التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2580 [ ص: 130 ] 14 - باب: إذا اشترط في المزارعة : إذا شئت أخرجتك

2730 - حدثنا أبو أحمد ، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر ، قام عمر خطيبا فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عامل يهود خيبر على أموالهم ، وقال : " نقركم ما أقركم الله" . وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ، ففدعت يداه ورجلاه ، وليس لنا هناك عدو غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ، وقد رأيت إجلاءهم ، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتخرجنا وقد أقرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعاملنا على الأموال ، وشرط ذلك لنا ؟! فقال عمر : أظننت أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ، ليلة بعد ليلة" ؟! . فقال : كانت هذه هزيلة من أبي القاسم . قال : كذبت يا عدو الله . فأجلاهم عمر ، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا ، من أقتاب وحبال وغير ذلك .

رواه حماد بن سلمة ، عن عبيد الله أحسبه عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختصره . [فتح: 327]


ذكر فيه حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر ، قام عمر خطيبا فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عامل يهود خيبر على أموالهم ، وقال : "نقركم ما أقركم الله" . ثم ساقه بطوله ، ثم قال : رواه حماد بن سلمة ، عن عبيد الله ، أحسبه عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختصره .

هذا الحديث تقدم في كتاب المزارعة معناه في باب : إذا قال رب الأرض : أقرك ما أقرك الله ، وهنا أتم ، وما للعلماء فيه .

[ ص: 131 ] وهذا الحديث يدل أن عمر إنما أخرجهم لعدوانهم على المسلمين ونصبهم الغوائل لهم اقتداء به - عليه السلام - في إجلائه بني النضير ، وأمره لهم ببيع أرضهم حين أرادوا الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يلقوا عليه حجرا مع أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عند موته : "لا يبقين دينان بأرض العرب" ذكرها مالك في "موطئه" بأسانيد منقطعة .

وفي مسلم من حديث [عمر] : "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما" .

فرأى عمر إنفاذ وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما بدا منهم من فدعهم لابنه ، وخشي منهم أكثر من هذا .

وقال الخطابي : اتهم عمر أهل خيبر بأنهم سحروا عبد الله ، وقال الصغاني : رموه من فوق بيت ففدعت قدمه .

وقال صاحب "المطالع" : في بعض تعاليق البخاري فدع يعني : كسر . والمعروف ما قاله أهل اللغة . وسيأتي أن ذلك وقع ليلا ، ولا يدرى فاعله .

ولأبي داود : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا فمن كان له مال فليلحق به فإني مخرج يهود ، وفي "الموطأ" قال مالك : وقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك ، ثم ساق الثاني ، وفي كتب السير لما أثقل بأهل فدك ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل خيبر بعثوا إليه

[ ص: 132 ] ليؤمنهم ، ويتركوا الأموال فأجابهم إلى ذلك ، وكانت مما لم توجف عليه الخيل ولا الركاب فلم تقسم لذلك . فوضعها رسول الله حيث أمره ربه
.

وحديث حماد ذكره الحميدي بلفظ : قال حماد : أحسبه عن نافع ، عن ابن عمر قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصورهم ، وغلبهم على الأرض . . الحديث ، وفيه : فلما كان زمن عمر غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه . . الحديث ، وكذا ذكره المزي .

والذي في البخاري ما سقناه ، وكذا هو في المستخرجين واعلم أن البخاري روى هذا الحديث عن أبي أحمد ، واختلف فيه على ثلاثة أقوال :

أحدها : المرار بن حمويه بن منصور الهمذاني النهاوندي ، قتل سنة أربع وخمسين ومائتين عن أربع وخمسين سنة ، كذا ذكره البيهقي في "دلائله" وأبو مسعود وأبو نعيم الأصبهاني وابن السكن وأبو ذر الهروي .

ثانيها : محمد بن يوسف البيكندي ، وقد أكثر البخاري الرواية عنه ، وهو من أفراده ، ولا يحضرني وفاته .

قال الحاكم : أهل بخارى يزعمون أن أبا أحمد هذا هو محمد بن يوسف البيكندي .

[ ص: 133 ] قال أبو عبد الله : وقد حدثونا بهذا الحديث عن (محمد ) بن هارون ، حدثنا أبو أحمد مرار بن حمويه ، حدثنا أبو غسان .

ثالثها : محمد بن عبد الوهاب ابن عم عبد الرحمن بن بشر بن الحكم بن حبيب بن مهران ، مات سنة اثنتين وسبعين ومائتين .

قال الحاكم : قرأت هذا الحديث أيضا بخط شيخنا أبي عمرو المستملي ، عن أبي أحمد محمد بن عبد الوهاب بن حبيب العبدي الفراء النيسابوري ، عن أبي غسان . وذكره ابن حزم من رواية محمد بن يحيى الكناني عن أبي غسان .

وزعم الهروي وعبد الغافر في "مجمعه" أن ابن عمر أرسله عمر إلى أهل خيبر ليقاسمهم الثمر ففدع .

إذا تقرر ذلك ; فالكلام عليه من أوجه :

أحدها : الفدع بفاء ثم دال مهملة ثم عين مهملة أيضا ذكر بعد أنه فدعت يداه ورجلاه .

قال الأزهري في "تهذيبه" عن الليث : ميل في المفاصل كلها كأن المفاصل قد زالت عن مواضعها وأكثر ما يكون في الأرساغ . قال : وكل ظليم أفدع ; لأن في أصابعه اعوجاجا .

وقال النضر بن شميل : إنه في اليد أن تراه يعني : البعير يطأ على أم قردانه فأشخص (صدر ) خفه ، ولا يكون إلا في الرسغ . وقال غيره :

[ ص: 134 ] الفدع أن يصطك كعباه وتتباعد قدماه يمينا وشمالا . وقال ابن الأعرابي : الأفدع : الذي يمشي على ظهر قدميه ، وعن الأصمعي : هو الذي ارتفع أخمص رجله ارتفاعا لو وطئ صاحبها على عصفور ما آذاه .

وقال ثابت في "خلق الإنسان" : إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فذاك الفدع ، رجل أفدع وامرأة فدعاء ، وقد فدع فدعا .

وقال في "المخصص" : هو عوج في المفاصل أو داء ، وأكثر ما يكون في الرسغ فلا يستطاع بسطه . وعن ابن السكيت : الفدعة موضع الفدع .

وقال القزاز وصاحب "الجامع" وابن دريد في "الجمهرة" ، وأبو المعالي في "المنتهى" : هو انقلاب الكف إلى إنسيها ، زاد القزاز وقيل : هو التواء رسغ الفرس من قبل الوحش ، وإقبال مركب الشظاة في الجهة من وجنتها على ما يليها من رأس الشظاة من اليد الأخرى ، ووطء منه على وجنتي يديه جميعا .

وقال الخطابي : أصل الفدع في الرجل وهو زيغ ما بينها وبين عظم الساق ، يقال : رجل أفدع إذا التوت رجله من ذلك الموضع قال : والكوع في اليدين هو (تعوج ) اليدين من قبل الكوع ، وهو رأس الزند مما يلي الإبهام .

[ ص: 135 ] وقال الجوهري : رجل أفدع بين الفدع ، وهو المعوج الرسغ من اليد والرجل فيكون منقلب الكف أو القدم إلى إنسيهما .

وقال ابن فارس : هو عوج في المفاصل كأنها زالت عن أماكنها قال : وقيل : إنه انقلاب الكف إلى إنسيهما . يقال : فدع بكسر الدال .

وقال الداودي : فدعت رجلاه أي ضربت حتى أثر فيهما .

ثانيها : قوله : (عامل يهود خيبر على أموالهم ) يعني : التي كانت لهم قبل أن يفيئها الله على المسلمين .

قال الداودي عن مالك : كانت خيبر صلحا ، وإنما أخرجهم عمر ; لقوله - عليه السلام - : "لا يبقين دينان بأرض العرب" والصحيح أن خيبر أخذت عنوة ، وقد صالحهم على النصف لما تخوفوا أن يصنع بهم ما صنع .

والذي ذكره ابن عبد البر وغيره عن مالك الثاني وهو قول جماعة من المؤرخين : البخاري ومسلم ، وحكاه ابن سعد ، عن بشير بن يسار ، وقاله غير واحد أيضا .

وقال بعضهم : فتح بعضها عنوة وبعضها صلحا .

وقوله : ("نقركم ما أقركم الله" ) أي : إذا أمرنا في حقكم بغير ذلك فعلناه كما قاله ابن الجوزي .

وفيه : جواز العقد مشاهرة ومشافهة خلافا للشافعي . واختلف أصحاب مالك : هل يلزمه واحد مما سمى أو لا يلزمه شيء ؟

[ ص: 136 ] ويكون كل واحد منهما بالخيار كذا في "المدونة" والأول قول عبد الملك فإذا شرع في العمل في النخل لزمه سنة .

وقوله : (هم عدونا وتهمتنا ) ، أي : عدواتهم متحققة في صدورنا .

وفيه : أن المسلمين لم يروا أن ذلك منهم نقض للعهد أو لعلهم لم يتمالئوا عليه .

وفيه : أن أموال المسلمين كانت مقسومة .

والتهمة : أصلها الواو ; لأنها من الوهم ، وهي محركة الهاء ، وضبطت في بعض النسخ بالسكون .

وقوله : (وقد رأيت إجلاءهم ) يقال : جلا القوم عن مواضعهم جلاء ، وأجليتهم أنا إجلاء وجلوتهم . قاله ابن فارس ، وقال الهروي : يقال جلا عن وطنه ، وأجلى وجلا بمعنى واحد ، والإجلاء : الإخراج من الوطن والمال على وجه الإزعاج والكراهة .

وقوله : (فلما أجمع عمر على ذلك ) ، أي : عزم . يقال : أجمع الأمر إجماعا إذا عزم ; قاله ابن عرفة وابن فارس ، ويقال : أجمع على أمره عزم عليه .

وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي : جعله جميعا بعدما كان متفرقا .

وكان إجلاؤه إياهم إلى تيماء وأريحاء من أرض الشام ، وبنو الحقيق هم رؤساؤهم .

ثالثها : القلوص : الأنثى من النعام والإبل ، وقيل : هي الناقة من

[ ص: 137 ] النوق على السير ، وقيل : هي الطويلة القوائم .

وقوله : (كانت هزيلة من أبي القاسم ) ، قيل : حلف عمر ، وقال : ما هو بالهزل ، ولكنه الفصل يريد قوله تعالى : إنه لقول فصل وما هو بالهزل [الطارق : 13 - 14] .

وفيه : دلالة أن العداوة توجب المطالبة بالجنايات ، كما طالبهم عمر بفدعهم ابنه .

ورجح ذلك بأن قال : (ليس لنا عدو غيرهم ) ، فعلق المطالبة بشاهد العداوة ، فأخرجهم من الأرض على ما كان أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما ترك عمر مطالبتهم بالقصاص في فدع ابنه ، لأنه فدع ليلا وهو نائم ، كما قاله المهلب ، فلم يعرف ابن عمر أشخاص من فدعه ، فأشكل الأمر كما أشكل أمر عبد الله بن سهل حين وداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه .

وفيه : أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله محمولة على الحقيقة على وجهها لا على الهزل حتى يقوم دليل المجاز والتعريض ، وإنما أقر - عليه السلام - يهود خيبر على أن سالمهم في أنفسهم ، ولا حق لهم في الأرض ، واستأجرهم على المساقاة ، ولهم شطر الثمرة ، فلذلك أعطاهم عمر قيمة شطر الثمر من إبل وأقتاب وحبال يستقلون بها ; إذ لم يكن لهم في رقعة الأرض شيء .

رابعها : استدل بعضهم من هذا الحديث أن المزارع إذا أكرهه رب الأرض بجناية بدت منه أن له أن يخرجه بعد أن يبتدئ في العمل ، ويعطيه

[ ص: 138 ] قيمة عمله ، ونصيبه كما فعل عمر ، وقال غيره إنما يجوز إخراج المساقي والمزارع عند رءوس الأعوام وتمام الحصاد والجداد .

خاتمة :

الترجمة على جواز اشتراط الخيار من المالك إلى غير أمد ، والحديث لا يدل على ذلك كما نبه عليه ابن المنير .

قال : والصحيح أن الخيار لا بد من تقييده بمدة يجوز مثلها الخيار ، وإن أطلق نزل في كل عقد على ما يليق به من المدة التي في مثلها يقع الخيار . والحديث غير متناول للترجمة لاحتمال أن يريد : نقركم ما لم يشأ الله إجلاءكم منها ; لأن المقدور كائن ، ولا ينافي وجود استرسال الأحكام الشرعية ، وقد تنفسخ العقود اللازمة بأسباب طارئة ، وقد لا تنفسخ ، ولكن يمتنع مباشرة أحد المتعاقدين لاستيفاء المنفعة كما لو ظهر فساد العامل على المساقاة وجنايته ، فإن مذهب مالك إخراجه ، وكذلك مستأجر الدار إذا أفسد ، فهذا -والله أعلم- مراد الحديث ; أي يستقرون فيها ما لم يجاهروا بفساد ، فإذا شاء الله إجلاءكم تعاطيتم السبب المقتضي للإخراج فأخرجتم ، وليس في الحديث أنه ساقاهم مدة معينة إما لأنهم كانوا عبيدا للمسلمين ، ومعاملة السيد لعبده لا يشترط فيها ما يشترط في الأجنبي ; لأن العبد مال السيد ، وله على ماله سلطنة الانتزاع فكان الجميع ماله ، وإما لأن المدة لم تنقل مع تحررها حينئذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية