التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2556 [ ص: 70 ] 8 - باب: الصلح في الدية

2703 - حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثني حميد ، أن أنسا ، حدثهم أن الربيع -وهي : ابنة النضر- كسرت ثنية جارية ، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو ، فأبوا فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم بالقصاص . فقال أنس بن النضر : أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله ؟! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال : "يا أنس ، كتاب الله القصاص" . فرضي القوم وعفوا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" . زاد الفزاري ، عن حميد ، عن أنس : فرضي القوم ، وقبلوا الأرش . [2806 ، 4499 ، 4500 ، 4611 ، 6894 - مسلم: 1675 - فتح: 5 \ 306]


ذكر فيه حديث أنس عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثني حميد عنه في كسر سن الربيع بطوله هو أحد ثلاثياته . زاد الفزاري ، عن حميد ، عن أنس : فرضي القوم ، وقبلوا الأرش .

وهذا التعليق أسنده البخاري في تفسير سورة المائدة ، فقال حدثنا محمد بن سلام عن مروان بن معاوية الفزاري . . فذكره ، وفي رواية ابن منير ، عن عبد الله بن (بكر ) ، عن حميد ، عن أنس أن الربيع عمته ، وذكره في الديات أيضا .

وفي مسلم من رواية حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فقالت أم الربيع : والله لا تكسر

[ ص: 71 ] ثنيتها ، وكذا هو أيضا في "سنن النسائي " ورجح جماعة من العلماء رواية البخاري (د . س . ق ) ، وقال النووي : هما قضيتان فالله أعلم .

إذا تقرر ذلك ، فالكلام عليه من أوجه :

أحدها :

الثنية : مقدم الأسنان ، والأرش : الدية ، قال ابن التين ، وقيل : هو بفتح الهمزة وكسرها .

وقال ابن فارس : أرش الجراحة : ديتها ، وضبط بفتح الراء ، قال : وذلك لما يكون فيه من المنازعة ، قال : ويقال : إن أصله الهرش .

بمعنى طلبوا الأرش ، أي : طلبوا أن يعطوه ، ويعفى عن القصاص ، فأتى أهلها وتحاكموا إلى رسول الله ، فأمر بالقصاص .

ثانيها :

الربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة ، ثم ياء مثناة تحت مشددة مكسورة . وأنس هذا هو : ابن النضر عم أنس بن مالك ، وقتل يوم أحد .

قال أنس : وجدنا به بضعا وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية

[ ص: 72 ] بسهم ، ومثل به ، وما عرفه أحد إلا أخته ببنانه وفيه وفي أشباهه نزلت : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية [الأحزاب : 23] .

وفيه : ثقته بالله ، وقسمه لقوة رجائه .

ثالثها :

قوله : ("كتاب الله القصاص" ) أي : فرض الله على لسان نبيه وحيا . وقيل : أراد قوله تعالى : والسن بالسن [المائدة : 45] على قول من يرى أنا مخاطبون بشرع من تقدمنا من الأنبياء .

وقيل هو : إشارة إلى قوله : في وإن عاقبتم الآية [النحل : 126] فعمومه يأتي على السن وغيرها من الأعضاء .

وفيه : تلطفه - عليه السلام - لأنس ; لعلمه بصحة مراده .

وفيه : أن الله جل جلاله لعبده عند حسن ظنه .

ومعنى "لأبره" ، أي : أبر قسمه لكرامته عليه ، وأتى الأمر على طبق مراده لما فيهم من الفضل .

وفيه : أن من له القود ليس عليه قبول الدية إلا أن يشاء .

رابعها : فيه وجوب القصاص في السنن -وهو إجماع - إذا قلعها كلها ، فإن كسر بعضها ففيها وفي كسر العظام خلاف مشهور للعلماء ، والأكثرون على أنه لا قصاص ، وذهب مالك إلى أن القصاص في ذلك كله إذا أمكنت المماثلة وما لم يكن مخوفا كعظم الفخذ والصلب ، أخذا بقوله : فمن اعتدى عليكم [البقرة : 194] ، وبقوله : والسن بالسن [المائدة : 45] .

وذهب الكوفيون ، والليث ، والشافعي : إلى أنه لا قود في كسر

[ ص: 73 ] العظام ما خلا السنن لعدم الثقة بالمماثلة .

قال أبو داود : قيل لأحمد : كيف تقتص من السن ؟ قال : تبرد .

وذكر ابن رشد في "قواعده" : أن ابن عباس روي عنه : أنه لا قصاص في عظم . وكذا عن عمر قال : وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقد من العظم المقطوع في غير المفصل ، إلا أنه ليس بالقوي .

وعن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ ، وفي "شرح الهداية" ، روي مثل هذا الأول عن ابن مسعود ، قال في "الشرح" : ولا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ، ولا بين الحر والعبد .

خامسها : قوله : (والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ) ليس ردا لقول سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل المراد الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو ، وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة إليهم في العفو ، وإنما حلف ثقة بهم أن لا يخيبوه أو ثقة بفضل الله ولطفه أن لا يخيبه ويجعل له مخرجا ; لأنه كان ممن يتقيه كما سلف ، بل يلهمهم العفو ولم يجعله في معنى المتألي على الله بغير ثقة .

وفيه : جواز الحلف مما يظنه الإنسان ، وجواز الثناء على من لا يخاف عليه الفتنة بذلك .

[ ص: 74 ] وفيه : إثبات كرامات الأولياء واستحباب العفو عن القصاص ، والشفاعة فيه .

سادسها : ما ترجم له من الصلح في الدية ظاهر فيما أورده ، وقد قال تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف الآية [البقرة : 178] .

التالي السابق


الخدمات العلمية