التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2546 [ ص: 16 ] 2 - باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس

2692 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمي خيرا ، أو يقول خيرا" [مسلم : 2605 - فتح: 5 \ 299]


حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمي خيرا ، أو يقول خيرا" .

هذا الحديث زاد فيه مسلم في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن صالح ، عن الزهري : قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث . تعني : الحرب والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ، وجعل يونس ومعمر هذه الزيادة عن الزهري ، فقال : لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث .

قال الخطيب : القول قولهما والحق معهما ، وذكره أيضا موسى بن هارون . وقال : آخر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أو يقول خيرا" يعني : كما عند البخاري قال : وهو أمر بين واضح أن آخر الحديث إنما هو من قول الزهري لا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 17 ] وساقها ابن بطال من حديث عبد العزيز بن محمد ، عن عبد الوهاب بن رفيع عن ابن شهاب بلفظ : ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص في الكذب إلا في ثلاث كان - عليه السلام - يقول : "لا أعدهن كذبا : الرجل يصلح بين الناس يقول قولا يريد به الصلاح ، والرجل يحدث زوجته ، والمرأة تحدث زوجها ، والرجل يقول في الحرب" .

وللترمذي : "لا يحل الكذب إلا في ثلاث : يحدث الرجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب ليصلح بين الناس" .

إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من وجهين :

أحدهما : قوله : ("ينمي خيرا ، أو يقول خيرا") ، هو شك من الراوي والمعنى واحد يقال : ينمي الحديث إذا رفعه ، وبلغه على وجه الإصلاح ، وأنماه : إذا بلغه على وجه الإفساد ، وكذلك نماه مشدد ، ذكره الهروي ، والأول ذكره الخطابي .

وقال ابن فارس : نميت الحديث : إذا أشعته ، ونميت بالتخفيف : أسندته ، وقال الزجاج : في فعلت وأفعلت نميت الشيء ، وأنميته بمعنى ، وفي "فصيح" ثعلب : نمى ينمي أي : زاد وكثر .

وحكى اللحياني : ينمو بالواو ، وأخذ (السبتي) على ثعلب إهمالها . قال : وهما لغتان فصيحتان ، وفيه لغة أخرى حكاها ابن القطاع ، وغيره نمو على وزن شرف .

وقال الكسائي : لم أسمعه (بالواو إلا) من أخوين من بني سليم ،

[ ص: 18 ] ثم سألت عنه بني سليم ، فلم يعرفوه .

وقال في "الصحاح" : ربما قالوا: ينمو وصرح جماعة منهم الراعي : أن نمى أفصح كما اقتصر عليه ثعلب ، وأنكر أبو حاتم : ينمو ، وكذا الأصمعي ، وعن بعضهم مما حكاه اللبلي أن بالياء للمال ، وقالوا لغيره .

وقال الحربي : أكثر النحويين : يقولون : ونمى خيرا بالتخفيف ولا يجوز في النحو ، والشارع أفصح المخلوقات ، ومن خفف الميم لزمه أن يقول : خير بالرفع .

قلت : لا ، بل يجوز نصبه بنمى ، وذكر صاحب "المطالع" عن القعنبي ينمى بضم أوله ، قال : وليس بشيء ، وقع في رواية الدباغ ينهى بالهاء ، وهو تصحيف ، وقد يخرج على معنى : أنه يبلغ به من أنهيت الأمر إلى كذا أي : وصلته إليه . وقال ابن سيده : أنميته : أزعته على وجه التهمة .

ثانيها : فيه جواز قول الرجل في الإصلاح ما لم يقله الآخر ، والكذب لا يجوز إلا في ثلاث ، هذا أحدها ، وثانيها : أن يعد امرأته بشيء وينوي أن لا يفي ; ليصلح أمرها ، ثالثها : خدعة الحرب إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، وقال له رجل أكذب لامرأتي ؟ قال : "لا خير في الكذب" ، قال : أعدها وأقول لها ما لا حرج ، فنهاه أن يكذب لها في غير الوعد ، وأذن أن يعدها ما لا ينويه .

[ ص: 19 ] وعن الأصيلي : أنه لا يجوز الكذب في شيء ، وإنما يجوز الإلغاز كما يقول للظالم ، فلان يدعو لك ، يعني : قوله في الصلاة اغفر للمسلمين والمسلمات .

وقال الطبري : اختلف الناس في هذا الباب ، فقالت طائفة : الكذب المرخص فيه في هذه الثلاث ، هو جميع معاني الكذب ، وحمله قوم على الإطلاق وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك لما فيه من المصلحة ، فإن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة للمسلمين ، واحتجوا بما رواه الأعمش ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة قال : كنا عند عثمان وعنده حذيفة ، فقال له عثمان : بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا ، فقال حذيفة : والله ما قلته ، قال وقد سمعناه ، قال ذلك ، فلما خرج قلنا له : أليس قد سمعناك تقوله ؟ قال : بلى ، قلنا : فلم حلفت ؟ فقال : أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله .

واحتجوا بحديث ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن مكشوح : هل حدثتك نفسك بقتلي ؟ قال : لو هممت فعلت . فقال عمر له : لو قلت : نعم ، ضربت عنقك . فنفاه من المدينة ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : لو قال : نعم ، ضربت عنقه ؟ قال : لا ، ولكن استرهبته بذلك .

وقال آخرون : لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء ، ولا يخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه ، وما جاء في هذا إنما هو على التورية ، روى سفيان ، عن الأعمش ، قال : ذكرت لإبراهيم الحديث الذي رخص فيه

[ ص: 20 ] في الكذب في الإصلاح بين الناس ، فقال إبراهيم : كانوا لا يرخصون في الكذب في جد ولا هزل . وروى مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود قال : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجزه ، اقرؤوا إن شئتم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة : 119] .

وقال آخرون : بل الذي رخص فيه هو المعاريض وقد قال ابن عباس : ما أحب أن لي بمعاريض الكذب كذا وكذا . وهو قول سفيان وجمهور العلماء .

وقال المهلب : ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكذب نهيا مطلقا ، وأخبر أنه مجانب للإيمان ، فلا يجوز استباحة شيء منه ، وإنما أطلق - عليه السلام - الصلح بين الناس أن يقول ما علم من الخير بين الفريقين ويسكت عما سمع من الشر منهم ، ويعد أن يسهل ما صعب ، ويقرب ما بعد ، لا أنه يخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه لأن الله قد حرم ذلك ورسوله .

وكذلك الرجل يعد المرأة ويمنيها ، وليس هذا من طريق الكذب ; لأن حقيقة الكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، والوعد لا يكون حقيقة حتى ينجز ، والإنجاز موجود في الاستقبال ، فلا يصح أن يكون كذبا .

[ ص: 21 ] وكذلك الحرب أيضا إنما يجوز فيها المعاريض والإيهام بألفاظ تحتمل وجهين فيؤدي بها عن أحد المعنيين ليغر السامع بأحدهما عن الآخر ، وليس حقيقة الإخبار عن الشيء بخلافه وضده ، ونحو ذلك ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مازح عجوزا فقال : "إن العجز لا يدخلن الجنة" فأوهمها في ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن أصلا ، وإنما أراد أن لا يدخلن الجنة إلا شبابا . فهذا وشبهه من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب ، وإن لم يصلح المصلح شيئا فله أن يعد بخير ، ولا يقول سمعت ، وهو لم يسمع ونحوه .

قال الطبري : والصواب في ذلك قول من قال : الكذب الذي أذن فيه الشارع هو ما كان تعريضا ينحو به نحو الصدق ، نحو ما روي عن إبراهيم النخعي أن (امرأة) عاتبته في جارية وفي يده مروحة ، فجعل إبراهيم النخعي يقول : اشهدوا أنها لها ويشير بالمروحة ، فلما قامت امرأته ، قال : على أي شيء أشهدتكم ؟ قالوا : أشهدتنا على أنها لها . قال : ألم تروني أشير بالمروحة .

قلت : ومثله قوله للظالم : فلان يدعو لك ، وينوي قوله : اللهم اغفر للمسلمين ، ويعد زوجته ، ونيته في ذلك إن قدر الله أو إلى مدة ، وكذلك الإصلاح بين الناس .

[ ص: 22 ] وحديث المرأة زوجها يحتمل أنه فيما يحدث به أحدهما الآخر من ود له واغتباط ، والكذب في الحرب : أن يضمر في نفسه مدة ، ويتحدث بما يشحذ به بصيرة أصحابه ، ويكيد به عدوه ، فالحرب خدعة .

وسيأتي في الأدب في باب : المعاريض مندوحة عن الكذب ما يوضح هذا .

وأما صريح الكذب فهو غير جائز لأحد كما قال ابن مسعود لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تحريمه ، والوعيد عليه .

وأما قول حذيفة : فإنه خارج عن معاني الكذب الذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أذن فيها ، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف ، كالذي يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيي نفسه ، وكذلك الحالف له أن يخلص نفسه ببعض ما حرم الله عليه وله أن يحلف على ذلك ، ولا حرج عليه ولا إثم .

قال القاضي عياض : وأما المخادعة ، ومنع حق عليه أو عليها ، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بالإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية