التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2593 2744 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا زكرياء بن عدي ، حدثنا مروان ، عن هاشم بن هاشم ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه رضي الله عنه قال : مرضت فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، ادع الله أن لا يردني على عقبي . قال : "لعل الله يرفعك وينفع بك ناسا" . قلت : أريد أن أوصي ، وإنما لي ابنة . قلت : أوصي بالنصف قال : "النصف كثير" . قلت : فالثلث ؟ . قال : " الثلث ، والثلث كثير" أو "كبير" . قال : فأوصى الناس بالثلث ، وجاز ذلك لهم . [انظر : 56 - مسلم: 1628 - فتح: 5 \ 369]


ثم ذكر حديث ابن عباس لو غض الناس إلى الربع ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "الثلث ، والثلث كثير" . وحديث سعد المذكور قبله .

ومعنى (غض ) : نقص . يقال : غضضت السقاء إذا (نقصته ) . وقول سعد : ادع الله ألا يردني على عقبي . وفي رواية مالك : أخلف بعد أصحابي . قيل : معناه بمكة ، فتخلف لمرضه . وقيل : يعيش بعدهم .

وقوله في الحديث السالف : أوصي بمالي ؟ قال : "لا" قلت : فالشطر ; قال : "لا" . احتج به أهل الظاهر في أن من أوصى بأكثر من

[ ص: 192 ] ثلث ماله أنه لا يجوز ، وإن أجازته الورثة ; لأنه لم يقل : إن أجازه ورثتك جاز . وقام الإجماع على أن الوصية بالثلث جائزة . وأوصى الزبير بالثلث . واختلف العلماء في القدر الذي يستحب الوصية به ، هل هو الخمس ؟ أو السدس ؟ أو بالربع ؟ فعن أبي بكر أنه أوصى بالخمس ، وقال : إن الله تعالى رضي من غنائم المؤمنين بالخمس . وقال معمر عن قتادة : أوصي بالربع . وذكره البخاري عن ابن عباس ، حكاه ابن بطال . وقال إسحاق : السنة الربع ، مثل ابن عباس . وروي عن علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من الربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من الثلث . واختار آخرون السدس . قال إبراهيم : كانوا يكرهون أن يوصوا بمثل نصيب أحد الورثة ، حتى يكون أقل . وكان السدس أحب إليهم من الثلث . واختار آخرون العشر . روي في حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال : بعشر مالك .

فلم يزل يناقصني وأناقصه حتى قال : "أوص بالثلث ، والثلث كثير" . فجرت سنة يأخذ بها الناس إلى اليوم .

[ ص: 193 ] قال أبو عبد الرحمن السلمي -الراوي عن سعد - : فمن ينتقص من الثلث لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والثلث كثير" . واختار آخرون لمن كان ماله قليلا وله وارث ترك الوصية . روي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وعائشة على ما سلف . وقال رجل للربيع بن خثيم : أوص لي بمصحفك . فنظر إليه ابنه ، وقرأ : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [الأنفال : 75] .

وقام الإجماع من الفقهاء : أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ، إلا أبا حنيفة وأصحابه ، وشريك بن عبد الله فقالوا : إن لم يترك الموصي ورثة فجائز له أن يوصي بماله كله . وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان لأجل أن يدع ورثته أغنياء ، ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث ، وروي هذا القول عن ابن مسعود ، وبه قال عبيدة ومسروق ، وإليه ذهب إسحاق .

وقال زيد بن ثابت : لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه ، وإن لم يكن له وارث ، وهو قول مالك والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي .

قال بعض المالكية فيما حكاه ابن التين : إذا كان بيت المال في يد من يصرفه في وجوهه ، واحتجوا بقوله : "الثلث كثير" وبما رواه آدم بن أبي إياس ، ثنا عقبة بن الأصم ، نا عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة مرفوعا : "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند الموت زيادة في

[ ص: 194 ] أعمالكم"
وروى أبو اليمان ، نا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن أبي الدرداء مرفوعا : "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم" ولم يخص من كان له وارث من غيره .

وفي المسألة قول شاذ آخر ، وهو جوازها بالمال كله وإن كان له وارث . روى الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي قال : أخبرني هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : قال عمرو بن العاصي حين حضرته الوفاة : إني قد أردت الوصية . فقلت له : أوص في مالك ومالي . فدعا كاتبا وأملى عليه . قال عبد الله : حتى قلت : ما أراك إلا قد أتيت على مالك ومالي ، فلو دعوت إخوتي فاستحللتهم . وعلى هذا القول وقول أبي حنيفة رد البخاري في هذا الباب وكذلك صدر بقول الحسن ، ثم حكم الشارع أن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله ، فمن تجاوز ما حده وزاد عليه فقد وقع في النهي ، وعصى إذا كان بالنهي عالما . قال الشافعي : وقوله : "الثلث كثير" يريد أنه غير قليل ، وهذا أولى معانيه ، ولو كرهه لقال : غض منه .

[ ص: 195 ] وفي قول سعد : لا يرثني إلا ابنة . إبطال قول من يقول بالرد على الابنة ; لأنها لا تحيط بالميراث ، وقد كان لسعد عصبة يرثونه إذ ذاك ، ثم حدث له أولاد كما أسلفنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية