التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2591 [ ص: 186 ] 2 - باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس

2742 - حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم ، عن عامر بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا بمكة ، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال : "يرحم الله ابن عفراء" . قلت : يا رسول الله ، أوصي بمالي كله ؟ قال : "لا" . قلت : فالشطر ؟ قال : "لا" . قلت : الثلث ؟ قال : " فالثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم ، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة ، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك ، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون" . ولم يكن له يومئذ إلا ابنة . [انظر : 56 - مسلم: 1628 - فتح: 5 \ 363]


ذكر فيه حديث سعد بن أبي وقاص وفيه : "فالثلث ، والثلث كثير" . بطوله ، وقد سلف في الجنائز .

وقوله : ("يرحم الله ابن عفراء" ) قال الداودي : أراه غير محفوظ ، والصواب : ابن خولة . كما ذكره البخاري في : الفرائض من حديث الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، ولعل الوهم أتى من سعد بن إبراهيم راويه عن عامر ، والزهري أحفظ من سعد .

[ ص: 187 ] واعلم أن الله تعالى ذكر الوصية في كتابه ذكرا مجملا ، ثم بين رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن الوصايا مقصورة على الثلث ; لإطلاقه لسعد الوصية بالثلث في هذا الحديث ، وليس بجور إذ لو كان جورا لبينه ، وأجمع العلماء على القول به ، واختلفوا في القدر الذي يستحب أن يوصي به الميت ، وسيأتي بعد هذا ، إلا أن الأفضل لمن له ورثة أن يقصر في وصيته عن الثلث ، غنيا كان أو فقيرا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال لسعد : "الثلث كثير" أتبعه بقوله : "إنك إن تذر" إلى آخره ، ولم يكن لسعد يومئذ إلا ابنة واحدة كما ذكر هنا وفيما بعد ، فدل أن ترك المال للورثة خير من الصدقة به ، وأن النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة .

وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة ، عن عائشة قال لها رجل : إني أريد أن أوصي . قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : فكم عيالك ؟ قال : أربعة . قالت : إن الله يقول : إن ترك خيرا [البقرة : 180] وإن هذا شيء يسير ، فدعه لعيالك ، فإنه أفضل .

وروى حماد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه ذكر له الوصية في مرضه فقال : أما مالي فالله أعلم ما كنت أفعل فيه ، وأما رباعي فلا أحب أن يشارك فيها أحد ولدي ، وعن علي أنه دخل على رجل من بني هاشم يعوده وله ثمانمائة درهم وهو يريد أو يوصي ، فقال له : يقول الله : إن ترك خيرا ولم تدع خيرا توصي به .

[ ص: 188 ] وعن ابن عباس : من ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإنه لم يترك خيرا . وقال قتادة في الآية : ألف درهم فما فوقها . قال ابن المنذر : وقد (دلت ) هذه الآثار على أن من ترك مالا قليلا ، فالاختيار له ترك الوصية ، وإبقاؤه للورثة .

وقوله : ("عسى الله أن يرفعك ، فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون" ) انتفع به من أدخله الإسلام ، وضر به من هو كافر . أو أن ابنه عمر ولاه عبيد الله بن زياد على الجيش الذين لقوا الحسين فقتلوه . وهذا من أعلام نبوته . ووقع كما أخبر . وكيف لا ولا ينطق عن الهوى .

وقال ابن بطال : ثبت أن سعدا أمر على العراق ، فأتي بقوم ارتدوا عن الإسلام ، فاستتابهم ، فأبى بعضهم فقتلهم . ففر أولئك ، وتاب بعضهم ، فانتفعوا . وعاش سعد بعد حجة الوداع خمسا وأربعين سنة .

وقوله : ("خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم" ) العالة : جمع عائل ، وهو الفقير الذي لا شيء له ، ومنه : ووجدك عائلا فأغنى [الضحى : 8] .

[ ص: 189 ] و"يتكففون" : يبسطون أكفهم لمسألتهم . قال صاحب "العين" : استكف : بسط كفه .

فرع :

أكثر أهل العلم على أن هبة المريض وصدقاته من ثلثه إذا مات منه كسائر الوصايا . واتفق على ذلك فقهاء الحجاز والعراق . وقالت فرقة : هي من جميع المال كأفعاله ، وهو صحيح . حكاه الطحاوي وقال : هذا قول لم نعلم أحدا من المتقدمين قاله . وأظنه قول أهل الظاهر : إذا قبضت وصية المريض وعطاياه فهي من رأس ماله ، لأن ما قبض قبل الموت ليس وصية ، وإنما الوصية ما يستحق بموت الموصي . وسواء قبضت عند جماعة الفقهاء أو لم تقبض هي من الثلث .

وحديث عائشة في "الموطأ" أن أباها نحلها جاد عشرين وسقا بالغابة ، فلما مرض قال : لو كنت حزتيه كان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث . فأخبر الصديق أنها لو كانت قبضته في الصحة تم لها ملكه ، وأنها لا تستطيع قبضه في المرض قبضا يتم لها به ملكه ، وجعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها به ، ولم تنكر ذلك عائشة على والدها ، ولا سائر الصحابة ، فدل أن مذهبهم جميعا كان فيه مثل مذهبه . وفي هذا أعظم حجة على من خالف قول جماعة العلماء . وكذلك فعل الشارع في الذي أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم . فأقرع بينهم ، وأعتق اثنين ، وأرق أربعة ، فجعل

[ ص: 190 ] العتق في المرض من الثلث . فكذا الهبة والصدقة لاشتراكها في تفويت المال .

وقوله : (ولم يكن له يومئذ إلا ابنة ) . حدث له بعد ذلك خمسة من الولد . واختلف متى عاده - صلى الله عليه وسلم - . والصواب : في حجة الوداع ، وبه قال الزهري .

وقال ابن عيينة : في يوم الفتح ، وغلطوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية