التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2598 [ ص: 206 ] 8 - باب: قول الله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين [النساء :11] ويذكر أن شريحا وعمر بن عبد العزيز وطاوسا وعطاء وابن أذينة أجازوا إقرار المريض بدين . وقال الحسن : أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة . وقال إبراهيم والحكم : إذا أبرأ الوارث من الدين برئ . وأوصى رافع بن خديج أن لا تكشف امرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها . وقال الحسن : إذا قال لمملوكه عند الموت : كنت أعتقتك . جاز . وقال الشعبي : إذا قالت المرأة عند موتها إن زوجي قضاني وقبضت منه . جاز . وقال بعض الناس : لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ، ثم استحسن فقال : يجوز إقراره بالوديعة والبضاعة والمضاربة . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " . [5143] ولا يحل مال المسلمين بالظن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "آية المنافق إذا اؤتمن خان " . وقال الله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [النساء : 58] فلم يخص وارثا ولا غيره . فيه : عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . [انظر : 34]

2749 - حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف " . [انظر : 33 - مسلم: 59 - فتح: 5 \ 375]


[ ص: 207 ] ثم ساق حديث أبي هريرة : "آية المنافق ثلاث . . " .

الشرح :

هذه القطعة اشتملت على عدة أحكام ونفائس ، أما ما ذكر عن شريح وغيره في إقرار المريض بالدين .

أما إقراره لأجنبي فالإجماع قائم عليه . قال ابن المنذر : أجمع العلماء أن إقرار المريض بالدين لغير الوارث جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة . واختلفوا إذا أقر لأجنبي وعليه دين في الصحة ببينة ، فقالت طائفة : يبدأ بدين الصحة ، هذا قول النخعي والكوفيين ، قالوا : فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون ، وقالت طائفة : هما سواء ، دين الصحة والدين الذي يقر به في المرض إذا كان لغير وارث ، هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد ، وقال : إنه قول أهل المدينة ، ورواه عن الحسن .

وممن أجاز إقرار المريض بالدين للأجنبي الثوري وأحمد وإسحاق . قال : واختلفوا في إقرار المريض للوارث بالدين ، فأجازه طائفة ، هذا قول الحسن وعطاء ، وبه قال إسحاق وأبو ثور . قال : وروينا عن شريح والحسن أنهما أجازا إقرار المريض لزوجته بالصداق ، وبه قال الأوزاعي . وقال الحسن بن صالح : لا يجوز إقراره لوارث في مرضه إلا لامرأته بالصداق .

[ ص: 208 ] وقالت طائفة : يجوز إقرار المريض في الصحة . والظاهر أنه لا يقر إلا عن حقيقة ولا يقصد حرمانا ; لأنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب ويتوب فيها الفاجر .

وفيها قول ثالث قاله مالك ، قال : إذا أقر المريض لوارثه بدين نظر فإن كان لا يتهم فيه قبل إقراره ، مثل أن يكون له بنت وابن عم فيقر لابن عمه بدين فإنه يقبل إقراره ، ولو كان إقراره لبنته لم يقبل ; لأنه يتهم في أن يزيد ابنته على حقها من الميراث وينقص ابن عمه ، ولا يتهم في أن يفضل ابن عمه على ابنته . قال : ويجوز إقراره لزوجته في مرضه إذا كان له ولد منها أو من غيرها ، فإن كان يعرف منه انقطاع إليها ومودة ، وقد كان الذي بينه وبين ولده متفاقما ، ولعل هذا الولد الصغير منه ، فلا يجوز إقراره لها .

واحتج من أبطل إقرار المريض للوارث بأن الوصية للوارث لما لم تجز ، فكذلك الإقرار في المرض ، ويتهم المريض في إقراره بالدين للوارث أنه أراد بذلك الوصية . واحتج من أجاز ذلك بقول الحسن : إن أحق ما تصدف به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ; لأنه في حالة يرد فيها على الله ، فهو في حالة يتجنب المعصية والظلم ما لا يتجنبه في حال الصحة ، والتهمة منفية عنه .

وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظن وقال : "إنه أكذب الحديث " .

وقال : "آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان " .

[ ص: 209 ] وقد قام الإجماع على أنه إذا وصى رجل لوارثه بوصية وأقر له بدين في صحته ، ثم رجع عنه أن رجوعه عن الوصية جائز ، ولا يقبل رجوعه عن الإقرار ، ولا خلاف أن المريض لو أقر لوارث نسخ إقراره ، وذلك يتضمن الإقرار بالمال وشيئا آخر ، وهو النسب والولاية ، فإذا أقر بمال فهو أولى أن يصح ، وهذا معنى صحيح ، وقد يناقض أبو حنيفة ، وهو المراد بقوله : وقال بعض الناس في استحسانه جواز الإقرار بالوديعة والبضاعة والمضاربة ، ولا فرق بين ذلك وبين الإقرار بالدين ; لأن ذلك كله أمانة ولازم للذمة . قال ابن التين : إن أراد الوارث فقد ناقض ، وإن أراد غيره فلا يلزمه ما ذكره البخاري .

واحتج أصحاب مالك بأنه يجوز إقراره في الموضع الذي ينفي عنه التهمة ، وذلك أن المريض يوجب حجرا في حق الورثة ، يدل على ذلك أن الثلث الذي يملك التصرف فيه من جميع الجهات ، لا يملك وضعه في وارثه على وجه الهبة والمنحة ، فلما لم يصح هبته في المرض لم يصح إقراره له ، ويجوز أن يهب ماله كله في الصحة للوارث ، وفي المرض لا يصح ، فاختلف حكم الصحة والمرض .

تنبيهات :

أحدها : من الغريب ما حكاه إمام الحرمين في كتاب "الوصايا " قولا أن إقرار المريض لأجنبي معتبر من الثلث ، والمشهور خلافه ، وأغرب منه ما حكاه العبدري عن أبي ثور أنه قدم الوصية .

ثانيها : اختار الروياني مذهب مالك : لا تقبل في المتهم وتقبل في غيره ، ويجتهد الحاكم في ذلك لفساد الزمان .

[ ص: 210 ] ثالثها : إذا قلنا بالمنع فالاعتبار بكونه وارثا بحالة الموت وقبل الإقرار ، واختاره الروياني ولا نظر إلى الحالة المتخللة بينهما اتفاقا .

ويتعلق بالمسألة فروع محلها كتب الفروع ، وقد شرحناها فيها ولله الحمد .

وما ذكره البخاري في البراءة من الدين والإقرار عن إبراهيم والحكم قد خولفا فيه في الإبراء والإقرار ، وقول مالك أنه إن اتهم بالميل إلى من أبرأه أو أقر له لم يجز ذلك . وقول الشعبي محمول على أنها لا تتهم بالميل إلى زوجها مثل أن يكون له منها الولد الصغير وشبه ذلك ، وكذا قول رافع في القرابة ، يحتمل أن يكون لا يتهم بميل إليها ولا ولد له منها .

وقد قال ابن بطال : لا خلاف عن مالك أن كل زوجة فإن جميع ما في بيته لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك ، وإنما يحتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنه تزوجها فقيرة وأن ما في بيتها من متاع الرجال ، أو في أم الولد .

وقول الحسن يخالف (قول ) مالك ; لأنه يتهم أن يكون أراد عتقه من رأس ماله وهو ليس له من ماله إلا ثلث ، فكأنه أراد الهروب بثلثي المملوك عن الورثة ، ولو أعتقه عند موته كان من ثلثه . وقال غيره من أصحابه : يعتق من الثلث .

وحديث : "آية المنافق " تقدم في الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية