التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
2618 2770 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا روح بن عبادة ، حدثنا زكرياء بن إسحاق قال : حدثني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أمه توفيت ، أينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال : " نعم " . قال : فإن لي مخرافا ، وأشهدك أني قد تصدقت [به] عنها . [انظر : 2756 - فتح: 5 \ 396]


ذكر فيه حديث أنس في قصة بيرحاء . وفيه : "بخ بخ ، ذلك مال رابح أو رايح " شك ابن مسلمة ، وقال في آخره : (وقال إسماعيل وعبد الله بن يوسف ويحيى بن يحيى عن مالك : رايح .

[ ص: 274 ] وحديث ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أمه توفيت ، أينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال : "نعم " . قال : فإن لي مخرافا ، وأشهدك أني قد تصدقت [به] عنها .

وقد سلف أيضا ، وقوله : (مخرافا ) . قال الدمياطي : صوابه مخرفا ، وكذا يرويه مالك في "موطئه " من حديث أبي قتادة ، والمخرف -بكسر الميم - ما يجتنى فيه الثمار . قال المهلب : إذا لم يبين الحدود في الوقف ، فإنما يجوز إذا كان للأرض اسم معلوم يقع عليها ويتعين به كما كان بيرحاء ، ولما كان المخراف معينا عند من أشهده ، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة ، وأما إذا لم يكن الوقف معينا ، وكانت له مخاريف وأموال كثيرة ، فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين في هذا . وقال ابن المنير : الوقف لازم (بالنية ) واللفظ المشار به للمقصود فقد يتلفظ باسمه العلم وبحدوده ، وقد يتلفظ باسمه المتواطئ خاصة ، وقد يذكر العلم ولا يذكر المحدود به .

والمخراف : الحائط ، وقد ذكره منكرا متواطئا ، لكنه قصد مكانا أشار إليه مطابقا لنيته ، وكلاهما لازم والترجمة مطابقة . ووهم المهلب في قوله : لا خلاف في هذا ، بل لا خلاف فيما أورده البخاري في أنه إنما يفرض لجواز الوقف ، وقد ثبت أن الوقف على هذه الصورة لازم له .

[ ص: 275 ] قال ابن بطال : وفيه أن لفظ الصدقة تخرج الشيء المتصدق به عن ملك الذي يملكه قبل أن يتصدق ولا رجوع له فيه ، وهو حجة لمالك في إجازته للموهوب له وللمتصدق عليه المطالبة بالصدقة وإن لم يحزها حتى يحوزها ، وتصح له ما دام المتصدق والواهب حيا ، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيون والشافعي أن اللفظ بالصدقة والهبة لا يوجب شيئا لمعين وغيره حتى يقبض ، وليس للموهوب له ولا للمتصدق عليه المطالبة بها على ما سلف في كتاب : الهبات .

وفي هذا الحديث دليل أن الكلام بها قد أوجب حكما فله المطالبة للمعين على ما قاله مالك ; لقوله : (وإنها صدقة يا رسول الله ، فضعها حيث أراك الله ) . فلم يجز لأبي طلحة الرجوع فيها بعد قوله : إنها صدقة يا رسول الله . لأنه قد صح إخراجه لها عن ملكه بهذا اللفظ إلى من يجوز له أخذها .

وفيه : أن من أخرج شيئا من ماله لله ولم يملكه أحدا ، فجائز أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير ، على ما تقدم قريبا في باب : إذا وقف شيئا ولم يدفعه إلى غيره فهو جائز ، وأنه يجوز أن يشاور فيه من يثق برأيه ، وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى ، كما قال بعض الناس : معنى قول الرجل : لله ، وفي سبيل الله كذا دون كذا ، ألا ترى أن الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبي طلحة ، ولو سبلها في وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره .

وذهب مالك والشافعي إلى أن من حبس دارا على قوم معينين أو تصدق عليهم بصدقة ولم يذكر أعقابهم ، أو ذكر ولم يجعل نقدها بعدهم مرجعا إلى المساكين أو إلى من لا يعدم وجوده من وجوه البر فمات المحبس عليهم وانقرضوا ، أنها لا ترجع إلى الذي حبسها

[ ص: 276 ] أبدا ، ورجع حبسا على أقرب الناس بالحبس يوم رجع لا يوم حبس ، ألا ترى أن أبا طلحة جعل حائطه ذلك صدقة لله تعالى ولم يذكر وجها من الوجوه التي توضع فيه الصدقة أمره الشارع أن يجعلها في أقاربه ، وكذلك كل صدقة لا يذكر لها مرجع تصرف على أقاربه للتصدق بهذا الحديث ، وهذا عند مالك فيما لم يرد به صاحبه حياة المتصدق عليه ، فإذا أراد ذلك فهي عنده عمرى ترجع إلى صاحبها بعد انقراض المتصدق عليه . ولمالك فيها قول ثان : إنه إذا حبس على قوم معينين ولم يجعل لها مرجعا إلى المساكين أنها ترجع ملكا إلى ربها كالعمرى ، قيل لمالك : فلو قال في صدقته هي حبس على فلان هل تكون بذلك محبسة ؟ قال : لا ; لأنها لمن ليس بمجهول ، وقد حبسها على فلان فهي عمرى ; لأنه أخبر أن تحبسها غير دائم ولا ثابت ، وأنه إلى غاية ، ولم يختلف قوله : إذا قال : هي حبس صدقة لأنها لا ترجع إليه أبدا ، والألفاظ التي ينقطع بها ملك الشيء عن ربه ، ولا تعود إليه أبدا عند مالك وأصحابه أن يقول حبس صدقة ، أو حبس على أعقاب مجهولين مثل الفقراء والمساكين ، أو في سبيل الله . فهذا كله عندهم مؤبد لا ترجع إلى صاحبها ملكا أبدا ، وأما إذا قال : حياة المحبس عليه ، أو إلى أجل من الآجال . فإنها ترجع إلى صاحبها ملكا أو إلى ورثته وهي كالعمرى والسكنى . قال ابن المنذر : واختلفوا في الرجل يأمر وصيه أن يضع ثلثه حيث أراه الله ، فقالت طائفة : يجعله في (سبيل ) الخير ولا يأكله ، هذا قول مالك ، وبه قال الشافعي وزاد : ولا يعطيه وارثا للميت ; لأنه إنما كان يجوز له

[ ص: 277 ] منه ما كان يجوز للميت . وقال أبو ثور : يجوز أن يعطيه لنفسه أو لولده أو لمن شاء ويجعله لبعض ورثة الميت ، وليست هذه وصية للميت إنما هذا أمر الموصي أن يضعه حيث شاء ، وهو قول الكوفيين غير أنهم قالوا : ليس له أن يجعلها لأحد من ورثة الميت ، فإن جعله لبعضهم فهو باطل مردود على جميع الورثة .

وفيه : أن من تصدق بشيء من ماله بعينه أن ذلك يلزمه ، وإن كان أكثر من ثلث ماله ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لأبي طلحة هو ثلث مالك ؟ كما قال لأبي لبابة ، وقال لسعد : "الثلث والثلث كثير " .

التالي السابق


الخدمات العلمية