التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2553 2699 - حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنه قال : اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقالوا : لا نقر بها ، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، لكن أنت محمد بن عبد الله . قال : " أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله" . ثم قال لعلي : " امح رسول الله" . قال : لا ، والله لا أمحوك أبدا ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع أحدا من أصحابه أراد أن يقيم بها . فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليا ، فقالوا : قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل . فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتبعتهم ابنة حمزة : يا عم يا عم . فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة : عليها السلام : دونك ابنة عمك ، حملتها . فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ، فقال علي : أنا أحق بها وهي ابنة عمي . وقال جعفر :

[ ص: 40 ] ابنة عمي وخالتها تحتي . وقال زيد : ابنة أخي . فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها . وقال : "الخالة بمنزلة الأم" . وقال لعلي : " أنت مني وأنا منك" . وقال لجعفر : " أشبهت خلقي وخلقي" . وقال لزيد : " أنت أخونا ومولانا" .
[انظر : 1781 - مسلم: 1783 - فتح: 5 \ 303]


ذكر فيه حديث البراء قال : لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب كتابا ، فكتب محمد رسول الله . فقال المشركون : لا تكتب : محمد رسول الله ، لو كنت رسولا لم نقاتلك .

الحديث بطوله من طريقيه ، وسيأتي قريبا في الشروط بنحوه من حديث المسور ومروان يخبران عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من وجوه :

أحدها :

الحديبية مخففة الياء ، وتشدد : اسم بئر هناك ، وفي كونها من الحرم قولان : قال مالك : نعم ، وخالفه الشافعي .

ولا بأس عند مالك أن ينحر هدي العمرة في الحرم ، وعندنا الأفضل له المروة والحاج منى ، وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة ست ، وصالح قريشا على سنتين وقيل : ثلاث ، قاله ابن جريج . وقيل :

أربع ، قاله عروة . وقيل : عشر ، قاله ابن إسحاق . وأقام بالحديبية شهرا ونصفا . وقيل : خمسين ليلة .

الثاني :

أصل هذا الباب أن يكتب في اسم الرجل من تعريفه ما لا يشكل على أحد فإن كان اسمه واسم أبيه مشهورين شهرة ترفع الإشكال لم

[ ص: 41 ] يحتج في ذلك إلى زيادة ذكر نسبه ولا قبيلته ، ألا ترى أنه - عليه السلام - اقتصر في كتاب المقاضاة مع المشركين على أن كتب محمد بن عبد الله ، ولم يزد عليه لما أمن الالتباس فيه ; لأنه لم يكن هذا الاسم لأحد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - واستحب الفقهاء أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده ونسبه ; ليرفع الإشكال فيه ، فقلما يقع مع ذكر هذه الأربعة اشتباه في اسمه ، ولا التباس في أمره .

وفيه : رجوعه - عليه السلام - إلى اسمه واسم أبيه في العقد ، ومحوه بخطه النبوة ، إنما كان ; لأن الكلام في الصلح وميثاق العقد ، كان إخبارا عن أهل مكة ألا تراهم قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك ، ولا قاتلناك فخشوا أن ينعقد عليهم إقرارهم برسالته - عليه السلام - فلذلك قالوا ما قالوا هربا من الشهادة بذلك .

الثالث :

قوله : (فقال علي : ما أنا بالذي أمحاه ) . يقال : محوت الشيء أمحوه ، ومحيته محيانا وأمحاه ، مثل : قلى يقلي ، وسقى يسقي ، والذي في القرآن : يمحو الله ما يشاء [الرعد : 39] ومحو الرحمن من الكتاب إنما هو لأنه ربما آل النساخ في ذلك إلى فساد ما كانوا أحكموه من الصلح ، ولئن محي فهو في الصدور باق ، وإباء علي من محوه أدب منه وإيمان ، وليس بعصيان فيما أمره به ، والعصيان هنا أبر من الطاعة له وأجمل في التأدب والإلزام .

قال الطبري : وفي كتابه - عليه السلام - : باسمك اللهم ، ولم يأب عليهم أن يكتبه إذا لم يكن في كتابه ذلك نقض شيء من شروط الإسلام ، ولا تبديل بشيء من شرائعه ، وإن كانت سنته الجارية بين أمته أن

[ ص: 42 ] يستفتحوا كتبهم بالبسملة ، وكان فعله ذلك ، والمسلمون يومئذ في قلة من العدد ، وضعف من القوة ، والمشركون في كثرة من العدد ، وشدة من الشوكة فتبين أن نظير ذلك إذا حدثت للمسلمين حالة تشبه حالة المسلمين يوم الحديبية في القلة والضعف ، وامتنع المشركون من الصلح إلا على حذف بعض أسماء الله تعالى وصفاته ، أو حذف بعض محامده ، أو بعض الدعاء لرسوله - عليه السلام - ، أو حذف بعض صفاته ، ورأى القيم بأمر المسلمين أن النظر للمسلمين إتمام الصلح ، أن له أن يفعله لفعله - عليه السلام - في ذلك ، فلو امتنعوا من الصلح على أن يبتدئ الكتاب ، هذا ما قضى وأقر عليه فلان وفلان ، ويحذف منه كل ما يبتدأ به من ذكر أسماء الله وصفاته في ابتداء الكتاب أو يحذف منه ذكر (الخلافة ) : لأنه ليس في ترك ذلك ترك فرض من فرائض الله لا يسع المسلمين تضييعه ; لأنه - عليه السلام - لما أجابهم إلى ما أرادوا من كتاب محمد بن عبد الله لم يكن ذلك مزيلا لصفته من النبوة ، ولا يكون للخليفة إذا لم يوصف بالخلافة دخول منقصة عليه ، ولا زواله عن منزلته من الإمامة ، كما لم يكن في رضى رسول الله أن يكتب محمد بن عبد الله منقصة عن النبوة التي يجعلها الله فيه .

الرابع :

قوله : (بجلبان السلاح ) فسألوه : ما جلبان السلاح ؟ قال : "القراب بما فيه" ، وفسر أيضا بالسيف والقوس ونحوه .

وقال في الرواية الأخرى : "لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب" ،

[ ص: 43 ] وفي لفظ : "لا يحمل سلاحا إلا سيوفا" ، وقال : "إلا بجلب السلاح "- أنكره كله القزاز ، وقال : أحسب بجلبان السلاح أي : ما ستره .

قال : فلذلك فسر بالقراب بما فيه ، وإنما يراد به : استتاره . وقال الأزهري : القراب غمد السيف .

والجلبان من الجلبة وهي الجلدة التي تجعل على القتب ، والجلدة التي تغشى البهيمة ; لأنها كالغشاء للقراب . ورواه ابن قتيبة بتشديد الباء وضم اللام ، وكذا ضبطه بعض المحدثين قال : وهو أوعية السلاح بما فيها ، وما أراه سمي به إلا كناية ، ولذلك قيل للمرأة الجافية الغليظة : جلبانة .

قال الهروي : والقول ما قاله الأزهري . وقال الخطابي : الجلبان يشبه الجراب من الأدم يضع الراكب فيه سيفه بقرابه ويضع فيه سوطه ، يعلقه الراكب من واسطة رحله أو من آخره ، تحتمل أن تكون اللام ساكنة وهو جمع جلب ، ودليله قوله في رواية مؤمل عن سفيان : "إلا بجلب السلاح" . قال : وجلب السلاح نفس السلاح ، فجلب الرجل نفس عيبته كأنه يريد به نفس السلاح ، وهو السيف خاصة من غير أن يكون معه أدوات الحرب من لأمة ورمح وجحفة ونحوها ، ليكون علامة للأمن والعرب لا تضع السلاح إلا في الأمن .

قال : وقد جاء (جربان السيف ) في هذا المعنى . قال الأصمعي : الجربان : قراب السيف فلا ينكر أن يكون ذلك من باب تعاقب اللام

[ ص: 44 ] والراء والذي ضبط في أكثر الكتب : بجلب السلاح بضم اللام وتشديد الباء ، وهو يرد التأويل السالف ، وضبط الجوهري وابن فارس جربان بضم الراء وتشديد الباء . قال ابن فارس : جربان السيف : قرابه ، وقيل : حده .

الخامس :

قوله : (فصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام ) .

وفي رواية ابن عمر : في بابها (ولا يقيم بها إلا ما أحبوا ) يحتمل ذلك في القضية كقوله : فإن أتممت عشرا فمن عندك وقال ابن التين هناك : يجمع بينهما بأن مجيئهم لما كانت ثلاثة أيام فعبر عنها بما آلت إليه وهو الثلاث .

وقوله : ("أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله" ) من خاصته أنه لم يصبه ولادة غير الحلال من آدم وحواء عليهما السلام وهلم جرا . وقد قال : "ولدت من نكاح لا من سفاح " .

وقوله : (فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ) أي : بعدما أراه علي الخط . ويحتمل أن يكون يعرفه بكثرة الدربة .

[ ص: 45 ] وقوله : (فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ، فكتب ) أي أمر عليا فكتب كضرب الأمير : أمر به ، وقيل محاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : (فكتب ) يعني عليا . قال الشيخ أبو الحسن : ما رأيت هذا اللفظ (فكتب ) إلا في هذا الموضع . وقيل : إنه مختص بهذا الموطن . وقيل : إنه كالرسم ; لأن بعض من لا يكتب يرسم اسمه بيده ; لتكراره عليه . وقيل : كتب .

وأما قوله : وما كنت تتلو من قبله من كتاب الآية لأنه تلا بعد .

أما قوله : "إنا أمة أمية" لأنه كان منهم من يكتب لكن عادة العرب يسمون الجملة باسم أكثرها . فلذلك كان أكثر أمره أنه لا يحسن فكتب مرة .

وقيل : لما أخذ القلم أوحى الله إليه فكتب . وقيل : ما مات حتى كتب . وقيل : كتب على الاتفاق من غير قصد فانتظم ذلك منه .

قال السهيلي : وكتب علي ذلك اليوم نسختين إحداهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخرى مع سهيل وشهد فيها أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك ، وحويطب بن عبد العزى وسيأتي له زيادة في كتابه .

ووقع في بعض نسخ "أطراف" أبي مسعود أنه - عليه السلام - أخذ الكتاب ولم يحسن أن يكتب فكتب مكان رسول الله : محمدا ، وكتب : هذا ما قاضى

[ ص: 46 ] عليه محمد
فزيادة منكرة ، والثابت ما أسلفناه : (فكتب ) أي : أمر عليا كما سلف ، وفي رواية : فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب وإن من معجزاته أنه كتب من وقته ; لأنه خرق العادة .

وقال به أبو ذر الهروي ، وأبو الفتح النيسابوري ، وأبو الوليد الباجي وصنف فيه وأنكر عليه .

السادس :

قوله : (فتبعتهم ابنة حمزة ) وفي حديث آخر : أن زيدا أتى بها واحتج حين خاصم فيها لأنه تجشم الخروج بها ، فإما أن يكون في إحدى الروايتين وهم ، أو يكون خرج مرة فلم يأت بها وسيقت إليه في هذه المرة فأتى بها فتناولها علي ، ذكره ابن التين .

وفيه : تناول غير ذات المحرم عند الاضطرار إليه . قاله الداودي ، والصحيح أنها الآن ذات محرم ; لأن فاطمة أختها من الرضاعة ، وهي تحت علي فهي ذات محرم إلا أنها غير مؤبدة التحريم .

وفيه : خروج فاطمة في هذه العمرة .

وقولها : (يا عم ) إن قالته لرسول الله فهو عمها من الرضاعة ، وإن قالته لزيد فكان مصاحبا لحمزة مؤاخيا له ، وقد تقوله له ولعلي ولجعفر لسنهم وصغرها .

وقضاؤه - عليه السلام - لخالتها فيه دلالة أن للخالة حقا في الحضانة فقال هنا : "الخالة بمنزلة الأم" وقال في رواية أخرى خارج الصحيح : "إنها أم" يعني في الحضانة وهو أصل في الحكم لها بالحضانة ، ومالك يقول في

[ ص: 47 ] "المدونة " هي أحق من الأب ، وهو مشهور مذهبه ، وقيل : الأب أولى منها .

قال الطبري : وفيه دلالة على أن أم الصغير ومن كان من قرابتها من النساء أولى بالحضانة من عصبتها من قبل الأب وإن كانت ذات زوج غير الوالد الذي هو منه ، وذلك أنه - عليه السلام - قضى بابنة حمزة لخالتها في الحضانة وقد تنازع فيها ابنا عمها علي وجعفر ومولاها أخو أبيها الذي كان - عليه السلام - آخى بينه وبينه ، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها ، وذلك بعد مقتل حمزة فصح قول من قال : إنه لا حق لعصبة الصغير من قبل الأب في حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار مع قرابته من النساء من قبل الأم وإن كن ذات أزواج .

فإن قلت : فإذا كانت قرابة الأم أحق وإن كن ذات أزواج فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك كان كما كانت الخالة ذات الزوج أحق به .

قيل : فرق بين ذلك قيام الحجة بالنقل المستفيض ورواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن الأم أحق بحضانة الطفل ما لم تنكح وإذا نكحت فالأب أحق بحضانته .

وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده وكل واحدة من المسألتين أصل : إحداهما من جهة النقل المستفيض ، والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول ، وغير جائز رد حكم إحداهما على الأخرى ; إذ القياس لا يجوز استعماله إلا فيما لا نص فيه من الأحكام .

[ ص: 48 ] السابع :

قوله لعلي : ("أنت مني" ) فيه منقبة جليلة له .

وأعظم منها قوله : ("وأنا منك" ) ، وكذا قوله لجعفر وزيد ، ومقالته لزيد هو من قوله تعالى : فإخوانكم في الدين ومواليكم وهو في هذا الموضع لا يصلح أن يكون إلا الانتساب فقط لا الموارثة ، لأنه قد كان نزل في القرآن ترك التبني وترك التوارث به وبالحلف ، ولم يبق من ذلك إلا الانتساب أن ينتسب الرجل إلى حلفائه ومعاقديه خاصة وإلى من أسلم على يديه ، فيكتب كما يكتب النسب والقبيلة غير أنه لا يرثه بذلك .

وفي الحديث أنه قال : (لما قال لزيد : حجل ) قال أبو عبيد : هو أن يرفع رجلا ويقف على الأخرى من الفرح . قال : وقد يكون بالرجلين معا إلا أنه قفز .

الثامن :

إن قلت : اشترطوا عليه أن لا يخرج بأحد من أهلها إن تبعه ثم خرجت بنت حمزة ومرت معه .

قلت : إن النساء لم يدخلن في العهد والشرط إنما وقع على الرجال فقط ، وقد بينه البخاري في كتاب : الشروط بعد هذا ، وفي بعض طرقه فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا . ولم يذكر النساء فصح بهذا أن أخذه لابنة حمزة كان لهذه العلة .

ألا تراه رد أبا جندل إلى أبيه وهو العاقد لهذه المقاضاة . وقال

[ ص: 49 ] البخاري فيما سيأتي : يقول الله تعالى : إذا جاءك المؤمنات الآية .

ففيه نسخ السنة بالقرآن .

قال السهيلي : وفي قوله : (ولا يأتيك منا رجل ) . إلى آخره منسوخ عند أبي حنيفة بحديث سرية خالد حين وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خثعم وفيهم ناس مسلمون فاعتصموا بالسجود فقتلهم خالد ، فوداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصف الدية وقال : "أنا بريء من كل مسلم بين مشركين" وقال فقهاء الحجاز : ذلك جائز ولكن للخليفة الأكبر لا لمن دونه .

وفيه : نسخ السنة بالقرآن على أحد القولين ، فإن هذا العهد كان يقتضي أن لا يأتيه مسلم إلا رده الله ، فنسخ الله ذلك في النساء خاصة ، على أن لفظ المقاضاة : لا يأتيك رجل . وهو إخراج النساء . وقيل : إنما جاز رد المسلمين إليهم في الصلح ; لقوله : "لا يدعوني إلى خطة" إلى آخره . وفي رد المسلم إلى مكة عمارة البيت وزيادة خير من الصلاة بالمسجد الحرام وطوافه بالبيت ، فكان هذا من تعظيم حرمات الله تعالى ، فعلى هذا يكون حكما مخصوصا بمكة وبرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغير جائز لمن بعده كما قال العراقيون . وقيل : إنما رد أبا جندل واسمه العاص ; لأنه كان يأمن عليه القتل بحرمة أبيه سهيل بن عمرو .

وفيه : اختصاص القوم فيما يراه جعالة في علمه ، والحجة في ذلك

[ ص: 50 ] من كل واحد منهم .

وهذه خواتم معجلة على روايات لم يذكرها البخاري ، وقد ساق البخاري قصة الحديبية مطولة من حديث مروان والمسور في الشروط فلنشرحها هنا لتصير مجموعة في موضع واحد ، واسم العين الذي بعثه من خزاعة بسر -بالسين المهملة- ابن سفيان بن عمرو بن عويمر الخزاعي . قاله ابن إسحاق في "سيره" ، وهو الذي بعثه أيضا مع بديل بن أم أصرم عام الفتح ليستنفرا خزاعة .

وغدير الأشطاط بطاءين مهملتين ، وبعضهم يقول بالمعجمتين ، قال أبو عبيد : هو تلقاء الحديبية . وقيل : وراء عسفان ، وهو جمع شط وهو السنام ، وشط الوادي أيضا جانبه .

والغميم وهو بغين معجمة وميم مكسورة ، وذكر صاحب "المطالع" فيه ضم الغين وفتح الميم ، ورده صاحب "التثقيف" فقال : ويقولون لموضع بقرب مكة : الغميم على التصغير ، والصواب الفتح ، جاء ذكره في كتاب البخاري وغيره ، وكذا هو أينما وقع في شعر ابن أبي ربيعة وغيره . وقال ابن حبيب : الغميم بجانب المراض ، والمراض بين رابغ والجحفة .

وقال الحازمي : المصغر واد في ديار حنظلة من بني تميم .

والطليعة : التي تخرج لأخذ خبر العدو .

وقترة الجيش : هو غبرة حوافر الدواب . غبرة سوداء ، ومثله ترهقها قترة .

وقوله : (حتى إذا كان بالثنية ) قال الداودي : يعني التي أسفل مكة .

[ ص: 51 ] ومنها : ولما بركت ناقته - عليه السلام - قال الناس : حل حل . وهو زجر الناقة إذا حملها على السير بسكون اللام ، فإذا ثنيت قلت : حل حل بكسر اللام والتنوين في الأولى وسكونها في الآخر كقولهم : بخ بخ ، وصه صه . ويجوز في الثانية كسر اللام كما ضبط في بعض الكتب .

قال ابن سيده : هو زجر لإناث الإبل خاصة ، ويقال : حلا وحلي لا حليت ، وقد اشتق منه اسم فقيل : الحلحال في شعر كثير عزة . قال الجوهري : وحوب زجر للبعير .

ومنها : قوله : (ألحت ) -وهو بحاء مهملة مشددة- أي : لزمت مكانها ولم تنبعث . ومنها : خلأت ، وهو بالخاء المعجمة والهمز ، وهو كالحران في الخيل . قال ابن فارس والهروي : ألح الجمل وخلأت الناقة . قال ابن فارس : ولا يقال للجمل خلأ .

وكذا قال ابن بطال : الخلأ في النوق مثل الحران في الخيل . فلما قال ذلك وظنوا أن ذلك من خلقها فقال - عليه السلام - : "ما خلأت ، وما ذاك لها بخلق" أي : بعادة ، وهو دال على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان يحكم بها على الطارئ الشاذ ، وكذلك في الناس إذا نسب إنسان إلى غير خلقه المعلوم في هفوة كانت منه لم يحكم بها .

وقوله : ("ولكن حبسها حابس الفيل" ) يريد أن الله –عز وجل - حبسها عن دخول مكة كما حبس الفيل حين جيء به لهدم الكعبة . قال الخطابي : والله أعلم أنهم لو استباحوا مكة لأتى القتل على قوم سبق في علم

[ ص: 52 ] الله أنهم سيسلمون ويخرج من أصلابهم ذرية يؤمنون . هذا موضع التشبيه بحبسها .

قال الداودي : لما رأى - عليه السلام - بروك القصواء علم أن الله -عز وجل- أراد صرفهم عن القتال ليقض الله أمرا كان مفعولا .

ومنها : (الخطة ) ، وهي بضم الخاء المعجمة وبالطاء المهملة : الحالة . وقال الداودي : الخصلة . وقال صاحب "المطالع" : قضية وأمر .

ومنها : قوله : (يعظمون فيها حرمات الله ) يعني البلدة الحرام فيكفون عن القتال فيه تعظيما للحرم .

قال ابن بطال : يريد بذلك موافقة الله في تعظيم الحرمات ; لأنه فهم عن الله تعالى إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة ، فأبقى عليهم لما سبق في علمه من دخولهم في دين الله أفواجا .

ومنها : (الثمد ) وهو : الماء القليل الذي لا مادة له . قال الداودي : هو العين . وقيل : هو ما يظهر من الماء زمن الشتاء ويذهب في الصيف . قال بعضهم : لا يكون إلا فيما غلظ من الأرض .

وقوله : (قليل الماء ) . أكده ; لأنه لغة : القليل من الماء كما سلف .

ومنها : قوله : (يتبرضه الناس تبرضا ) . أي يأخذونه قليلا قليلا ، وأصله اليسير من العطاء . وعبارة ابن بطال : أنه جمع الماء باليدين . وزعم بعضهم في شرح شعر لبيد أنه القليل من ماء السماء . قال صاحب "العين" : ماء برض : قليل .

[ ص: 53 ] فبرض الماء : جمع البرض منه ، ومنها قوله (فلم يلبثه الناس ) وهو بثاء مثلثة . قال ابن التين : أي لم يتركوهن ، ولبث غير متعد وعداه هنا لأنه رباعي من ألبث يلبث .

وقوله : (حتى نزحوه ) : أي : لم يبقوا منه شيئا ، يقال : نزحت البئر فنزحت لازم ومتعد قاله ابن التين . وقال ابن بطال : يقال نزحت البئر نقص ماؤها ، وبئر نزوح قليلة الماء ، عن صاحب "العين" .

وقوله (فانتزع سهما من كنانته ) هي : الجعبة التي فيها النبل .

وقوله : (يجيش لهم بالري ) هو بجيم ثم مثناة تحت ثم شين معجمة فاض .

قال ابن سيده جاشت تجيش جيشا وجيوشا وجيشانا وكان الأصمعي يقول : جاشت بغير همز : فارت ، وبالهمز : ارتفعت ، وقال الداودي : معناه يأتي بالري .

ومنها : (صدروا ) أي رجعوا رواء ، وهو من أعلام نبوته وبركته . ومجيئه من غير أن يستأمن قريشا وبينه وبينهم ما لا يخفى جريا على عادة العرب من أن مكة غير ممنوعة ممن قصدها .

ومنها : (بديل بن ورقاء ) وكان من دهاة العرب . قال أبو عمر : أسلم يوم الفتح بمر الظهران وشهد حنينا والطائف وتبوك وكان من كبار مسلمة الفتح ، وقيل : أسلم قبل ذلك . وتوفي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن حبان : كان سيد قومه .

[ ص: 54 ] وقوله : (في نفر ) النفر من ثلاثة إلى عشرة : قاله ابن فارس ، وقال ابن عزيز : ما بين العشرة إلى الثلاث ، ومنها : العيبة بعين مهملة ثم مثناة تحت ثم باء موحدة ، وهي هنا موضع سره وأمانته كعيبة الثياب التي يضع فيها الإنسان جيد ثيابه .

ومنها : قوله : (نصح النبي - صلى الله عليه وسلم - ) قال ابن التين : ضبط بفتح النون على أنه مصدر من ينصح ، وفي بعض الكتب بضمها على الاسم من نصح . و (تهامة ) : بكسر التاء .

ومنها (أعداد مياه الحديبية ) قال الداودي : يعني موضعا بمكة .

وقال الخطابي وابن بطال : هو جمع عد ، وهو جمع الماء الدائم الذي لا ينقطع ، يقال : ماء عد ومياه أعداد ، وأصل الماء موه بدليل جمعه على مياه ، فالهمز إذن بدل من الهاء ، وكذلك يقال في تصغيره : مويه .

ومنها : (العوذ المطافيل ) . قال السهيلي هو جمع عائذ ، وهي الناقة التي معها ولدها يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان ليزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يناجزوك في زعمهم ، وإنما قيل للناقة : عائذ ، وإن كان الولد هو الذي يعوذها لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها ; لأنها في معنى نامية وزاكية . وقال الخطابي : العوذ . الحديثات النتاج . قال : والمطافيل قيل : الأمهات التي معها أطفالها يريد أن هذه القبائل قد احتشدت لحربه وساقت أموالها .

[ ص: 55 ] وقال ابن التين : تجمع أيضا على عيذان مثل راع ورعيان في "الصحاح" . قلت : وعوذان أيضا ، تقول : هي عائذ بينة العئوذ إذا ولدت عشرة أيام وخمسة عشر يوما ثم هي مطفل بعد ذلك ذكره الجوهري ، وذكر الهروي أنه يقال المطافيل : النساء معهن أولادهن وقال ابن فارس : هي سبعة أيام عائذ إذا وضعت . قال : والمطافيل : التي معها أطفالها ، زاد وهي قريبة عهد بنتاج .

وقال الداودي : العوذ المطافيل : سراة الرجال . قال : وهو ذهل ، وقيل : هي الناقة التي لها سبع ليال منذ ولدت وقيل : عشرة . وقيل : خمسة عشر يوما ، ثم هي مطفل بعد ذلك ، وقيل : النساء مع الأولاد . وقيل : النوق مع فصلانها ، وهذا هو أصلها .

وقوله : (نهكتهم الحرب ) هو بكسر الهاء وفتحها ، أي : أبلغت فيهم . يقال نهكته الحمى إذا نقصته يريد ما كان من بدر وما تكلفوه يوم أحد ويوم الخندق من نفقات الأموال .

ومنها : قوله : "ماددتهم" أي : ضربت معهم مدة للصلح .

ومنها : قوله : "فإن شاءوا" قال ابن التين : وقع في بعض الكتب بالواو بدل الفاء ، وبالأول يستثقل الكلام ، ومعنى "يخلوا بيني وبين الناس" أي : يكفون عن حربي ويتركوني وإياهم فإن ظفرت بهم كانوا قد ربحوا أموالهم وما تأتي عليه الحرب من الأنفس ، وإن ظفر بغيرهم فقد جموا .

وقوله : "جموا" -بالجيم- أي : استراحوا من جهد الحرب ، وهم

[ ص: 56 ] جامون أي : مستريحون وأصله الجمع والكثرة ، ومنه الجم الغفير . وقال ابن التين إنه مأخوذ من الجمام وهي الراحة .

ومنها : "تنفرد السالفة " قال الخطابي : أي : بين عنقي ، والسالفة مقدم العنق ، وقيل : صفحته ، وفي "المخصص" السوالف : الطلى . وفي "المحكم" : أعلى العنق . وأراد حتى أبقى وحدي . وقال الداودي : أراد حتى تنقطع مدتي وأنفرد في قبري . قال : والسالفة قيل : العنق وهو العرق الذي بين الكتف والعنق .

ومنها : قوله : ("ولينفذن الله -عز وجل- أمره" ) أي : ليظهره على الدين كله وإن كرهوا .

ومنها : قوله : ("ألستم بالوالد ، أو لست بالولد" ) أي : أصنع لكم ما يصنع الولد لوالده في النصرة وغيرها .

واسم أم عروة بن مسعود سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف .

ومنها : قوله : ("استنفرت أهل عكاظ" ) أي : دعوتهم إلى نصركم .

وقوله : ("فلما بلحوا" ) هو بباء موحدة وبعد اللام المشددة حاء مهملة ، أي : عجزوا يقال : بلح الفرس إذا أعيا ووقف .

وقال الخطابي : (بلحوا ) : امتنعوا . يقال : بلح الغريم إذا قام عليك فلم يؤد حقك ، وبلحت البركة إذا انقطع ماؤها .

[ ص: 57 ] ومعنى (اجتاح ) : استأصل أهله ، ومنه سميت الجائحة . و (الأشواب من الناس ) يريد : الأخلاط . قاله الخطابي .

قال : والشوب : الخلط . وروي أوشابا وهو مثله . تقول : هم أوشاب وأشابات إذا كانوا من قبائل شتى مختلفين .

وقال الداودي هم أرذال الناس . وقال القزاز : مثل الأوباش .

وقوله : (خليقا أن يفروا ويدعوك ) أي : حقيقا ذلك . قاله الداودي .

وقال ابن فارس : بكذا أي : ممن يقدر فيه .

وقوله : (امصص بظر اللات ) هو بفتح الصاد الأولى كما قيده الأصيلي وصوبه صاحب "المطالع" من مص يمص وهو أصل مطرد في المضاعف مفتوح الثاني ، وفي رواية أبي الحسن بضمها ، والأول أصح ; لأن ماضيه مص .

قال ابن التين : وهي كلمة تقولها العرب عند المشاتمة والذم ، تقول : ليمصص بظر أمه ، واستعار أبو بكر ذلك في الكلام لتعظيمهم إياها .

والبظر : بالظاء المعجمة قبلها باء موحدة ثم راء . قال الداودي : هو فرج المرأة ، وقال ابن التين : هو عند أهل اللغة ما يخفض من فرجها أي يقطع عند خفاضها .

وقال أبو عبيد : البظارة ما بين الأسكتين ، وهما جانبا الحياء . وقال أبو زيد : هو البظر . وقال أبو مالك : هو البنظر . وقال ابن دريد : البيظرة :

[ ص: 58 ] ما تقطعه الخاتنة من الجارية ، ذكره في "المخصص" .

وقال في "المحكم" : البظر ما بين الأسكتين ، والجمع بظور وهو البيظر والبظارة ، والبظارة ، الأولى عن أبي غسان ، وامرأة بظراء : طويلة البظر ، والاسم : البظر ، ولا فعل له ، والمبظر : الخاتن كأنه على السلب ، ورجل أبظر : لم يختن .

وقول عروة : (أما والذي نفسي بيده لولا يد . . ) إلى آخره قال ذلك وهو كافر ; لأنهم كانوا يعرفون الله وبعض صفاته ويجهلون بعضها ، وكانوا يسمون عبد الله ، كذا ذكر الداودي وأنكر هذا بعضهم ، وقال : إذا جهل بعض صفات الله لم يعرفه ، وأسلم عروة بعد ذلك ، وأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوم فقتلته ، ويقال : إن مثله كمثل الذي قال : يا ليت قومي يعلمون الآية [يس : 26] ذكره الداودي .

وقوله : (لم أجزك بها ) أي لم أكافئك بها ، من جزى يجزي .

وفيه : دلالة أن الأيادي يجب على أهل الوفاء مجازتها ، والمعاوضة عليها ، ومس عروة لحية سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاريا على عادة العرب يستعملونه كثيرا ، يريدون بذلك التحبب والتواصل ، وحكي عن بعض العجم فعل ذلك أيضا وأكثر العرب فعلا كذلك أهل اليمن ، وكان المغيرة يمنعه من ذلك إعظاما لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإكبارا لقدره ; إذ كان إنما يفعل ذلك الرجل بنظيره دون الرؤساء ، وأين نظيره ؟! ولم يمنعه - عليه السلام - من ذلك تألفا واستمالة لقلبه وقلب أصحابه .

[ ص: 59 ] والمغفر : شيء يعمل من سرد الدروع تستر الرأس إلى الكتفين .

وقوله : (كلما أهوى بيده ) يقال : أهوى الرجل بيده إلى الشيء ليأخذه .

ونعل السيف : ما يكون أسفل القراب من حديد أو فضة ، ويستدل بهذا على جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيف ; مخافة العدو، وأن الإمام إذا جفا عليه أحد لزم ذلك القائم تغييره بما أمكنه .

وقوله : (أي غدر ) : يريد المبالغة في وصفه بالغدر .

قال ابن بطال : وفي لين عروة وبديل لقريش دلالة على أنهم كانوا أهل إصغاء وميل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقول عروة : (أرأيت إن استأصلت قومك ) فيه : دلالة على أنه - عليه السلام - كان يومئذ معه جمع يخاف منه عروة على أهله الاستئصال لو قاتلهم ، وخوف عروة إن دارت الدائرة -والعياذ بالله- على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس ; لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض ، فإذا كانوا أخلاطا فر كل واحد عن الآخر ، ولم ير على نفسه عارا ، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه ، ولم يعلم عروة أن الذي عقده الله به من قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم .

ولذلك رد عليه الصديق ، وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس ، وأفاضلهم ، ورماهم بالفرار .

وقوله : (ألست أسعى في غدرتك ) يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ، ويمنع منهم أهل التنكيل الذين قتلهم المغيرة ; لأن أهل المغيرة بقوا بعده في دار الكفر ، وكان المغيرة خرج مع نفر من بني

[ ص: 60 ] مالك إلى المقوقس ، ومع القوم هدايا قبلها منهم المقوقس ، ووصلهم بجوائز ، وقصر بالمغيرة ; لأنه ليس من القوم ، فجلسوا في بعض الطريق يشربون ، فلما سكروا وناموا قتلهم المغيرة جميعا ، وأخذ ما كان معهم ، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ، فقال له أبو بكر : ما فعل المالكيون الذين كانوا معك ؟ قال : قتلتهم ، وجئت بأسلابهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتخمس أو ليرى فيها رأيه ؟ فقال - عليه السلام - : "أما المال فلست منه في شيء"
، يريد في حل ; لأنه علم أن أصله غصب ، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها عند الأمن ، وإذا كان الإنسان مصاحبا لهم ، فقد أمن كل واحد منهم صاحبه ، فسفك الدماء وأخذ الأموال عند ذلك غدر ، والغدر بالكفار وغيرهم محظور .

فلما بلغ ثقيفا فعل المغيرة تداعوا للقتال ، ثم اصطلحوا على أن يحمل عنه عروة بن مسعود عم المغيرة ثلاثة عشر دية .

والنخامة : ما يصعد من الصدر إلى الفم ، ومن الرأس .

وابتدروا أمره : استبقوا إليه .

وقوله : (يقتتلون على وضوئه ) . قال الداودي : قصد بما يتوضأ به من الماء ، ويحتمل أنه يريد : أنه كان يتوضأ في إناء ليتبركوا به ، ولئلا يضيع ما فيه منفعة .

وقوله : (خفضوا أصواتهم عنده ) . هذا كقوله تعالى : لا ترفعوا أصواتكم الآية [الحجرات : 2] .

قوله : (ما يحدون إليه النظر ) أي : ما يتأملونه ، ولا يديمون النظر

[ ص: 61 ] تعظيما له .

وكان أبو بكر وعمر بعد أن نزلت الحجرات لا يكلمه أحدهما إلا كالمناجي له حتى ربما استفهم أحدهما لشدة الإخفاء .

وقوله : (فقال رجل من بني كنانة ) كانت بنو كنانة ممن يمالئ قريشا على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودخلوا في عهد قريش ، كما أن خزاعة دخلت في عهد المسلمين ، وكان في بعض المدة عدا رجل من كنانة على آخر من خزاعة ، فعلمت قريش أن العهد انتقض ، فأرسلوا أبا سفيان ليجدد العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وظنوا أنه لم يعلم بقتل الخزاعي ، وكان الوحي جاءه بذلك ، فلم يفصح لأبي سفيان بنقض العهد ، ولا أن يجدد ، بل قال له : "يكفي العهد الأول" ، وهذا من المعاريض .

فمشى أبو سفيان إلى أبي بكر وعمر ليكلماه بذلك فأجاباه بغلظ ، وإلى فاطمة وابنيها فأبوا ، فأتى الناس والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم ، فقال : إني أجرت بين الناس ، فقال - عليه السلام - ، وأراد أن يوهمه : "أسمع ما تقول أبا سفيان ؟ " ، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما فعل فعلموا أنه لم يفد شيئا .

وقوله : "سهل أمركم ؟ " هو تفاؤل - عليه السلام - باسم سهيل ، إذ كان يحب الفأل الحسن ، وكان تفاؤله حقا ; لأنه يلقى في روعه ، وفي إنكار سهيل كتب البسملة ، ويمين المسلمين : (والله لا نكتب ) فيه -كما قال ابن بطال - أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره . وتركه - عليه السلام - إبرار قسمهم ، وقد أمر به أمر ندب مما يحسن ويجمل .

فإذا كان الحلف في أمر يؤدي إلى انخرام المقاضاة والصلح كهذا

[ ص: 62 ] فلا يندب إلى بره ، مع أن ما دعا إليه سهيل لم يكن إلحادا في أسمائه تعالى ، وكذا ما أباه من كتابة (رسول الله ) ليس إلحادا في الرسالة .

فلذلك أجابه - عليه السلام - إلى ما دعاه ، ولم يأنف سهيل من هذا ; لأنه كان متكلما عن أهل مكة لا سيما وفي بعض طرقه : هذا ما قاضى عليه أهل مكة رسول الله . فخشي سهيل أن ينعقد في مقالتهم الإقرار برسالته . وليس في انتمائه إلى أبيه ما ينفي رسالته .

وقول سهيل : (لا تكتب إلا باسمك اللهم ) أول من قالها أمية بن أبي الصلت ، كما قال السهيلي ، ومنه تعلمتها قريش وتعلمها هو من الجن فيما ذكره المسعودي .

وقوله : (إذ أتاه أبو جندل : إنا لم نقض الكتاب بعد ) يقتضي أن من صالح أو عاهد على شيء بالكلام أنه بالخيار في النقض في المجلس .

وقوله : (فأجره لي ) .

قال الحميدي فيما نقله ابن الجوزي : بالراء . وبالزاي أليق ، وكذا قال ابن التين : أنه يروى بهما ، فمن رواه بالراء فهو من الأمان . قال تعالى : فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة : من الآية 6] ومنه أيضا : وهو يجير ولا يجار عليه [المؤمنون : من الآية 88] .

وقول مكرز : (أجزناه لك ) أي : أمناه لك إذ لم يفعل سهيل ، وكان سهيل من أشراف قريش ، ومعنى (أجزه ) بالزاي ، أي : أجز لي فعلي فيه ، قاله الداودي .

وقوله : (الدنية ) يعني : الدون .

[ ص: 63 ] وقوله : ("إني رسول الله ولست أعصيه " ) تنبيها لعمر . أي : إنما أفعل هذا من أجل ما أطلعني الله عليه من حبس الناقة ، وإني لست أفعل ذلك برأيي وإنما هو بوحي ، وما كان من عمر لرسول الله ولأبي بكر .

فيه : أن للمؤمنين استفهام الأنبياء عما تلجلج في نفوسهم ; ليزال ما في نفوسهم ، ويزدادوا يقينا .

وفيه : أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم دليل على الخصوص .

ألا ترى أن عمر حمل كلامه في دخول البيت على عمومه ، فأخبره الشارع أنه لم يعده بذلك في هذا العام ، بل وعدا مطلقا ، ويؤخذ منه أن من حلف على فعل ولم يعين وقتا أن وقته أيام حياته ، وانظر إلى فضل أبي بكر على عمر في جوابه بما أجابه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء ، وهو دال على توقد ذهنه ، وحسن قريحته ، وقوة إيمانه .

وفيه : صلابة عمر ، وفضل الصديق ، وأنه يقصد بالمسألة حتى يحتاج إلى علمه .

وفيه : سابقته في العلم ، وتوفيق الله إياه لمثل قوله - عليه السلام - .

وقوله : (تطوف به ) هو مشدد الواو والطاء مثل قوله تعالى فلا جناح عليه أن يطوف بهما [البقرة : من الآية 158] .

والغرز للرجل بمنزلة الركاب للسرج فكأنه استعار ذلك ، أي : تمسك بركابه واتبعه .

قال الداودي في رواية أخرى : (بعروة الله ) أي : بدل (بغرزه ) .

وقول عمر : (فعملت لذلك أعمالا ) يشير كما قال ابن الجوزي إلى الاستغفار والاعتذار .

[ ص: 64 ] وقال ابن بطال : يعني أنه كان يحض الناس على ألا يعطوا الدنية في دينهم بإجابة سهيل إلى رد أبي جندل إليهم ، ويدل على ذلك إتيانه أبا بكر ، وقوله له مثل ذلك .

وأبو بصير بالباء الموحدة المفتوحة ثم صاد مهملة مكسورة ، اسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد ، وقيل : عبيد بن أسيد حالف بني زهرة .

وقوله : ("مسعر حرب " ) هي كلمة تعجب ، يصفه بالإقدام في الحرب ، والإيقاد لنارها ، واشتقاقه من سعرت النار إذا أوقدتها ، والمسعر الخشبة التي تسعر النار .

وقال الداودي : هي كلمة تقال عند المدح والذم والإعجاب .

و (ويل ) مكسور اللام ، وموصول ألف (امه ) ، قال ابن التين : كذا رويت هذه اللفظة ، وقال ابن بطال : إعرابه : ("ويل امه مسعر حرب" ) ، فانتصب على التمييز ، ولم يرد الدعاء بإيقاع الهلكة عليه ، وإنما هو على ما جرت به عادة العرب على ألسنتها كـ"تربت يداك " ونحوه ، وقتل أبي بصير أحد الرسل بعد أن أرسله رسول الله معه ، فليس عليه حراسة المشركين ممن يدفعه إليهم ، ولا عليه في ذلك دية ; لأن هذا لم يكن في شرطه ولا طالب أولياء القتيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقود من أبي بصير .

وظاهر الحديث -كما قال السهيلي - رفع الحرج عنه ; لأنه - عليه السلام - لم يثرب بل مدحه فقال : "ويل امه مسعر" ، وفي رواية : "محش حرب " ;

[ ص: 65 ] لأن أبا بصير دفع عن نفسه ودينه ، ومن قتل دون واحد منهما فهو شهيد ، قال : لم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاثمائة وكان كثيرا ما يقول :


هنا لك الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر



قال : فلما جاءهم الفرج من الله ، وكلمت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤيهم إليه لما ضيقوا عليهم ، ورد كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بصير يجود بنفسه ، فلما قرأ الكتاب سر به ثم قبض والكتاب على صدره ، فبني عليه مسجد ، فلما فهم من قوله : "لو كان له أحد" خرج حتى أتى سيف البحر بكسر السين المهملة ، أي : شاطئه وهو موضع ، كما قاله الداودي .

وقوله : (وامتعضوا ) هو بضاد معجمة ، أي : كرهوا ، وروي بتشديد الميم ، وصحف من قاله بالظاء المعجمة ، واقتصر ابن بطال في أول الشروط على قول صاحب "العين" : معض الرجل وامتعض إذا غضب للشيء ، وأمعضته وأمعضه ومعضته إذا أنزلت به ذلك .

وقول البخاري في آخره : (قال عقيل : عن الزهري ، قال عروة : فحدثتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن ) الحديث ذكره مسندا في أول الشروط فقال : حدثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل به .

التالي السابق


الخدمات العلمية