التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2534 [ ص: 656 ] 27 - باب: من أقام البينة بعد اليمين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" [انظر: 2458] وقال طاوس وإبراهيم وشريح: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة.

2680 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها". [انظر: 2458 - مسلم: 1713 - فتح: 5 \ 288]


ثم ساق حديث أم سلمة: "إنكم تختصمون إلي .. " إلى آخره.

الشرح:

التعليق الأول هو حديث أم سلمة، الذي أسنده بعد، وقد سلف أيضا في المظالم.

وأثر شريح أنبأنا به غير واحد عن الفخر بن البخاري: أنا ابن طبرزد: أنا ابن الأنماطي: أنا الصريفيني عبد الله بن محمد، أنا ابن حبابة: أنا البغوي: أنا علي بن الجعد: أنا شريك، عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: من ادعى قضائي فهو عليه حتى يأتي ببينة; الحق أحق من قضائي، الحق أحق من يمين فاجرة.

وأنكر الإسماعيلي دخول حديث أم سلمة هنا. وبينه ابن المنير حيث قال: لم يجعل - عليه السلام- اليمين الكاذبة مفيدة حلا ولا قطعا بحق المحق، بل نهاه بعد يمينه عن القبض، وساوى بين حالتيه بعد اليمين وقبلها في [ ص: 657 ] التحريم، فيؤذن ذلك ببقاء حق صاحب الحق على ما كان عليه، فإذا ظفر في حقه ببينة فهو باق على القيام، ما لم يسقط أصل حقه من ذمته مقتطعة [باليمين].

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب جمهورهم إلى أنه إذا استحلف المدعى عليه ثم أقام بينة قبلت بينته، وقضي له بها على ما ذكره البخاري عن شريح وطاوس والنخعي، وهو قول الثوري والكوفيين والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقال مالك في "المدونة": إن استحلفه ولا علم له بالبينة ثم علم بها قضي له بها، وإن استحلفه ورضي بيمينه تاركا للبينة وهي حاضرة أو غائبة، فلا حق له إذا شهدت له، قاله مطرف وابن الماجشون، وقال ابن أبي ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه. وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر، وذكر أبو عبيد في كتاب "القضاء" قول شريح السالف، ثم ذكر من طريق منقطعة عنه أنه أجاز الشهادة بعد الجحود، أو قال: بعد الشهود.

قال عبد الرحمن: -يعني: ابن مهدي- فسره سفيان أنه الرجل يدعى عليه المال فيجحد ويحلف، فيقيم الطالب البينة عليه بحقه، ثم يقيم المطلوب البينة بعد ذلك، يقتضي ذلك الحق منه، فأجاز شريح بينة المطلوب على الطالب. قال سفيان: وكان ابن أبي ليلى لا يجيز هذا ويرد الشهادة ويقول: قد أكذبهم حين أقاموا الشهادة بعد الجحود.

[ ص: 658 ] قال أبو عبيد: وكان ابن عيينة يفسره على معنى الحديث الأول: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة، وهو أشبه عندي بتأويل الحديث من القول الآخر.

فإن كان كما قال ابن عيينة فإنه حكم قد اختلف فيه أهل الحجاز والعراق، فقال مالك وأهل المدينة: لا يقيمها إلا أن يعلمها ثم علمها.

وهو قول ابن أبي ليلى، فأما غيره من أهل العراق فيقبلون البينة، ويتبعون فيه قول شريح الذي ذكرناه، وحكي عن مالك أيضا.

وهذا قول عندي محمول على غير تأويله; لأن شريحا لم يقل: أحق من اليمين فقط، إنما قيد الفاجرة خاصة، وليس في إقامة البينة بعد اليمين دليل فجورها; لأن الحق قد يكون للرجل على صاحبه بالبينة ثم يخرج إليه منه، وهم غيب عنه لا يشعرون بذلك، فيكونون إذا أقاموها قد شهدوا بحق فيكون المطلوب حالفا على حق، وليس يعلم فجور اليمين إلا أن تقوم بينة على إقرار المطلوب بذلك الحق بعينه وإكذابه به تفسير بعد أن حلف بها، فالآن حين صح فجورها وجازت عليه الشهادة، وإياه أراد شريح فيما نرى بالمقالة السالفة، فالأمر عندي على هذا أنه لا بينة بعد اليمين ثم برهن له.

ثم إنهم جعلوا إباء اليمين إقرارا، ولم يجعلوا أداءها براءة، وما أعلم ذا القول إلا حجة لمن ذهب إلى أن النكول لا يثبت حقا، وهو قول شنيع وينبغي أن يخبره في ذلك بين الصبر إلى حضورها أو يحلفه حالا ولا يقبلها بعد، فيكون هو المختار لنفسه.

وأما الذي فسره ابن عيينة عن شريح، وخلاف ابن أبي ليلى إياه، فإنا نأخذ بهما معا، وبه يأخذ أهل العراق.

[ ص: 659 ] وروى ابن أبي ليلى عن الحكم، عن حنش أن عليا كان يرى الحلف مع البينة. قال البيهقي: وكذا رواه ابن أبي ليلى.

وقد روينا من وجه آخر عن حنش، عن علي أنه إنما رآه عند تعارض البينتين. وروى سعيد بن منصور، عن ابن سيرين وأبي مالك الأشجعي أن شريحا استحلف بعد قيام البينة. وعن عبد الله بن عتبة مثل ذلك.

واحتج لابن أبي ليلى بأن الشارع لما حكم بالبينة على المدعي، واليمين على المنكر، كان المدعي لا يستحق المال بدعواه، والمنكر لا يبرأ من حق المدعي بجحوده، فإذا أقام المدعي البينة أخذ المال، وإذا حلف المدعى عليه برئ فلا سبيل إليه.

واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار". فدل أن يمين المدعى عليه لا تسقط الحق، وقطعه لا يوجب له ملكه فهو كقاطع الطريق لا يملك ما قطعه; ألا ترى أنه - عليه السلام- قد نهاه عن أخذه بقوله: "فلا يأخذه".

وذكر ابن حبيب عن عمر أنه تخاصم إليه يهودي ورجل من المسلمين. فقال عمر: بينتك؟ فقال: ما يحضرني اليوم فأحلف عمر المدعى عليه، ثم أتى اليهودي بعد ذلك بالبينة فقضى له عمر ببينته وقال: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة.

وعن ابن الماجشون: القضاء بها وإن كان عالما بها على قول عمر.

[ ص: 660 ] وقد اختلف عن مالك إذا أقام الطالب شاهدا واحدا، وأبى أن يحلف معه فحلف المطلوب، ثم وجد الطالب شاهدا آخر، هل نضيفه إلى الشاهد الأول أم لا؟ ففي إضافته إلى الأول قولان عن مالك، والمنع قول ابن القاسم.

وقال ابن التين: قول طاوس ومن بعده يحتمل أن يكون ممن لم يعلم ببينته، وقد اختلف قول مالك إذا كان عالما بها قادرا عليها، فحلفه، ثم أراد إقامتها.

وبالمنع قال ابن القاسم وصاحب "التلقين"، وبالجواز قال ابن وهب وأشهب.

ومعنى: ألحن -في الحديث-: أفطن، واللحن، محرك: الفطنة، يقال: لحن -بكسر الحاء- إذا فطن. وقيل: أنطق، وبسكونها إزالة الإعراب عن جهته.

وقوله: (فإنما أقطع له قطعة من النار)؛ دال أن حكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، كما سلف. وسواء فيه المال وغيره من الحقوق، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك في الأموال، وقال أبو حنيفة: حكمه في الطلاق والنكاح والنسب يحتمل الأمور عما هي عليه في الباب، بخلاف الأموال.

وفيه: أن القاضي يحكم بعلمه، وهو مذهب عبد الملك وسحنون، والشافعي يقول: يحكم به إلا في الحدود.

[ ص: 661 ] وقال أبو حنيفة: يحكم بعلمه فيما علمه بعد القضاء من حقوق الآدميين، ولا يحكم فيما علمه قبله.

وقال مالك: لا يحكم بعلمه مطلقا.

وتبويب البخاري بمن أقام البينة بعد اليمين، يدل أن هذا الحكم إنما يكون مع يمين المدعي، بإقامة البينة بعده يبطل الحكم الظاهر.

قال ابن التين: وقد وقع لبعض أصحابنا مراعاة حكم الحاكم، فقال: لو أقر الولد بولد آخر فلم يدفع إليه شيئا; حتى أقر بثان لزمه للأول نصف ما بيده، وإن دفعه إليه بحكم لم يضمن الثاني شيئا، ودفع إليه ثلث ما بيده وهو سدس الجميع. وإن دفع إليه بغير حكم غرم للثاني تمام حقه، وهو ثلث جميع المال، والمذهب أنه إن كان عالما بالباقي ضمن له ما أتلف عليه، وإلا لم يضمن له، ودفع له ثلث ما بيده.

وقال أشهب: يضمن له، سواء علم أو لم يعلم، دفع بحكم أم لا.

التالي السابق


الخدمات العلمية