التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2543 2689 - حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن سمي -مولى أبي بكر- عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا". [انظر: 615 - مسلم: 437 - فتح: 5 \ 293]


وقد سلف قريبا مسندا.

ثم ذكر أحاديث كلها سلفت: حديث النعمان: "مثل المدهن في حدود الله .. .

وحديث: "وما يدريك أن الله أكرمه؟ "؛ لأجل قولها: إن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى حين أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين. .

[ ص: 673 ] وحديث عائشة في القرعة عند السفر.

وحديث أبي هريرة في النداء والصف الأول: "ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا .. ".

وقد سلف الكلام على القرعة قريبا في حديث الإفك وفي الشركة قبله.

والقرعة في المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة; ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظنة عمن تولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منه على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد; اتباعا للكتاب والسنة، وقد أسلفنا قريبا أنه عمل بها ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ونبينا.

واستعمالها كالإجماع من أهل العلم، فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها ورد الآثار المتواترة بالعمل بها. قال الشافعي: ولا يعدو (المقترعون) على مريم أن يكونوا تنافسوا كفالتها، فكان أرفق بها وأعطف عليها، وأعلم بما فيه مصلحتها أن تكون عند كافل واحد، ثم يكفلها آخر مقدار تلك المدة، أو تكون عند كافل ويغرم من بقي مؤنتها بالحصص، وهم بأن يكونوا تشاحوا كفالتها أشبه من أن يكونوا تدافعوها; لأنها كانت ضعيفة غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل ستره ومصالحه، فإن تكفلها واحد من الجماعة أستر عليها وأكرم لها، وأي المعنيين كان فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه، أو تخلص له ما يرغب فيه.

[ ص: 674 ] وهكذا معنى قرعة يونس، وقعت بهم السفينة فقالوا: ما عليها إلا مذنب فقارعوا فوقعت القرعة عليه فأخرجوه منها.

وذكر أهل التفسير أنه قيل له: إن قومك يأتيهم العذاب يوم كذا، فخرج ذلك اليوم، ففقده قومه فخرجوا فأتاهم العذاب ثم صرف عنهم، فلما لم يصبهم العذاب ذهب مغاضبا، فركب البحر في سفينة مع ناس، فلما تحججوا أركدت السفينة فلم تسر، فقالوا: إن فيكم لشرا. فقال يونس: أنا صاحبكم فألقوني، قالوا: لا، حتى نضرب بالسهام فطار عليه السهم مرتين فألقوه في البحر فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظما.

قال الشافعي: وكذلك كان إقراعه صلى الله عليه وسلم في العدل بين نسائه حين أراد السفر، ولم يمكنه الخروج بهن كلهن، فأقرع بينهن; ليعدل بينهن ولا يخص بعضهن بالسفر، ويكل ذلك إلى الله ويخرج ذلك من اختياره، فأخرج من خرج سهمها وسقط حق غيرها بعد. فإذا رجع عاد للقسمة بينهن ولم يقسم أيام سفره.

وكذلك قسم خيبر، وكان أربعة أخماسها لمن حضر، فأقرع على كل حر، فمن خرج من سهمه أخذه وانقطع منه حق غيره.

تنبيهات: تنعطف على ما مضى:

أحدها: قال قتادة -فيما حكاه ابن جرير-: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم، فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها;

[ ص: 675 ] فقرعهم زكريا، وكان زوج أختها فضمها إليه. وقال ابن عباس: لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي، وقال مقاتل في "تفسيره": لما ولدت حنة مريم خشيت ألا تقبل الأنثى محررة فلفتها في خرقة ووضعتها في بيت المقدس عند المحراب حيث يتدارسون القراءة، فقال زكريا -وهو رئيس الأحبار-: أنا آخذها، أنا أحق بها; لأن أختها عندي. فقالت القراء: لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها، لكنها محررة، وهلم نتساهم. فاقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي.

ثانيها: لما دعا يونس بن متى قومه أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطئ دجلة للدخول في دينه أبطئوا عليه، فدعا عليهم ووعدهم العذاب بعد ثلاث، وخرج عنهم فرأى قومه دخانا ومقدمة العذاب، فآمنوا به وصدقوه وتابوا إلى الله وردوا المظالم، حتى ردوا حجارة مغصوبة كانوا بنوا بها، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب، ثم إن يونس ركب سفينة فلم تجر; فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فاقترعوا، فخرجت القرعة عليه فالتقمه الحوت. وقد أسلفناه.

وقد اختلف في مدة مكثه في بطنه من يوم واحد إلى أربعين يوما، وذكر مقاتل أنهم قارعوه ست مرات; خوفا عليه من أن يقذف في البحر، وفي كلها تخرج عليه.

ونقل ابن التين أن القرعة وقعت عليه ثلاث مرات، وأنها لما ركدت قالوا: فيها رجل مشئوم.

[ ص: 676 ] وقال ابن إسحاق في "المبتدأ": حدثني بعض أهل العلم أن يونس لما صح انطلق فلم ير إلى هذا اليوم، فطلبه قومه حين آمنوا، ورفع عنهم العذاب فلم يقدروا عليه، إلا أن راعي غنم أخبرهم أنه أضافه فسقاه من لبن عنز، فقالوا: من رأى هذا منك ومنه؟ قال: ما رآه أحد. فأذن الله للعنز فتكلمت وشهدت له بما قال، فملكوه عليهم; لرؤيته إياه.

فائدة:

في يونس ست لغات: تثليث النون مع الهمز وعدمه، والأشهر ضم النون من غير همز.

ثالثها: قوله: (اقترعوا)؛ قال ابن التين: صوابه: أقرعوا أو قارعوا; لأنه رباعي. والأقلام المذكورة في الآية: السهام، وسمي السهم قلما; لأنه يقلم؛ أي: يبرى.

ومعنى: أيهم يكفل مريم [آل عمران: 44] تجب له كفالتها.

والجرية: بكسر الجيم مصدر، تقول: جرى الماء يجري جرية وجريا وجريانا.

وقوله: (وعال قلم زكريا)؛ أي: غلب الجري. وما فسره البخاري في المدحضين، هو قول مجاهد. وقال ابن عيينة: من المقمورين.

ويقال: أصل أدحضته: أزلفته.

فائدة:

معنى: طار لهم سهمه في قصة عثمان: حظه.

[ ص: 677 ] فائدة:

قوله في حديث أبي هريرة: "ولو يعلمون ما في العتمة".

سلف الكلام عليه في بابه مع الجمع بينه وبين النهي عن تسميتها عتمة، وقد سماها الله العشاء، وروي: "من سماها العتمة فليستغفر الله".

التالي السابق


الخدمات العلمية