التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
235 237 - حدثنا أحمد بن محمد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذ طعنت، تفجر دما، اللون لون الدم، والعرف عرف المسك". [2803، 5523 - مسلم: 1876 - فتح: 1 \ 343]


(وقال الزهري: لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح أو لون).

[ ص: 464 ] وهذا رواه عنه عبد الله بن وهب في "جامعه" فيما حكاه ابن عبد البر عن يونس عنه، وإنما ذكره البخاري من قول هذا الإمام; لأنه روي في حديث أبي أمامة الباهلي وغيره، وإسناده ضعيف. نعم، هو إجماع [ ص: 465 ] ...........................

[ ص: 466 ] كما نقله الإمام الشافعي، حيث قال: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه ولونه كان نجسا، فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه خلافا.

قال ابن بطال: وقول الزهري هو قول الحسن والنخعي والأوزاعي، ومذهب أهل المدينة، وهي رواية أبي مصعب، عن مالك، وروي عن ابن القاسم: أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، وإن لم يظهر فيه، وهو قول الشافعي.

قال المهلب: وهذا عند أصحاب مالك على سبيل الاستحسان والكراهية لعين النجاسة وإن قلت.

قال البخاري: وقال حماد: لا بأس بريش الميتة.

[ ص: 467 ] وهذا رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، عن معمر، عن حماد بن أبي سليمان أنه قال: لا بأس بصوف الميتة، ولكنه يغسل، ولا بأس بريش الميتة.

وهذا مذهب أبي حنيفة أيضا; لقوله في عظام الفيل بناء على أصله أن لا روح فيها، وعند مالك والشافعي نجسة.

وقال ابن حبيب: لا خير في ريش الميتة; لأنه له سنخ، أما ما لا سنخ له مثل الزغب وشبهه، فلا بأس به إذا غسل.

قال ابن المنير: ومقصود البخاري بما ترجم له أن المعتبر في النجاسات الصفات، فلما كان ريش الميتة لا يتغير بتغيرها; لأنه لا تحله الحياة طهر، وكذلك العظام، وكذا الماء إذا خالطه نجاسة ولم تغيره، وكذلك السمن البعيد عن موضع الفأرة إذا لم يتغير، كما ساقه البخاري بعد.

وقال ابن بطال: رواية ابن القاسم، عن مالك أن قليل الماء ينجس وإن لم يتغير; يستنبط من حديث الفأرة فإنه صلى الله عليه وسلم منع من أكل السمن لما خشى أن يكون سرى فيه من الميتة المحرمة، وإن لم يتغير لون السمن أو ريحه أو طعمه بموت الفأرة فيه.

قال البخاري: وقال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، لا يرون به بأسا.

[ ص: 468 ] هو مذهب أبي حنيفة - أعني: في عظم الفيل ونحوه- وخالف مالك والشافعي فقالا بنجاسته لا يدهن فيه ولا يمتشط، إلا أن مالكا وأبا حنيفة قال: إذا ذكي الفيل فعظمه طاهر. وخالف الشافعي فقال: الذكاة لا تعمل في السباع.

وروى الشافعي عن إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه كان يكره أن يدهن في مدهن من عظام الفيل; لأنه ميتة.

وفي لفظ: إنه كان يكره عظام الفيل - يعني: مطلقا- وفي "المصنف": وكرهه عمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس.

وأما حديث ابن عباس الموقوف: إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال.

[ ص: 469 ] فتفرد به أبو بكر الهذلي، عن الزهري كما قال يحيى بن معين، وليس بشيء، قال البيهقي: وقد روى عبد الجبار بن مسلم - وهو ضعيف- عن الزهري شيئا معناه.

وحديث أم سلمة مرفوعا: "لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بشعرها إذا غسل بالماء" إنما رواه يوسف بن السفر، وهو متروك، وقال ابن المواز: نهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل ولم يطلق تحريمهما; لأن عروة وابن شهاب وربيعة أجازوا الامتشاط بها.

قال ابن حبيب: وأجاز الليث وابن الماجشون وابن وهب ومطرف وأصبغ الامتشاط بها والادهان فيها، فأما بيعها فلم يرخص فيه إلا ابن وهب، قال: إذا غليت جاز بيعها، وجعله كالدباغ لجلد الميتة يدبغ أنه يباع.

[ ص: 470 ] وقال الليث وابن وهب: إن غلي العظم في ماء سخن وطبخ، جاز الادهان به والامتشاط.

فائدة:

قول الزهري: يدهنون يجوز في قراءته ثلاثة أوجه: ضم الياء وإسكان الدال، أي: يدهنون رءوسهم ولحاهم ونحو ذلك.

وثانيها: تشديد الدال وفتح الهاء وتشديدها.

ثالثها: فتح الدال وتشديدها وكسر الهاء من ادهن افتعل. قال

السفاقسي: وهو ما رويناه وقدم الأول وقال: الآخران جائزان.

قال البخاري: وقال ابن سيرين وإبراهيم: لا بأس بتجارة العاج.

وهذا التعليق عن ابن سيرين أسنده عبد الرزاق في "مصنفه" فقال: حدثنا الثوري عن هشام، عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بالتجارة بالعاج بأسا، وهذا إسناد صحيح، ورخص في بيعه عروة وابن وهب.

قال ابن بطال: ومن أجازه فهو عنده طاهر.

قال ابن سيده: والعاج: أنياب الفيلة. ولا يسمى غير الناب عاجا. وقال القزاز: أنكر الخليل أن يسمى غيره عاجا. وذكر غيرهما أن الذبل يسمى عاجا، وممن صرح به الخطابي، حيث قال:

[ ص: 471 ] العاج: الذبل. وأنكر عليه، وفي "الصحاح" و"المجمل": العاج: عظم الفيل. وفي "الصحاح" أيضا: المسك: السوار من عاج أو ذبل فغاير بينهما.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم امتشط بمشط من عاج.

[ ص: 472 ] وروى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان: "اشتر لفاطمة سوارين من عاج" لكنهما ضعيفان، ثم العاج هو: الذبل كما قدمناه، وهو بذال معجمة، ثم باء موحدة، ثم لام، وهو عظم ظهر السلحفاة البحرية، صرح به الأصمعي وابن قتيبة وغيرهما من أهل اللغة. وقال أبو علي البغدادي : العرب تسمي كل عظم عاجا.

[ ص: 473 ] قلت: فلا يكون العظم - أعني: عظم الفيل- هنا مرادا; لأنه ميتة فلا تستعمل، وواحدة العاج عاجة.

ثم ذكر البخاري في الباب حديث ميمونة وحديث أبي هريرة.

أما حديث ميمونة فقال فيه:

حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: "ألقوها، وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم".

حدثنا علي بن عبد الله، ثنا معن، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: "خذوها، وما حولها فاطرحوه". قال معن: حدثنا مالك لا أحصيه يقول، عن ابن عباس، عن ميمونة.

وهذا الحديث أخرجه في الذبائح أيضا وهو من أفراده عن مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي في الأطعمة والنسائي في الذبائح، وأفاد البخاري بالطريق الثاني - وإن كان نازلا- متابعة إسماعيل وقول معن السالف.

وفي إسناده اختلاف كثير بينه الدارقطني، حيث روي تارة بإسقاط ميمونة من حديث الزهري ومالك، وتارة بإسقاط ابن عباس، وتارة [ ص: 474 ] من حديث ابن مسعود، وتارة من حديث سالم، عن أبيه قال: وهو وهم. وقال أبو عمر: هذا اضطراب شديد من مالك.

ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة، وقال الإسماعيلي: الحديث معلول، وفي رواية: سئل الزهري عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، تقع فيه الفأرة أو غيرها فقال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل.

وفي سنن أبي داود: "إن كان مائعا فلا تقربوه".

إذا تقرر ذلك فالإجماع قائم كما نقله ابن عبد البر على أن الفأرة وشبهها من الحيوان تموت في سمن جامد أو ما كان مثله من الجامدات، أنها تطرح وما حولها من ذلك الجامد ويؤكل سائره، إذا استوثق أن الميتة لا تصل إليه.

وكذا أجمعوا أن السمن وما كان مثله إذا كان مائعا ذائبا، فماتت فيه فأرة أو وقعت فيه وهي ميتة، أنه نجس كله، وسواء وقعت فيه ميتة أو حية فماتت، ينجس بذلك قليلا كان أو كثيرا، هذا قول جمهور [ ص: 475 ] الفقهاء وجماعة العلماء، وقد شذ قوم فجعلوا المائع كله كالجامد، ولا وجه للاشتغال بشذوذهم، ولا هم عند أهل العلم ممن يعد لهم خلاف.

وسلك ابن علي في ذلك مسلكهم، إلا في السمن الجامد والذائب؛ فإنه يتبع ظاهر هذا الحديث، وخالف معناه في العسل والخل، وسائر المائعات، فجعلها كلها في لحوق النجاسة إياها بما ظهر فيها، فشذ أيضا، ويلزمه ألا يتعدى الفأرة كما لا يتعدى السمن.

قال: واختلف العلماء في الاستصباح به بعد إجماعهم على نجاسته.

فقالت طائفة من العلماء: لا يستصبح به ولا ينتفع بشيء منه، وممن قال ذلك: الحسن بن صالح، وأحمد بن حنبل، محتجين بالرواية السالفة: "وإن كان مائعا فلا تقربوه" ولعموم النهي عن الميتة في الكتاب العزيز.

وقال آخرون بجواز الاستصباح به والانتفاع في كل شيء إلا الأكل والبيع، وهو قول مالك والشافعي وأصحابهما والثوري، أما الأكل فمجمع على تحريمه، إلا الشذوذ الذي ذكرناه، كما نبه عليه ابن عبد البر.

وأما الاستصباح فروي عن علي وابن عمر أنهما أجازا ذلك، ومن حجتهم في تحريم بيعها قوله: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم [ ص: 476 ] الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها. إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه".

وقال آخرون: ينتفع به، وجائز أن يبيعه ويبين ولا يأكله، وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأصحابه، والليث بن سعد، وقد روي عن أبي موسى الأشعري والقاسم وسالم محتجين بالرواية الأخرى، "وإن كان مائعا، فاستصبحوا به وانتفعوا" والبيع من باب الانتفاع.

وأما قوله في حديث عبد الرزاق: "وإن كان مائعا، فلا تقربوه" يحتمل أن يريد به الأكل. وقد أجرى صلى الله عليه وسلم التحريم في شحوم الميتة في كل وجه، ومنع الانتفاع بشيء منها، وقد أباح في السمن يقع فيه الميتة الانتفاع به، فدل على جواز وجوه سائر الانتفاع غير الأكل، ومن جهة النظر أن شحوم الميتة محرمة العين والذات.

وأما الزيت يقع فيه الميتة؛ فإنها تنجس بالمجاورة، وما ينجس بالمجاورة فبيعه جائز؛ كالثوب تصيبه النجاسة من الدم وغيره.

وأما قوله: "إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه". فإنما خرج على شحوم الميتة التي حرم أكلها، ولم يبح الانتفاع بشيء منها، وكذلك الخمر، وأجاز عبد الله بن نافع غسل الزيت وشبهه تقع فيه الميتة،

[ ص: 477 ] وروي عن مالك أيضا، وصفته: أن تعمد إلى ثلاث آوان أو أكثر، فيجعل الزيت النجس في واحدة منها، حتى يكون نصفها أو نحوه، ثم يصب عليه الماء حتى يمتلئ، ثم يؤخذ الزيت من على الماء، ثم يجعل في آخر ويعمل به كذلك، ثم في آخر. وهو قول ليس لقائله سلف، ولا تسكن إليه النفس; لأنه لو كان جائزا لما خفي على المتقدمين.

وقد روي عن عطاء قول تفرد به، روى عبد الرزاق، عن ابن جريج عنه، قال: ذكروا أنه يدهن به السفن ولا يمس، ولكن يؤخذ بعود. قلت: يدهن به غير السفن؟ قال: لم أعلم. قلت: وأين يدهن به من السفن؟ قال: ظهورها ولا يدهن بطونها. قلت: فلا بد أن تمس؟ قال: تغسل اليد من مسه.

وقد روي من حديث جابر المنع من الدهن به، وعند سحنون أن موتها في الزيت الكثير غير ضار، وليس الزيت كالماء، وعن عبد الملك: إذا وقعت فأرة أو دجاجة في زيت أو بئر، فإن لم يتغير طعمه ولا ريحه أزيل ذلك منه ولم ينجس، وإن ماتت فيه ينجس وإن كثر.

ووقع في كلام ابن العربي أن الفأرة عند مالك طاهرة خلافا لأبي حنيفة والشافعي، ولا نعلم عندنا خلافا في طهارتها في حال حياتها.

[ ص: 478 ] وحاصل الحديث فوائد: إلقاء ما نجس من الطعام مع العين النجسة، وأكل ما لم يصبه، وأن هذا حكم الجامد.

أما المائع فمخالف له كما سلف في الرواية الأخرى "وإن كان مائعا، فلا تقربوه" جمعا بين الروايتين، وعن سحنون: أنه إذا طال مكث الميتة يطرح السمن كله; أي: لأنه قد يذوب في بعض تلك الأحوال، فتخالطه النجاسة، حكاه الداودي في "شرحه".

الحديث الثاني:

حدثنا أحمد بن محمد، أنا عبد الله، أنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذ طعنت، تفجر دما، اللون لون الدم، والعرف عرف المسك".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

عبد الله هو ابن المبارك وقد سلف. وأحمد شيخ البخاري فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه أحمد بن محمد بن موسى عرف بمردويه، قاله الحاكم أبو عبد الله، والكلاباذي، والإمام أبو نصر حامد بن محمود بن علي [ ص: 479 ] الفزاري في كتابه "مختصر البخاري"، وأخرج له مع البخاري أبو داود، والنسائي، وقال: لا بأس به، وهو المروزي السمسار، قدم بغداد، وأغفله الخطيب. مات سنة خمس وثلاثين ومائتين.

ثانيها: أنه أحمد بن محمد بن ثابت الخزاعي المروزي الماخواني - قرية من قرى مرو- عرف بشبويه، قاله الدارقطني، وهذا روى عنه أبو داود، ومات سنة تسع وعشرين - أو ثلاثين- ومائتين.

ثالثها: أنه لا يعرف، قال أبو أحمد بن عدي: أحمد بن محمد، عن عبد الله، عن معمر لا يعرف.

[ ص: 480 ] ثانيها:

هذا الحديث أخرجه مسلم في الجهاد.

ثالثها:

الكلم -بفتح الكاف- الجرح. ويكلمه بإسكان الكاف. والعرف -بفتح العين- الرائحة.

رابعها:

مجيئه يوم القيامة كهيئتها تفجر له فوائد:

الأولى: ليشهد على ظالمه بالقتل شهادة ظاهرة، والدم في النصل شاهد عجب.

الثانية: ليظهر شرفه لأهل الموقف؛ بانتشار رائحة المسك من جرحه الشاهد له ببذل نفسه في ذات الله تعالى.

الثالثة: أن هذا الدم خلعة خلعها الله عليه في الحقيقة أكرمه بها في الدنيا، فناسب أن يأتي بها يوم القيامة.

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به... يوم التزاور في الثوب الذي خلعا [ ص: 481 ] خامسها:

الحديث سبق لفضل المطعون في سبيل الله، وقد استنبطوا منه أشياء فيها تكلف منها: أن المراعى في الماء تغير لونه دون تغيير رائحته; لأنه صلى الله عليه وسلم سمى هذا الخارج من جرح الشهيد دما، وإن كان الريح ريح مسك، ولم يقل: مسكا، فغلب المسك; للونه على رائحته، فكذلك الماء ما لم يتغير طعمه، لم يلتفت إلى تغير رائحته.

وفيه نظر; لأنه ذكر وصفين من غير تغليب لأحدهما على الآخر.

ومنها: ما ترجم له البخاري، ويحتمل أن حجته فيه الرخصة كما سلف، أو التغليظ بعكس الاستدلال الأول؛ فإن الدم لما انتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة، ومن حكم القذارة إلى التطيب بتغير رائحته، وحكم له بحكم المسك والطيب للشهيد، فكذلك الماء ينتقل إلى العكس، بخبث الرائحة وتغير أحد أوصافه من الطهارة إلى النجاسة، على أن القيامة ليست دار أعمال ولا أحكام، وإنما لما عظم الدم بحيلولة صفته إلى ما هو مستطاب معظم عادة، علمنا أن المعتبر الصفات لا الذوات، ولما كانت الأحاديث في باب نجاسة الماء ليست على شرطه، استدل على حكم الماء المائع بحكم الدم المائع، وذلك المعنى الجامع بينهما.

فإن قلت: لما حكم للدم بالطهارة بتغير رائحته إلى الطيب، وبقي فيه اللون والطعم، ولم يذكر تغيرهما إلى الطيب، وجب أن يكون الماء إذا تغير منه وصفان بالنجاسة وبقي وصف واحد طاهر أن يجوز الطهور به؟

[ ص: 482 ] فالجواب: أنه ليس كما توهمت; لأن ريح المسك حكم للدم بالطهارة، فكان اللون والطعم تبعا للطاهر، وهو الريح التي انقلب ريح مسك، فكذلك الماء إذا تغير منه وصف واحد بنجاسة حلت فيه، كان الوصفان الباقيان تبعا للنجاسة، وكان الماء بذلك خارجا عن حد الطهارة; لخروجه عن صفة الماء الذي جعله الله طهورا، وهو الماء الذي لا يخالطه شيء.

ومنها: أن أبا حنيفة يحتج بهذا الحديث على جواز استعمال الماء المضاف المتغيرة أوصافه، بإطلاق اسم الماء عليه، كما انطلق على هذا اسم الدم، وإن تغيرت أوصافه إلى الطيب، ولا يخفى ما في ذلك.

سادسها:

فيه أيضا من الفوائد: فضل الجراحة في سبيل الله، وأن الشهيد لا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره; للحكمة التي ذكرناها، وإليه يشير قوله: "كهيئتها إذ طعنت" وكان الحسن وابن سيرين يقولان: يغسل كل مسلم، وأن كل ميت يجنب، وأن أحكام الآخرة وصفاتها غير أحكام الدنيا وذواتها، فإن الدم في الآخرة يتغير حكمه من النجاسة والرائحة الخبيثة التي في الدنيا إلى الطهارة والرائحة الطيبة يوم القيامة، وبذلك يقع الإكرام له والتشريف.

ولا يلزم من كونه لون الدم أن يكون دما نجسا حقيقة، كما لا يلزم من كون ريحه ريح مسك أن يكون مسكا حقيقة، بل يجعله الله شيئا يشبه هذا، ويشبه هذا بأشياء عما فارق الدنيا عليه، كما أن إعادة الأجسام لما [ ص: 483 ] كانت عليه في الدنيا وإن اتصفت بصفات أخر من البقاء والدوام بعد أن كانت غير دائمة ولا باقية؛ ولهذا يأتون في طول واحد، وسن واحد جردا مردا غير مختونين، فعلمنا أن الإعادة حق، وإن اكتسبت أوصافا لم تكن، ليس حكمه حكمها، ولا فضله فضلها.

وكذلك أهل الوضوء يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثاره إكراما لهم، وشهادة لهم تثبت عملهم في الدنيا ليتميزوا به.

وفيه أيضا: أن الشهيد يبعث على حالته التي خرج عليها من الدنيا.

قال الداودي: ويؤخذ من كون الدم طاهرا يوم القيامة أنه إذا طعن في الدنيا، ولم يرفأ الدم يصلي كذلك كما فعل عمر رضي الله عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية