواب جماعة، فخرج واحد إلى اليمن،

فحدث، عن أيوب بأحاديث وكأنه ليس من حديث أيوب.

قلت: وهذه المرأة اسمها فاطمة بنت الأسود، ووجه إدخال البخاري حديث عائشة في الباب؛ لقولها فيه: (فحسنت توبتها); لأن فيه دلالة أن السارق إذا تاب وحسنت حاله، قبلت شهادته.

وأما حديث زيد بن خالد فوجه إدخاله هنا أنه - عليه السلام- لم يشترط عليه بعد الحد والتغريب شيئا، ولو كان شرطا فمقبول شهادته لذكره، وإنما ذكر قول الثوري وأبي حنيفة؛ ليلزمهم التناقض في قولهما أن القاذف لا تجوز شهادته وهم يجيزونها في مواضع، وأجاز الثوري شهادة العبد إذا جلد قبل العتق.

وهذا تناقض; لأن من قذف فقد فسق، وليس العتق توبة، وهو لو قذف بعد العتق وتاب لم تجز شهادته عنده، وكذلك أجاز قضايا المحدود في القذف، وهذا تناقض; فكيف تجوز قضايا المحدود ولا تجوز شهادته؟ وكذلك يلزم أبا حنيفة التناقض في إجازته النكاح بشهادة محدودين، وإنما أجاز ذلك; لأن من مذهبه أن الشهود في النكاح خاصة على العدالة، وفيما سوى ذلك على الجرحة، وهذا تحكم.

[ ص: 512 ] وحكاية هذا القول مغن عن الرد عليه، وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة النكاح بشهادة فاسقين.

وقد أجمع أهل العلم على رد شهادتهم، وأبطل النكاح بشهادة عبدين.

وقد اختلف أهل العلم في قبول شهادتهم، والنظر دال على أن شهادتهم مقبولة إذا كانا عدلين.

ودليل القرآن: وهو قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات: 13] وأما إجازته شهادة المحدود في هلال رمضان؛ فإنه أجرى ذلك مجرى الخبر، وهو يخالف الشهادة في المعنى كما سلف; لأن المخبر له مدخل في حكم ما شهد به.

وهذا غلط; لأن الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم شاهد، ولا يسمى مخبرا، فحكمه حكم الشاهد في المعنى; لاستحقاقه ذلك بالاسم.

وأيضا؛ فإن الشهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن يكون يقبل في الأحكام إلا من تجوز شهادته في كل شيء، ومن جازت شهادته في هلال رمضان ولم تجز في القذف فليس بعدل، ولا هو ممن يرضى; لأن الله تعالى إنما تعبدنا بقبول من نرضى من الشهداء.

وأوضح الخلاف في مسألة القاذف ابن بطال أيضا؛ حيث قال: اختلف العلماء في شهادة القاذف، هل ترد شهادته قبل الحد أم لا؟ فروى ابن وهب، عن مالك أنه لا ترد شهادته; حتى يحد، وهو قول [ ص: 513 ] الكوفيين، وقال الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد، وهو قول ابن الماجشون.

حجة من أجازها قبل الحد; بأن الحد لا يكون إلا بأن يطلبه المقذوف ويعجز القاذف عن البينة، فإذا لم يؤمن عليه أن يعترف بالزنا أو تقوم عليه بينة، فلا يفسق القاذف ولا يحد; لأنه على أصل العدالة حتى يتبين كذبه.

وحجة الشافعي أنه بالقذف يفسق; لأنه من الكبائر، ولا تقبل شهادته حتى تصح براءته، بإقرار المقذوف له بالزنا أو قيام البينة عليه.

وهو عنده على الفسق; حتى تتبين براءته ويعود إلى العدالة، وهو قبل الحد شر حالا منه حين يحد; لأن الحدود كفارات للذنوب، وهو بعد الحد خير منه قبله، فكيف أرد شهادته في خير حالتيه، وأجيزها في شرها؟

قال: واختلفوا إذا حد وتاب؛ فقال جمهور السلف: إذا تاب وحسنت حالته قبلت شهادته.

وممن روي عنه سوى ما ذكره البخاري -في قول ابن المنذر- عطاء، واختلف فيه عن ابن المسيب، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد.

وممن قال: إن شهادته لا تجوز أبدا وإن تاب، شريح والحسن [ ص: 514 ] والنخعي وسعيد بن جبير، وهو قول الثوري والكوفيين وقالوا: توبته فيما بينه وبين الله. قال: وأما المحدود في الزنا والسرقة والخمر، إذا تابوا قبلت شهادتهم.

واحتج الكوفيون في رد شهادة القاذف; بعموم ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا [النور: 4] وقالوا: إن الاستثناء في قوله إلا الذين تابوا [النور: 5] راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.

وقال آخرون: الاستثناء راجع إلى الفسق والتوبة جميعا، إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له، وإذا قبل الكوفيون شهادة الزاني والمحدود في الخمر والقاذف إذا تابوا، والمشرك إذا أسلم، وقاطع الطريق، ثم لا تقبل شهادة من شهد بالزنا فلم تتم الشهادة فجعل قاذفا.

وقام الإجماع على (أن) التوبة تمحو الكفر، فوجب أن يكون ما دونه أولى، وقد قال الشعبي: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته؟!

واحتجوا بأن عمر جلد الذين قذفوا المغيرة واستتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وكان هذا بحضرة جماعة من الصحابة من غير نكير، ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبولها أبدا.

ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب فسقط قولهم.

[ ص: 515 ] واختلف قول مالك وأصحابه، هل تقبل شهادته في كل شيء، فروى عنه ابن نافع أن المحدود إذا حسنت حاله قبلت شهادته في كل شيء، وهي رواية ابن عبد الحكم عنه، وهو قول ابن كنانة، ورواه أبو زيد عن أصبغ، وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته، فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك إذا تاب، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله، والقول الأول أولى; لعموم الاستثناء ورجوعه إلى أول الكلام وآخره، ومن ادعى تخصيصه فعليه الدليل.

واختلف مالك والشافعي في توبة القاذف ما هي؟

فقال الشافعي: توبته أن يكذب نفسه.

روي ذلك عن عمر، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وقال مالك: توبته أن يزداد خيرا.

ولم يشترط إكذاب نفسه في توبته؛ لجواز أن يكون صادقا في قذفه.

قال المهلب: وكان المسلمون احتجوا في هذا على أبي بكرة; ألا ترى أنهم يروون عنه الأحاديث ويحملون عنه السنة، وهو لم يكذب نفسه وقد قال له عمر: ارجع عن قذفك المغيرة ونقبل شهادتك.

وإنما قال له ذلك عمر -والله أعلم-؛ استظهارا له كمال التوبة والرجوع عما قال في القذف، وإن كان يجتزأ بصلاح حاله عن تكذيب نفسه في قبول شهادته.

[ ص: 516 ] خاتمة في تلخيص ما مضى: في الآية التي ذكرها البخاري ثلاثة أحكام: جلده، وترك قبول شهادته، وتفسيقه.

وللعلماء فيها ثلاثة أقوال أسلفناها:

أحدها: قول عمر هذا أن الاستثناء من قبول الشهادة، وهو قول أهل المدينة، ومذهب مالك.

واختلف مذهبه أنه هل تسقط شهادته بنفس القذف؟ وهو مذهب عبد الملك، أو حين يعجز عن إثبات ذلك، قاله ابن القاسم.

واختلف أيضا إذا قبلناها، هل تقبل في كل شيء؟-قاله ابن القاسم- أو لا تقبل في القذف؟ قاله مطرف وابن الماجشون.

والقول الثاني: أن الاستثناء من الفسق، وأنه إن تاب لا تقبل شهادته، وهو قول الكوفيين، وهو ما حكاه البخاري عن بعض الناس، وهو الكوفي، وهي مناقضة بينة.

والثالث: أن الاستثناء من الثلاثة، فإذا تاب قبلت شهادته.

واختلف في صفة توبته: فقيل: هو أن يزيد خيرا على ما كان. قاله مالك، وقيل: هو أن يكذب نفسه، وهو قول عمر.

وفائدة قوله تعالى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا [النور: 4] أي: مقدار مدة حياته، ومقدار انقضاء وقته، فالمعنى: لا تقبل ما دام قاذفا. قال ابن التين: وهذا من جهة المعنى في اللغة وكلام العرب يوجب قبول شهادته.

وحديث زيد بن خالد حجة على أبي حنيفة في التغريب أنه لا يجب إلا إذا رآه الإمام. وقال الشافعي به في المرأة والعبد، وخالف مالك فيهما. قال الداودي: وما ذكره البخاري من تغريب الزاني وجلده ليس من طريق الشهادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية